}
عروض

قصائد أحمد الملّاح: مواجهة الاغتراب بالطفولة

عمر شبانة

23 فبراير 2025


مثل كثير من الشعراء الفلسطينيين، وحتّى العرب، ممّن يكتبون بلغات غير العربية، فيكتبون غربتَهم واغترابهم وهموم وطنهم الأصليّ، وهموم الإنسان في هذا الوطن، ولكن بلغة "الآخر"، وبمشاعر وعواطف وأفكار فلسطينية تمامًا... هكذا يكتب الشاعر الأميركي من أصول فلسطينية أحمد الملّاح. يكتب فلسطين، ويكتب عنها ولها. وأحمد الملاح شاعر من فلسطين، مقيم في الولايات المتّحدة الأميركية منذ عقدين. يدرّس الكتابة الإبداعية في جامعة بنسلفانيا. تعرّض للاضطهاد والملاحقة مثل كثيرين من أساتذة الجامعات الأميركية، الفلسطينيين والعرب وغيرهم، بسبب مواقفه المناهضة للعدوان الصهيوني على غزّة وقبلها. وهو يكتب الشعر باللغة الإنكليزية، صدرت له مجموعتان، الأولى بعنوان "إنكليزية مُرّة" (2019) عن دار جامعة شيكاغو، والثانية بعنوان "حدّ الحكمة" (2023) عن دار وينتر إديشنز. وكتاب "لغة ليست واحدة"، هو مختارات من المجموعتين.
هكذا يكتب في المجموعة الشعرية الأولى له التي تُترجم إلى العربية بعنوان "لغةٌ ليست واحدة"، وترجمتها عن الإنكليزية الناقدة والمترجمة اللبنانيّة هدى فخر الدين، وصدرت حديثًا عن منشورات "مرفأ" في بيروت... يكتب بلغات عدّة. وفي قصائد كتابه "لغة ليست واحدة"، ثمّة الكثير من لغة الذكريات والحنين والأحلام، وثمّة أيضًا مشاهدات بلا حدود، بين الحياة في أميركا وحياة فلسطين، لكن شعور الانتماء الفلسطيني هو الغالب على نصوص الكتاب، انتماء يتبدّى في صور شتّى، للمكان والزمان وما بينهما تاريخ يجري تقطيره وتكثيفه في لغة شعرية هي اللغة التي يحب، وليست اللغة "الإنكليزيّة المرّة" كما في عنوان ديوانه المذكور أعلاه.   

بين ثقافتين ولغتين متصارعتين

بالنسبة إلى الشاعر، فـ"اللغة ليست واحدة"، لأنه يعيش - ابتداءً- في لغة وثقافة غريبتين عنه، رغم نشأته وانخراطه فيهما، ففي القصيدة التي يحمل الكتاب عنوانها، وبقصيدة في عنوان فرعيّ هو "إنكليزيّة مُرّة"، يبدأ قصيدته بتصوير شعور التمزّق بين لسانين/ لغتين وعالَمَين، يكتب:
تحزُّ فيّ لغةٌ ليست واحدة،
فأجد هذا اللسان الإنكليزيّ
الذي أستعمله كلّ يوم مملًّا،
حتى في الشِّعر
يحزّ فيّ، يقطعني في منتصف الجُملة،
في منتصف الشعور.
إنّه نوع من الشعور بالانفصام بين شخصين وهويّتين، انفصام بين ذاتَين، فلسطينية الجذور، وأميركيّة الراهن، وانفصال عمّا يحيط به من بشر ورموز للهويّات المتصادمة في كلّ شيء، ولكي تكتمل صورة المشهد القاتم، فإنّ هذا الشخص (بطل القصيدة)، لا يفهم الأصوات، فيصرخ لنفسه:
فلأتَجاهل هذه الكلمات الخاويات
وأمشي في الشارع رافعًا يدي
مُحَيّيًا أناسًا أعرف أنّي لا أعرفهمْ...

