}
عروض

"هيغل وهايتي والتاريخ الكوني": ما بين التاريخ والفلسفة

محمود شريح

3 فبراير 2025

 

عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (الدوحة/ بيروت) صدر مؤخّرًا كتاب "هيغل وهايتي والتاريخ الكوني/Hegel, Haiti and Universal History" للأستاذة في جامعة مدينة نيويورك سوزان بوك مورس/ Susan Buck-Morss، ونقلَه إلى العربية د. علي حاكم صالح، أُستاذ الفلسفة في كلية الآداب في جامعة ذي قار العراقية، وراجعه د. عبد الله العيّاش (في 224 صفحة من القطع الوسط، مع قائمة مراجع بالألمانية والإنكليزية، وفهرس عام، وقائمة رسوم توضيحيّة).
والكتاب مقالتان تقعان عند الحدّ الفاصل بين التاريخ والفلسفة، وما يقترحانه من فهم للتاريخ الكوني يتميّزُ عن فهم هيغل النَّسقي للماضي، ويتميّزُ أيضًا عن الادعاء الأنطولوجي لهايدغر بأن التاريخانية هي جوهر الكينونة، ذلك أنّ توجّه هيغل فلسفي متجذّر في الوجود الماديّ العينيّ، ونَظْمَه الفكري يسلِّط الضوء على الحاضر السياسي.
كانت المستعْمَرة الفرنسيّة سان دومانغ (هايتي) تقفُ على رأس تجارة السُكَّر الكاريبي الواسعة الازدهار، إذ كانت جزيرة هايتي تنتجُ في عام 1767 وحدَه ثلاثة وستين ألف طن من السُكّر، وأدّى إنتاجه إلى تنامي توظيف العبيد، فبلغ عددهم حوالي نصف مليون في القرن الثامن عشر، فيما كان في فرنسه المُستعمِرة لهايتي عشرون في المئة من البرجوازيين يمتهنون النشاطَ التجاري المرتبط بالعبيد؛ من هذا المنطلق التاريخي ترصدُ د. بوك مورس تطوّر أفكار فلاسفة عصر التنوير في ما يخصّ سكّان المستعمرات الأصليين، فكان روسّو في كتابه "العقد الاجتماعي" دانَ مؤسسة العبوديّة بلا هوادة، ثم فهمَ ثوّار فرنسه عام 1789 أنفسَهم منذ البداية على أنهم حركة تحرريّة تعتقُ الناسَ من عبوديّة المظالم الإجتماعية، فروّجوا شعاريْ "عشْ حرًّا أو مُتْ"، و"الموت ولا العبوديّة"، كما ندّدَ النشيد الوطني للجمهوريّة الفرنسيّة لامارسييز/ la Marseillaise بالعبوديّة القديمة.




