}
عروض

زيارة جديدة إلى أم كلثوم

سارة عابدين

28 فبراير 2025


أم كلثوم، أيقونة الطرب العربي، تظل واحدة من أبرز الشخصيات التي أثرت في الثقافة والفن العربي حتى بعد أكثر من خمسين عامًا على وفاتها. لم تكن مجرد مغنية، بل أصبحت رمزًا يمتزج فيه الفن بالقوة الوطنية والمشاركة السياسية. صوتها المتفرد وأغانيها ذات الأبعاد الإنسانية كان لها دور كبير في تعبئة الشعوب العربية في فترات مفصلية من تاريخ المنطقة. لم يقتصر دورها على الغناء فقط، بل كانت لها أدوار سياسية تحفز الناس على النضال وتوحدهم في مواجهة التحديات، وتؤكد دور الفنان في القضايا الوطنية، ما جعلها تمثل صوت الأمة في أوقات الحروب والتحولات السياسية.
في كتاب "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي" الصادر مؤخرًا عن تنمية للنشر، يتناول الباحث المصري كريم جمال الدور الوطني والتاريخي الذي لعبته أم كلثوم في القضايا السياسية والوطنية ببحث تاريخي دقيق وممتع في آن. يقع الكتاب في 17 فصلًا يتناول خلالها جمال دور أم كلثوم في دعم القضايا الوطنية خلال فترة الحرب العربية ضد إسرائيل في 1967، والمعروفة بـ "حرب الأيام الستة" ويكشف عن تأثير أم كلثوم في فترة كانت مليئة بالتحديات السياسية والاجتماعية، وكيف كانت بمثابة رمز للوحدة الوطنية وأغنياتها طريقة مثلى لتحفيز الجماهير.
يستعيد الكتاب علاقة أم كلثوم بالسلطة في مصر، ويذكر أنها كانت علاقة متميزة لا تقتصر على الفن فقط، بل امتدت لتكون علاقة شبه ندية، ولم تكن مجرد فنانة تابعة للنظام، بل كانت علاقة قائمة على الاحترام المتبادل، حتى أنها كانت على علاقة شخصية بأسرة الرئيس عبد الناصر وكانت تعد من الدائرة المقربة لها، ما يظهر أنها لم تكن مجرد جزء من آلة النظام، بل كانت فاعلة ومؤثرة، لتجاور الزعيم ذاته في الوعي الشعبي.

دور أم كلثوم في الوضع السياسي المضطرب

يحكي جمال في كتابه عن الوضع السياسي المضطرب في مصر منذ منتصف شهر أيار/ مايو 1967 بعد أن وصلت إلى مصر معلومات مغلوطة حول حشد إسرائيل العسكري، ما دفع القيادة إلى إعطاء أوامر بالتعبئة العامة داخل الجمهورية العربية المتحدة، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من القرارات المتلاحقة، مثل غلق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية وإغلاق مضائق تيران لمنع مرور السفن الإسرائيلية إلى ميناء إيلات. لم يكتف عبد الناصر بهذه القرارات، بل منع السفن الإسرائيلية وسفن الدول المتحالفة معها من الدخول إلى خليج العقبة عبر مضائق تيران.
أثارت تلك القرارات حماس المصريين، وكانت السيدة أم كلثوم تتابع بنفس الحماس الشعبي، وكانت تؤمن بقدرات الجيش، وتقدمت بطلب رسمي في ذلك الوقت للقادة العسكريين للسماح لها بالسفر إلى الجبهة المصرية، لكن خطورة الموقف منعتها من السفر، غير أنها تنقلت طوال الأسبوع الأخير من شهر مايو بين استوديوهات الإذاعة لتسجيل نداءات إذاعية ليستمع إليها الجنود على الجبهة، وسجلت بالفعل سبعة نداءات لتحفيز الجنود.
النداء الأول: "يا جنودنا البواسل... لم يهتز وجداني فرحة، مثلما اهتز على وقع أقدامكم، وأنتم تعبرون طرقات القاهرة، لتواجهوا العدو الغادر، تأملتكم وطوتني تأملاتي، فإذا بكرامة المصريين بين أيديكم، وعزة العرب في قلوبكم وكبرياء النصر في عيونكم. وخرجت من تأملاتي وقد ملئت أمنًا على أمن، واطمئنانًا على اطمئنان. فتوجهت إلى الله أدعوه، يا رب انصرهم... يا رب".