وتستمر الغربة، وهو يمشي في شوارعَ لا يملك فيها سوى أصداء تتملّكه، تخترق لغته ولسانه الذي يريد حبسَه خلف أسنانه، ويرى جوازات سفر قديمة وجديدة تتراكم فوق كتاباته، أدوات تعبيره، يبحث في اللغة عن مداخله إليها، ومخارجه منها، يحاول امتلاك صوته أو بعض صوته فيها. وهنا يرتبط الصّوت بمكان ما، هو المكان الأول، وهو بالتأكيد "ليس هنا، حيث ما أملكه ليس لي"، إنه إذًا مكان "زمن مضى وسنوات كثيرة" مضت، ونجا خلالها، نجا من "اللسان الإنكليزيّ" الذي يطعنه، فهو "اللسان الغريب" الواعد بلغة. وظل السعي إلى لسان يثق به، لذا فهو يتساءل في غير صيغة "هذا اللسان المختلّ/.../ متى سيعيلني؟".
وفي مسيرة اغترابه بين عالمَين وثقافتين، يوزّع الشاعر نفسَه في رحلات في الزمان والمكان، ما بين زمانين ومكانين، يقارب الذكريات أكثر مما يقترب من الراهن بحروبه وضحاياه، يرسم ويصوّر، يتذكّر مشاهد من طفولته، مع العائلة، الأمّ والأبّ، مع رفاق الصبا، في المقابر والملاعب، مع الأطفال والقبض على أعشاش العصافير، مع البيوت التي صارت أبوابها صدئة، والسيّارات التي باتت بلا زجاج لنوافذها، هذا كلّه وغيره يستعيده من عوالم طفولة غابت ملامحها وحلّت في مكانها "الذكريات" المؤلمة. فهو الآن في عالم شديد الاختلاف، شديد البرودة، لا يمتّ لذلك الماضي بأيّ صِلة.





وما بين عالم الذكريات والتأمّلات، يكتب الملّاح بأساليب عدة، يكتب قصيدة هي ما بين الشعر والنثر والحكاية الشعرية، بالسرد والتصوير لكلّ ما تقع عيناه عليه من مشاهدات في واقعه. يكتب في الحنين والحاجة إلى لقاء الأرض:
أحتاج
أن أكون ھناك
على الأرض
لكي
أقرأ
الأرضَ.
يكتب عن البئر والتين اليابس المحفوظ في البال في أيام الخريف حيث "يبقى الجذع عاريًا، الجذع الذي حمل ما يفضح الشجرة: أعجوبة أوراقها..."، وتحضر صورتان متناقضتان و"هو تائه بين العالم القديم والقارّة الأميركية"، هما عالمان يتباعدان بمعدّل سنتمترين كلّ سنة، الوطن يتحرّك من حيث تركته، وأنا على الرغم من خيط الحنين أتسارع/ أسابق نفسي...". وتحضر بيت لحمٍ: "يسوع النبيّ الإله في ورشة كما صنع النجّارون: الكراسي والطاولات/ يتخفّى ريثما تشيع الكلمة/ غياب المعادن/ لا بدّ من الخشب/ اليباس الوحيد القابل للاشتعال". بمثل هذه التفاصيل يؤثث الشاعر بعض قصائده.
وفي مشهد تصويريّ يعكس تراجيديا اعتداء البشر والحياة الحديثة على الشجر، في أميركا، والتضحية بالطبيعة لمصلحة  يكتب عن "الشجرة الأمّ في فيلادلفيا" حيث "في رقعة خضراء/ مقبرة قرب النهر تغرّر بالخطى/ آثار كثيرة تُترك هناك وحيدة بلا أقدام.../ شجرة مقطوعة ليمرّ الطريق/ جذعها عقبة أمام الأحياء الذين يحاولون تجاهلها كأنها ليست موجودة هناك/ لكنّها... تعرّج مساراتهم.../ تجبرهم على القفز... طائرين في الهواء...".  

