}
عروض

"هزيمة غريبة": في إذعان الغرب لسحق غزة

بوعلام رمضاني

24 فبراير 2025


ديدييه فاسين شجاع حقيقي ومغامر عرف كيف يختار كلماته لتجنب عقاب المكارثيين الفرنسيين. فعل ذلك انطلاقًا من عنوان كتابه "هزيمة غريبة: إجماع حول سحق غزة". وكما هو ملاحظ، لم يكن اختياره كلمة "سحق" بدل كلمة إبادة محض مصادفة. بهكذا مقاربة، يكون المؤلف قد تجنب أقسى عقاب، وهو العقاب المرادف لتهمة معاداة السامية مهما اتخذ من احتياطات قصوى كما سنرى على لسانه لاحقًا. صاحب الكتاب الصادر مؤخرًا عن دار "لاديكوفرت" الباريسية، أستاذ في جامعة برينستون الأميركية، ومعهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية، كما يعمل في كوليج دو فرانس (كوليج فرنسا) الشهير الذي يدير فيه قسم "مسائل أخلاقية ورهانات سياسية في المجتمعات المعاصرة".
يمثل كتاب "هزيمة غريبة: إجماع حول سحق غزة" الاستثناء، أو الشجرة التي لا يمكن أن تغطي على غابة الكتب الفرنسية التي يدعم أصحابها إسرائيل كـ"ضحية للإرهاب الفلسطيني"، كما يقولون. من بين هؤلاء جيل كيبال، الذي يستضاف دوريًا في القنوات الإذاعية والتلفزيونية، وكتابه "انقلاب العالم بعد السابع من أكتوبر"، الصادر عن دار بلون، ويباع في المكتبات العمومية والخاصة، وفي المراكز التجارية (لوكلير، وكارفور)، خلافًا لكتاب ديدييه فاسين، الذي رأيته بالمصادفة في مكتبة صغيرة تقع في قلب حي "سان دونيه المعروف" بسكانه المغاربيين والأفارقة، وبالتالي الحي الذي يمثل الانغلاق الهوياتي، وليس التعددية الثقافية التي تعد "خطرًا على صفاء الهوية الفرنسية"، بحسب إريك زمور.




كتابه الصغير الحجم الذي جاء في 187 صفحة من القطع الصغير، والصادر بغلاف محايد من دون صورة تجسد سحق الفلسطينيين، وليس إبادتهم، قنبلة في معسكر الصهاينة المتطرفين الذين جعلوا من السابع من أكتوبر مبررًا لسحق شعب بأكمله على مرأى ومسمع من أسرة دولية غربية تسمح له بالإستمرار في وحشيته بزعامة الولايات المتحدة الحليفة من دون شرط، أو قيد، خلافًا لما ترفعه من خطاب الوساطة الأقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة. الأستاذ فاسين الذي أعلن منذ البداية عن تنديده بهجمات السابع من أكتوبر، لم يمسك العصا من الوسط، كما كنا نعتقد، وأقواله ومعلوماته الثرية المستقاة من مصادر قليلة مستقلة عن الحكومات الغربية، وتبنيه أطروحاتها، تصب كلها في مصلحة الشعب الفلسطيني، الذي يرزح تحت نير الاستعمار الصهيوني الاستيطاني منذ 1948. خلافًا لجيل كيبال، وفريدريك لانسال، والمحللين السياسيين الفرنسيين الذين يرفضون وضع السابع من أكتوبر في سياق البطش الوحشي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني منذ عقود على أيدي قادة صهاينة يمينيين ويساريين، يؤكد المؤلف فاسين عدم تناسب وتناظر طبيعة مخلّفات هجمات السابع من أكتوبر بمثيلاتها الإسرائيلية التي طاولت أفراد المنظمات الدولية، والجمعيات الخيرية، والأطباء والمسعفين، وقوات حفظ السلام، باسم ملاحقة "إرهابيي" حركة حماس، وحزب الله، ناهيك عن الوحشية البشعة التي قتل فيها آلاف الرضع والأطفال والنساء والرجال الفلسطينيين بشكل يثبت صحة فرضية الإبادة التي أكدتها محكمة العدل الدولية. هذه الوحشية التي يراها نتنياهو انتصارًا باهرًا، وبالتالي هزيمة للإرهاربيين الفلسطينيين، ما هي إلا نتيجة إجماع دولي غربي على سحق كل الفلسطينيين، وعلى إنكار حقوقهم في أرض سلبت منهم بقوة الحديد والنار.