يذكر جمال في كتابه أن الشاعر صالح جودت غالبًا هو من حوّل أفكار أم كلثوم الشخصية وأفكارها إلى نداءات مكتوبة بالشكل الذي أذيعت عليه في الإذاعة المصرية.

حفلات المجهود الحربي الخارجية

يحكي المؤلف في الفصل المعنون بـ"بعد منتصف الليل كانت أم كلثوم لا تزال تغني" عن بداية انطلاق المشروع الوطني لأم كلثوم من أجل دعم المجهود الحربي وتخطي آثار عدوان 1967 على مصر برحلتها إلى باريس في تشرين الثاني/ نوفمبر من نفس العام. حظيت تلك الرحلة باهتمام عربي وعالمي لم يحدث من قبل، بالإضافة إلى أهمية تلك الرحلة لمشروع أم كلثوم الفني، حيث قربت للعالم الغربي ظاهرة أم كلثوم بكل أسرارها وتعقيداتها، وساعدت الغرب على فهم أسباب تفردها وأسرار شعبيتها الجارفة، خاصة حين تمسكت بأسلوبها الشخصي في الغناء بدون النظر إلى نمط الغناء الغربي أو ذائقة الجماهير الغربية، فعرفها العالم الغربي في ذلك الوقت كصورة مقابلة لمفهوم الزعامة السياسية، الذي نما في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
تشكلت فكرة تلك الزيارة قبل عام الهزيمة، في نهايات عام 1966. فبالرغم من دعم شارل ديغول للقضية العربية بعد الهزيمة، إلا أن الوجود الصهيوني الكبير داخل فرنسا حافظ على قوة العلاقات الشعبية بين فرنسا وإسرائيل، وظهر التأييد الكبير لإسرائيل من خلال المساعدات الضخمة التي قدمتها الحركة الصهيونية والمؤسسات اليهودية في فرنسا لإسرائيل قبل الحرب مباشرة. لم يكن ذلك الوجود الصهيوني داخل فرنسا ليوافق على زيارة فنية ذات بعد سياسي داعم للقضية العربية لولا أن الاتفاق كان قد تم بين السيدة أم كلثوم ومدير مسرح الأولمبيا في نهاية عام 1966 قبل حدوث الهزيمة.

في نهاية شباط/ فبراير 1968 كانت أم كلثوم تستعد لأولى رحلاتها العربية من أجل دعم المجهود الحربي (Getty)

أم كلثوم في المغرب

بعد الهزيمة تغيرت القاهرة وتغير شعور الشعب المصري تجاه كل شيء، حتى أن قداسة الزعامة خفتت، وهتف الشعب ضد عبد الناصر لأول مرة، لكن غناء أم كلثوم في ذلك الوقت كان أشبه بقوة دافعة لاستكمال المعركة من أجل الوطن والكرامة.
في نهاية شباط/ فبراير 1968 كانت أم كلثوم تستعد لأولى رحلاتها العربية من أجل دعم المجهود الحربي، بالمملكة المغربية. لم تكن أم كلثوم قد توجهت للغناء في بلاد المغرب من قبل، وكانت لتلك الزيارة أهداف مختلفة أهمها إزالة الفرقة بين النظام المصري والنظام المغربي سياسيًا، بسبب مساندة الرئيس عبد الناصر للجزائر في نزاعها الحدودي مع المغرب.
توافق توقيت زيارة أم كلثوم للمغرب مع توقيت عيد الجلوس السابع للملك الحسن الثاني على عرش المملكة المغربية. تابع الملك بشكل شخصي خطوات أم كلثوم داخل المملكة، وأمر بتغيير أحد البنود المالية في عقود الحفلات، البند الذي كان ينص على أن ريع الحفلات كان يصرف بالجنيه المصري، ولكن حين زارت أم كلثوم ملك المغرب، وأخبرته أن هذا العائد سيخصص لشراء سلاح وعليه أن يدفع بالعملة الصعبة، أمر الملك بأن تصرف أجور الحفل بالكامل بالعملة الصعبة.





