صدر كتاب "كاتبٌ لا يستيقظُ من الكُتب"، للناقد والمترجم المغربي محمد آيت لعميم سنة 2023 عن دار أكورا بالمغرب، وهو مجموعةٌ من الحوارات المترجمة لكتّاب مرموقين مثل أمبرتو إيكو وتزفيتان تودوروف ورولان بارت وعبد الفتاح كيليطو. فيما يلي أريدُ ملاحظة كيفَ يُصبِحُ النصّ المترجم نصًّا أصيلًا في سياقه الجديد، وكيف دخلَ آيت لعميم في حوارٍ جديد مع قرّائه ولم يظلّ مجرّد وسيطٍ شفّاف بين الكاتب الأصلي والقارئ العربيّ.
مناصات الكتاب
في كتاب "كاتبٌ لا يستيقظُ من الكُتب" مجموعة من المُناصات اللافتة، والجديرة بالتوقّف عندها طويلًا، تسيّجُ الحوارات بعلامات محمد آيت لعميم الدّالة وتؤكّد انضمامها إلى إطار جديد له رؤيته ومشروعه الثّقافي.
أوّلُ هذه المُناصات هو اسم الباحث والمترجم محمد آيت لعميم (معدًّا ومترجمًا)، صديق "المتنبّي -الروح القلقة والترحال الأبديّ" في عوالم القراءة والكتابة. وهو "المترجم كاتب الظلّ" في حين، و"الكاتبُ ظلُّ الكتابةِ" في حين آخر. وهو صديق "بورخيس أسطورة الأدب" و"بورخيس صانع المتاهات". وصاحب الكثير من الأعمال الأصيلة والمترجمة.
وثاني هذه المناصات هو العنوان البديع "كاتبٌ لا يستيقظُ من الكتب". يبتدئُ العنوان بالاسم "كاتبٌ". من هذا الكاتب؟ إنَّهُ غير محدد، فقد جاء الاسم "كاتب" نكرة؛ إنَّهُ يدلُّ على الكاتب بصفة عامة مشروطًا بالصّفة (لا يستيقِظُ من الكتب). ويدلُّ على الكُتَّاب المرموقين الذين ترجم الأستاذ آيت لعميم حواراتهم، فإن ما يوحد هؤلاء الكتاب هو فعل الكتابة والقراءة "إذا لا يخلو حوار من الإشادة بفعل القراءة وبأهمية الكتب في حياة الكاتب" (ص 5). كما يدّلُ على الكاتب صاحب الكتاب نفسه محمد آيت لعميم. وتعبّر استعارة "لا يستيقظُ من الكتب" عن العيش داخل الكتب وقوّة الشّغف والتعلّق بها. كما يجمع العنوان بين ثنائية الكتابة (من خلال كلمة كاتب) والقراءة (من خلال كلمة الكتب)، فالكتابة توأم القراءة، وكما قيل في كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ: "من لم يحسن الاستماع لم يحسن القول".
ثالث المُناصات هو مقدّمة المترجم، التي أول ما يستوقفنا فيها أن هذا العمل ثمرةُ أكثر من عشرين سنة، بل ما يقارب الثلاثين سنة، فمنها مقال لجوليا كريستيفا بعنوان "استعجال التمرد" نشر في مجلة "المدى" سنة 1997، وعندما نغوصُ فيه نُدرك أنّ هذه الحوارات أُعدّت في النّهاية لتكونَ حوارًا واحدًا متعدّدًا، متكاملًا ومنسجمًا، ونُدرك أنّ خلف هذا العمل رؤية كاتب قبل أن تكونَ رؤية مترجم، وأنّ خلفه فلسفة عميقة في الكتابة والقراءة، وليسَ مجرّد تحصيل مجموعةٍ من النّصوص الميتة ولصقها لتخلُق كائنًا غريبًا.
ورابع هذه المُناصات هي الاقتباسات التي تقابلُ القارئ قبل كلّ حوار، وهي مقتبسةٌ من الحوار وعائدةٌ إلى صوت الكاتب المحاوَر، وتشبه تلك القطع الصّغيرة التي تسبق حوارات البودكاست وأنواعًا بصريّة أخرى، عن طريق المونتاج، ونحنُ نعرف ولع آيت لعميم بالسينما وتقنياتها. لتؤدّي وظيفة إغرائية، عن طريق الاستباق.
في مديح الكتاب والقراءة
جمع الباحث آيت لعميم مجموعةً من الكتّاب الكبار على طاولة كتابه "كاتبٌ لا يستيقِظُ من الكتب"، هذا الكاتب هو كلّ كاتب منهم، أو لنقل هو الكاتب النّموذجي أو ما يجبُ أن يكون عليه الكاتب. وكلّ واحدٍ منهم يدلي بعصارة تجربته ورؤاه الخاصة ويفسّر علاقته الحميمية بالكتاب.
إنّها، كما يقول آيت لعميم في المقدّمة، "تتمتع بالشمولية وتغطية المشاريع الكتابية لكل مؤلف على حدة، مما يجعلها توفر للقارئ نظرة شاملة على التحولات التي عرفها كل كاتب، وتكشف أسرار هذه التحولات، إضافة إلى أنها حوارات ذات طابع سيري، بحيث نصادف فيها معطيات حول الكاتب، تعمل على إضاءة بعض مشاغل الكتابة لديه، وتفسر القطائع التي صاحبت هؤلاء الكتاب عبر مسارات الكتابة ومنعرجاتها" (ص 6).