دليل الإذعان الغربي

ديدييه فاسين وكتابه "هزيمة غريبة: إجماع حول سحق غزة"


في كتابه الذي صدر بعد سنة من 7 أكتوبر، يؤكد فاسين في المقدمة أن مرور الأيام أثبت أن تواطؤ الغرب في سحق غزة لا يحتمل أي تشكيك في ظل صمت جزء كبير من البشرية: "الأمر الذي سيحتفظ به التاريخ ويذكره"، على حد تعبيره. فاسين الذي استعمل تعبير "هجمة السابع من أكتوبر القاتلة"، وليس "الإرهابية" (الأمر الذي تركه يتلقى رسائل شتم ووعيد، كما قال)، انطلق في كتابه من إدانة 7 أكتوبر، ليخلص في النهاية بإدانة أقوى وأكبر، وهي الإدانة المرادفة لهزيمة أخلاقية غربية غير مسبوقة، رغم كل ما يقال عن تدني أخلاق مرتكبي هجمة 7 أكتوبر التي وضعها في سياق تاريخي يعيد إلى الأذهان مقولة النائب الفرنسي الوسطي عن حركة الديمقراطيين (مودام) جان لوييه بورلونجس: "لا عذر لعنف حركة حماس، لكن للسابع من أكتوبر أسباب". صاحب الكتاب القنبلة الذي لم ترّوج له القنوات التلفزيونية التابعة للوبيات المكارثيين حتى لا تنفجر في وجوههم، وقف عند عقود الاستيطان الإسرائيلي المستمر في فلسطين، وعند حلقات مسلسل التذليل والتنكيل والقمع بشتى الأشكال المنافية لأبسط قواعد الإنسانية. السابع من أكتوبر، أضاف فاسين: "ليس إلا تاريخ عنف سبقه تاريخ عنف إسرائيلي أقدم وأشمل وأقسى. وما يحدث اليوم ما هو إلا حلقة جديدة في تاريخ سحق شعب بأكمله ومحو ذاكرته". تواطؤ الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، المزّود الأول لإسرائيل بأحدث الأسلحة الفتاكة، متبوعة بألمانيا، وفرض الرقابة (التي وصفناها بالمكارثية الفرنسية) على الأصوات التي تغرد خارج السرب الإعلامي الصهيوني، حقيقة لم يعد يتحملها مؤلف الكتاب، مع تزايد البطش بالشعب الفلسطيني: "كتابي مساهمة متواضعة لرفع الرقابة الذاتية، وتحدي الرقابة الإعلامية والإتهامات الباطلة (معاداة السامية) التي تعرضت لها. لقد بدا لي من الضروري مقاومة المرض المزدوج (الرقابة الذاتية والرقابة السياسية والإعلامية)، وذلك بنشر كتاب يضرب في صلب الرهانات السياسية والمسائل الأخلاقية في المجتمعات المعاصرة التي أقوم بتدريسها، والتي أضحت مثالًا مدرسيًا في سياق الهزيمة الأخلاقية التي مني بها الغرب المؤيد لإسرائيل من دون شرط، أو قيد".

سحق شعب... وليست أزمة إنسانية
في كتابه الصغير الحجم، الذي كتبه للرد على المكارثيين الفرنسيين (صحيفة "لوموند" اليسارية العريقة هاجمته مؤخرًا، الأمر الذي أحزنه على حد تعبيره في رسالة إلكترونية وصلتني مؤخرًا)، يثبت فاسين في تسعة فصول صحة السحق العام الذي تعرضّ له الشعب الفلسطيني، عسكريًا وسياسيًا وإعلاميًا وفكريًا، بالشكل الذي يكشف اصطفافًا غربيًا مبرمجًا لا يطاوله الشك. تجنبًا لملاحقة إعلامية وقانونية واردة، تجنب المؤلف تعبير "الإبادة" تاركًا للقانونيين والمؤرخين الاعتراف بها، أو إنكارها، لكنه رفض استعمال تعبير الأزمة الإنسانية التي يروج لها الذين تعهدوا قبل ثمانية عقود بعدم تكرارها. أسّسّ الكاتب رفضه لتعبير الأزمة الإنسانية بقوله إن "العالم الغربي وقف يتفرج على السحق التدريجي والمبرمج للأراضي الفلسطينية المحتلة منذ أكثر من نصف قرن". سحق الفلسطينيين لم يبدأ بعد السابع من أكتوبر في تقدير الكاتب فاسين، وتواطؤ الغرب مع إسرائيل يعود إلى تحالف استراتيجي قديم وغير مشروط، وهو الأمر الذي تأكد مجددًا بعد 7 أكتوبر باسم محاربة الإرهاب الإسلامي. فكر غربي مكارثي شامل، راح يضيف المؤلف، لاحق أمثاله الذين اتهموا بمعاداة السامية لمجرد تنديدهم بسحق الفلسطينيين، وليس باستعمال تعبير الإبادة حتمًا، وهو الفكر الذي حال دون تنظيم جلسات حوار ومعارض، ودفع أصحابه إلى منع محاضرات وقمع طلبة يهود وغير يهود من التظاهر واللجوء إلى قوات الأمن لتفريقهم في حرم الجامعة.