اعتبر يوم الحفل 4 آذار/ مارس 1968 يومًا تاريخيًا في المغرب، أعطت أغلب المؤسسات الرسمية والمؤسسات الخاصة اليوم إجازة رسمية من أجل الحفل، وفتحت محلات تصفيف الشعر أبوابها في الخامسة صباحًا، حتى يكفي الوقت لتزيين كل النساء الذاهبات إلى الحفل، حجزت جميع الرحلات القادمة إلى الرباط، وصارت العاصمة قبلة كل المغاربة، حتى أهل الجزائر تجاوزوا عن خصومتهم مع المغاربة وذهبوا إلى المغرب بالطائرات والسيارات لحضور حفل أم كلثوم. وبالفعل كان الحفل مفاجأة مذهلة، وصرحت أم كلثوم بعده بأنها كانت مستعدة للغناء حتى الصباح بسبب التجاوب الكبير الذي فاق كل التوقعات من الجمهور المغربي.

تحولات الأغنية الوطنية

في الفصل المعنون بـ"وطنيات الهزيمة" يتتبع جمال التحول الذي حدث في الأغنية الوطنية المصرية بعد "حرب الأيام الستة"، حيث تأثرت الكلمات واللحن والأداء، بالسياق الاجتماعي والسياسي بعد النكسة واكتسبت الكلمات طابعًا حزينًا، بعيدًا عن تمجيد الزعيم، وظهر الوطن بطلًا وحيدًا في الأغنية الوطنية.
حافظت أم كلثوم على مكانة رياض السنباطي كملحن مقرب لها، ولحن لها بالفعل 4 أغنيات من ضمن ست أغنيات وطنية، غنتها أم كلثوم بعد الهزيمة، لكن البناء الغنائي المعتاد تراجع تدريجيًا وابتعد عن الأغنيات الوطنية في الحفلات المطولة، وأذيعت هذه الأغنيات بجرعات مكثفة في تسجيلات إذاعية.

بداية النهاية لأم كلثوم

قدمت أم كلثوم في خريف عام 1972 آخر حفلاتها لصالح المجهود الحربي، بعد عودتها من رحلة علاجية طويلة. أقيم الحفل في قاعة الاحتفالات الكبرى في جامعة القاهرة، وغنت أم كلثوم في تلك الليلة قصيدة "أغدًا ألقاك" للمرة الخامسة والأخيرة، وأغنية "يا مسهرني"، وأذيع الحفل على الهواء مباشرة، ليكون هذا الحفل هو الحفل الأخير في سلسلة حفلات أم كلثوم لصالح المجهود الحربي.
قدمت بعد ذلك الحفل حفلين شهريين أخيرين، في كانون الأول/ ديسمبر 1972 وفي كانون الثاني/ يناير 1973. ظهر عليها الإعياء الشديد في الحفل الأخير، لكنها استمرت في غناء "ليلة حب" وقدمت في تلك الليلة أفضل نسخة من الأغنية. وفي الوصلة الثانية من الحفل غلبها الإعياء والتعب، وكانت الوصلة الأكثر قسوة وحزنًا في مسيرتها الفنية، حيث ظهرت على صوتها مظاهر الشيخوخة الغنائية، ولم تستطع التحكم في صوتها، ولجأت إلى الارتجال الشعري في نهاية أغنية "القلب يعشق كل جميل" وبدلت عبارة "يا رب توعدهم... يا رب واقبلنا" إلى "يا رب وانصرنا" لتنتفض القاعة بالكامل داعية لها بالصحة وطول العمر. أعادت أم كلثوم المقطع مجددًا بناء على رغبة الجماهير، ودعت لمصر في الإعادة الثانية، لكن صوتها تحشرج وانحبس تمامًا ولم تقدر على الإعادة، لتطلب بإشارة خفية إغلاق الستار، لتكون تلك اللحظة المؤثرة بكلمات "القلب يعشق كل جميل" هي الوداع الأخير بين أم كلثوم وجمهورها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.