رحلة تصويرية 

الرحلة الأهمّ- ربّما- في هذه القصائد، هي رحلة من أميركا إلى فلسطين، عبر الأردنّ، جسر الأردنّ، وإلى بيت لحم تحديدًا حيث "الرحلة بين عمّان وبيت لحم تستغرق ساعتين"، حين يجد المسافر نفسه بين اختيار واحدة من الجنسيّتين للعبور، هل يسافر بجنسيّه الأميركية "جواز السفر الأميركيّ الأزرق"، أم ما يسمّيه "الشيء الآخر"، أي جواز السلطة الفلسطينيّة... "مذهّب/ مشوّه/ ملطّخ بلونه"، ويصرخ "أيهما سيُسعفني"، وحين يستخدم هذا الجواز الأخير، يكتشف أن ثمّة عقبات في رحلته. لكنّ الرحلة في حدّ ذاتها تنطوي على تفاصيل حميمة وأخرى مؤلمة، حيث نقرأ حكاية الانتقال عبر الجسر، والمشاهد المحيطة، إذ تدور كاميرا "ما أخضر هذا المشهد/ وما أكثرَه زيتونًا"، وفي أريحا ساعة الانتظار "فوق الجدول المنهك/ ذاك الذي كان يومًا/ نهر الأردن"، والمستوطنات، ويافطة القدس، ومسارات ملتوية وسفوح وعرة، والقرى الفلسطينية المبعثرة، والمدينة المقدسة، ونداء وادي النار والصدى، وفي الطريق إلى بيت لحم: صوت المؤذن/ جلبة الجزّار/ دم وعظم/ سيارة وموقف/ محرّك مكشوف/ نسيم يحفّ بالأذرع، يعبث بالشعر/ السفح والمنحدر، المنعطف والمطبّ/ دكّان حلويات صغير و[عند المعبر/ عند النقطة تلويحة فعبور، الانتظار والأسئلة]. في البال أسلاك شائكة وحجارة [في الذاكرة حديد صدئ وقضبان خضراء تورق]، وعند مدخل وادي النار/ موظّف يلوّح لنا بالموت.. "تَلوحُ لنا "الصخرة" ألَقًا في العيون... و"عند بوّابة بيتنا التي صارت خضراءَ الآن/ أتذكّر لونها القديم، ترابيًّا باهتًا"، والتعامل مع السكّان والأهل بعُملة غريبة... وذلك كلّه غريب واغتراب.
هي رحلة تأتي بعد غياب عشر سنوات، وعودة الغائب المغترب بالجوع والتوق للوطن، يريد الإحاطة به وتوثيق ذكرياته، تصوير النباتات والحجارة والأدراج والصحون... "ليأخذها إلى أميركا لتشهد عليه..."، يأخذ صورته بالكوفيّة، صورته مع الأم والأب على الأريكة، صُوَر: أمّ وابنها معًا/ الكنبات الباليات حيال الجدران الشاحبة البيضاء، الأمّ تقرأ الجملة نفسها بصوتٍ عال، يخاطبها "يدُكِ في يدي/ شيء ما كان بيننا أو كلّ شيء/ والعالَم عندكِ قد مضى/ وصندوق الصور الباهت هذا/ ما زال مقفلًا كصِباكِ الذي لا أعرف منه شيئًا/ صغيركِ أنا ابنُ سنَواتكِ العتيّة/.../ صور بيضاء وسوداء/ ذراعاك المكشوفان في الشمس يبوحان/ ويدكِ الواهنة النحيلة حائرة على الطاولة/.../ كلّ شيء مضى ولا حاضرَ إلّا سرُّك التعب/ وأوردة وعروق تتفجّر دمًا...".
صور وطنه، لغته وثقافته، ولسانه الأول من طفولته، يحملها معه ليحتمي بها من صقيع الغربة في البلد الغريب.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.