قمع المؤيدين لحرية فلسطين
لم يسحق الشعب الفلسطيني عسكريًا بطرق وحشية بشعة في أرضه التاريخية فحسب، وطاول السحق المعنوي مناصريه في الغرب، وفي فرنسا وطنه، بعد أن أضحت حرية التعبير في بلاد فولتير القائل: "أختلف معك، لكن أضحي بنفسي لكي تعبر عن رأيك بحرية"، ممنوعة حفاظًا على أمن إسرائيل. الذين يسحقون الشعب الفلسطيني يعدون مجرمي الذاكرة على حد تعبير المؤرخ الراحل الكبير بيار فيدال ناكيه، مؤيد نضال الشعب الجزائري في الجزائر الفرنسية، وهو نفسه النضال الذي يقتدي به اليوم الشعب الفلسطيني المسحوق منذ عام 1948 لنيل حريته.




السكوت على سحق الفلسطينيين، وقمع مؤيدي فلسطين في الغرب الداعم لإسرائيل من دون شرط، أو قيد، لا يتوقف على اليمين واليمين المتطرف في تقدير المؤلف، وحتى اليسار متواطئ بدوره، وانقسامه على نفسه لا يساعد الفلسطينيين، وكثير منهم يرفضون مقارنة التمييز العنصري الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني بمثيله الذي تعرض له السود في جنوب أفريقيا، والذي انتهى بحل سلمي بين الطرفين المتصارعين بقيادة نيلسون مانديلا، وفردريك دو كليرك. أنصار إسرائيل في الغرب يسحقون الفلسطينيين أيضًا برفضهم مقاطعتها تجاريًا، ومعاقبتها دوليًا، الأمر الذي تطلب إدانة فرنسا من طرف المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.

انتصار المهزوم آجلًا
في خاتمة الكتاب، يفاجئ مؤلفه القراء بنهاية متفائلة لا تسعد أنصار سحق فلسطين كما يتم في هذه اللحظة التي يصر فيها توراتيو الصهيونية الدينية على تهجير الفلسطينيين وإخراجهم(1) من غزة بعد الطلب منهم مغادرتها قبل قتلهم. مستعينًا بمقولة رينهارت كوسليك، صاحب كتاب "تجربة التاريخ" الصادر عام 1997 عن دار غاليمار في باريس، مترجمًا إلى اللغة الفرنسية من اللغة الإنكليزية: "في المدى القريب، يمكن للمنتصرين صنع التاريخ، لكن على المدى البعيد، سيكون الانتصار حليف المنهزمين اليوم". سيكون التاريخ في صالح مهزومين، يضيف فاسين، لتسجيل قصة انتصار شعب تعرّض للتشريد والسحق والتهجير والتطهير منذ عام 1948. ستولد لغة جديدة من رحم عقود من النضال والآلام والآمال المجنونة، ولن تستعمل صيغة معاداة السامية عند المطالبة بالكرامة والعدالة. لن يتم التفريق بين قيمة حياة إسرائيليين مقارنة بمثيلتها حينما يتعلق الأمر بآخرين فلسطينيين، وسيثبت أن تجريد العدو من إنسانيته هو أبشع أشكال افتقاد الإنسانية عند الذي يقوم به. المستقبل الذي سيكون في صالح المنهزمين والمظلومين اليوم، سيشرق كفجر بهيج ومنير خرج من ليل طويل، وسوف لن يكون مستقبل أكاذيب وأحقاد، بل مستقبل حقيقة وأمل كما كتب الشاعر الراحل رفعت العرعير (1979 ــ 2023). إنه الشاعر الذي قضى يوم السادس من كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي مع شقيقته التي لجأ إليها مع شقيقه وأربعة من أحفاده وحفيداته. وتكريمًا للراحل وللشعب الفلسطيني البطل، أستعيد قصيدته الأخيرة "إذا كان لا بد أن أموت فلا بد أنت أن تعيش لتروي حكايتي":
إذا كان لا بد أن أموت
فلا بد أن تعيش أنت
لتروي حكايتي
لتبيع أشيائي
وتشتري قطعة قماش
وخيوطًا
(فلتكن بيضاء وبذيل طويل)
كي يبصر طفل في مكان ما من غزة
وهو يحدق في السماء
منتظرًا أباه الذي رحل فجأة
دون أن يودع أحدًا
ولا حتى لحمه
أو ذاته
يبصر الطائرة الورقية
طائرتي الورقية التي صنعتها أنت
تحلق في الأعالي
ويظن للحظة أن هناك ملاكًا
يعيد الحب
إذا كان لا بد أن أموت
فليأت موتي بالأمل
فليصبح حكاية.

هامش:
(1) مقال أصدرته صحيفة "لوفيغارو" تحت عنوان "نعطيكم فرصة للمغادرة... إنها أرض إسرائيل". باريس، 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2024.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.