بلاغة التّرجمة
يشعرنا محمد آيت لعميم أن الكاتبَ ذا اللسان الآخر يتحدّث إلى القارئ العربيّ بشكل مباشر، وبسلاسة، كأنه يتملّك اللسان العربيّ. وهذه هي بلاغة التّرجمة: فمن ناحية اللغة (أو فصاحتها) يعبّر آيت لعميم بلغة انسيابية وقويّة تمتثل للتركيب والأسلوب العربيين؛ ومن ناحية المعنى (أو البيان) فمحمد آيت لعميم استطاع إيصال أفكار هؤلاء الكتّاب بكلّ سلاسة ووضوح، ومن الناحية التداولية يوسع أفق قارئه الثقافي والمعرفي ويحرضه على القراءة والكتابة، وقد صرّح ببلاغة ترجمته الفعلية أو الإقناعية حين قال في المقدّمة إنّ هذه الحوارات "تفتح شهية القارئ للعودة إلى أعمال كلّ كاتب. إنّ وظيفة هذه الحوارات هي وظيفة الاشتهاء، فكأنّها مقبّلات لمأدبة فاخرة منتظرة" (ص 7).
بلاغة الحوار
لحوارات الكتّاب في كتاب "كاتب لا يستيقِظُ من الكتب" بلاغة خاصّة عبّر عنها آيت لعميم في المقدمة بقوله: "لدي ميل وشغف بالحوارات مع الكتاب الكبار، لأن الحوار جنس أدبي حي، ينبض بالأفكار الطازجة، ويسمح للكاتب أن يتحدث عن تجربته وكتبه بنوع من الحيوية المضيئة، إذ الأفكار التي يسترسل في التصريح بها تتمتع بذكاء اللحظة وبالعثور على الجمل المناسبة، أحيانًا يتمكن الكاتب من اكتشاف صيغ وعبارات موجزة تصبح جملا خالدة لا تنسى، إضافة إلى أن الحوار يتمتع بالقدرة على التكثيف والإيجاز، وتقديم مفاتيح لفتح مستغلقات الكتابة، وفهم مقصديات الكاتب من أعماله" (ص 6).
إنّ علاقات الحوار، أو التواصل، معقّدة في كتاب آيت لعميم ومتشابكة. فهناك أوّلًا الحوار بين المحاور والكاتب. وهو حوارٌ بمثابة جسر يستهدِفُ القارئ الضّمني للكاتب؛ "لكنّنا لا نقيمُ في الجسور"، فيتلاشى الحوار الفعليّ بين المحاور والكاتب، ليغدو أسلوبية في كتابة الكاتب، تشبه المحاورات الأفلاطونية، وليُصبِح صوت المحاور محفّزًا على تلفّظ الكاتب، ومستفزًّا له، وناقلًا لتساؤلات القرّاء وتطلعاتهم وفضولهم. أو لنقل إنّ هذه الحوارات تقعُ عند تقاطُع الحوار العابر بين الكاتب ومحاوره، والحوار الأبديّ بين الكاتب وقارئه الضّمنيّ، ثمّ يتحوّل المحاور إلى قارئ يتجاوَزُ مادية حضوره مع الكاتب إلى ديمومة تلاقيهما في المطلق.
ثمّ تندرِجُ الحوارات التي ترجمها الباحث آيت لعميم في حوار أوسع بينه وبين قارئه الضّمني. هنا لا تكونُ الترّجمة مجرّد نقل أمين بل فعلًا جديدًا، ولا تكونُ مجرّد ملفوظٍ بل تلفّظًا جديدًا من قبل المترجم. لأنّ الترجمة ليسَت عملًا سلبيًّا، أو شفّافًا، وإنّما هي إعادةُ إنتاج للنصّ وتوطينٌ له في السياق العربيّ الجديد. ففعل الترجمة في السياق العربيّ يقومُ على هذا الأساس الذي يُصبِحُ فيه المترجم مؤلّفًا جديدًا، مثل ما فعل ابن المقفّع وابن رشد. بل يمكن القول إنّ آيت لعميم يعيدُ حوار هؤلاء الكتاب العظام لأنّ كلّ كتاب ما هو إلّا إجابة عن أسئلة سياقه. وهو ما عبّر عنه في المقدّمة بقوله: "هذه التحولات كانت تقودني إلى انتقاء حوارات تجيب عن أسئلتي الخاصة، من ثمّ فإن هذه الحوارات قد تُضيء جوانب متعلقة بهذه التحولات التي عرفتُها عبر مسار الكتابة والترجمة، لأنني أومن أن ما نترجمه هو بالأساس أفكارُنا كتبت في لغات أخرى، ونسعى من خلال ترجمتها إلى استردادها" (ص 5 و6).
إنّ محمد آيت لعميم هو هذا الكاتب الذي لا يستيقِظُ من الكتب. فبعضُه هؤلاء الكتاب المرموقون الذين أسهموا في تكوينه، فقرأ لهم ونقل هذا الشّغف بهم إلى قرّائه غير مستأثر بمرايا هؤلاء الكتّاب وحده. وفي هذا الكتاب نتعرّف على بعض أسلافه الغربيين، وتعرّفنا من خلال كتبه الأخرى على بعض أسلافه العرب مثل المتنبّي. وكما يقال: "قل لي ماذا تقرأ أقل لك من أنت".
* باحث في البلاغة وتحليل الخطاب.