وعند هذا المشهد أطلّ هيغل تلميذ التنويريين الأُوروبيين، متأثرًا بمبادىء الثورة الفرنسيّة وتشريعها دستور الحريّة والإخاء والمساواة، ليأخذَ بثورة العبيد في جزيرة هايتي بوتقةً وفَحْصًا بالنّار لمُثُلِ الثورة الفرنسيّة، فجهرَ بفكرة العلاقة بين السيادة والعبوديّة، أي "الصراع حتى الموت بين السيِّدِ والعبدِ"، وكان هيغل وفّر مفتاحَ تجلّي الحريّة في تاريخ الكون، إذ بيّنَه بادىء ذي بدء في أثره النفيس "فينومينولوجيا الروح"، الذي سطّره بين عامي 1805 و1806، أي فترة تمظهرُ الأُمّة الهايتيّة، وأصدرَه عام 1807، الذي شهد في آنٍ احتلال ناپوليون لألمانيا، وإلغاء بريطانيا تجارة العبيد. وكانت وفدتْ جدليّة السيادة والعبوديّة إلى فكرِ هيغل من قراءته الصحف والمجلّات، فدوّن خلال صوغه فكرة جدليّة السيِّد/ العبد الملاحظة التالية:
إنّ قراءةَ الصحفِ في الصباح الباكر (لهو) ضربٌ من الصلاة الصباحيّة الواقعيّة. فالمرءُ يوجِّه موقفَهُ مقابلَ العالم، ونحوَ الله (في حالةٍ أُولى)، أو نحو ما يكونُ هو العالم (في الحالةِ الثانية). وكلتا الحالتين توفِّر الأمانَ نفسه، حيث يعرف المرء موضع قدميه.
وتلاحظُ  د. بوك مورس أنّ الثورة الهايتيّة دخلت التاريخَ بخاصيّة مميّزة هي أنها لم تكن تخطرُ على البال حتّى عند حدوثها، في حين أنّ هيغل لم يذكر في "فينومينولوجيا الروح" هايتي، أو الثورة الفرنسية، إلّا أنّها تُمعِنُ النظرَ بالتفصيل في جدليّة السيّد/ العبد، في نصوصِ هيغل، فتشيرُ إلى أنّ هيغل ألحّ فيها على منزلةِ السيّد بالمعنييْن السياسيّ والاقتصاديّ معًا، فالسيِّدُ يمتلكُ فائضًا من الحاجيات الماديّة العامّة التي يفتقرُ العبدُ إليها، فالسيّد مستقلٌّ والعبد تابعٌ، ثمّ بتطوّر الجدليّة تنقلبُ هيمنةُ السيِّد على نفسِها حين يعي السيِّدُ حقيقةَ اعتمادِه الكلِّي على العبدِ، لكنّ هيغل أتى على ذكر الثورة الهايتيّة بالاسم عام 1830، أي قبل وفاته بالكوليرا بعام، في كتابه "فلسفة الروح الذاتي"، حيث عرضٌ كاملٌ لجدليّة السيِّد/ العبد.
في القسم الثاني من كتابها تعالج د. بوك مورس مسألة "التاريخ الكوني"، وارتباطها بالانتقادات الموجّهة إلى المقالة الأُولى من كتابها "هيغل وهايتي"، منطلقةً من موقف كانط عام 1798 المتعاطف مع الثورة الفرنسيّة، وكيف أنها ألهمتْ وجدانَ الجماهير في مقولتها إنّ من حقّ الشعب أن يحكمَ نفسَه بنفسِه بدستور يسطّره بنفسه، وهي الحماسة نفسها التي وسمتْ تلقّي هيغل الشاب لثورة العبيد في هايتي، فرأى فيها تجلّيًا لحريّة كونيّة، وأنّ تحقُّقَ هذه الحريّة هو نفسه بنيةُ التاريخ ومعناه، ذلك أنّ تمرّدَ العبيد في هايتي عام 1791 أفضى إلى دستور هايتي عام 1804، الذي أعلنَ أن مواطني الجزيرة "سودٌ" بصرف النظر عن لونهم وعرقهم، مبادرة جريئة ورائعة أيديولوجيًّا، فرأى الهايتيّون أنفسَهم رمزًا لكرامة السُّود، وأنهم أُمّةٌ متحضّرةٌ وفقَ المعايير الأوروبية، مكتملةٌ من حيث البسَالة والتجارة والزراعة؛ هنا ترى الكاتبة أنّ الهايتيين غيّبوا عن الأنظار إسهامَهم في قضيّة الإنسانية الكونيّة التي انبثقتْ من ثورتهم، فهذا حدثٌ يعبِّر عن تجربة التمزّق التاريخي على أنها لحظة وضوح، ذلك أنّ لحظة مناهضة العبوديّة جذريًّا إبداعٌ إنساني، وبالتالي مقاربة إلى القِيم الإنسانية الكونيّة، أي "التواريخ اللاتاريخيّة"، وهي مقاربةٌ ترى الكاتبة أنّ هيغل نَبذَها، على الرغم من إقرارها أن افتراضات هيغل ما زالت واسعة الانتشار، ذلك أنّ العملَ السياسيّ العنيفَ يحدّدُ مسارَ التاريخ الكونيّ، إذ يصرّ هيغل على أنّ الحريّة لا تُوهبُ للعبيد، فيما ترى أن سببَ تجاهل مسألة هيغل وهايتي، على مدى قرنين من الزمن، والإخفاق، حتى في طرحه، مردّه التكييف الماركسي لجدليّة هيغل اجتماعيًا؛ عمدَ ماركس في بداياتِه إلى تجريد الصراع بين السيِّد والعبد من مرجعيّته الحرفيّة، فَقُرِىء على أنّه استعارة عن الصراع الطبقي، ووجدَ هذا التأويل الهيغلي ــ الماركسي أنصارًا له في القرن العشرين، بمن فيهم لوكاش، وماركوزه، وكوجيف، إذ كان لمحاضرات هذا الأخير في باريس في أربعينيات القرن الماضي عن كتاب هيغل "فينومينولوجيا الروح" إعادة قراءة ألمعيّةً لنصوص هيغل بعدساتٍ ماركسيّة.




ترتدّ الكاتبة إلى عبارة هيغل الشهيرة المقتبسة من محاضرات هيغل "بومة مينرڤا لا تُفردُ جناحيها محلِّقةً إلّا عند الغسق"، أي أنّ الحكمة تصل المشهد التاريخي دائمًا متأخّرة، ولربّما كانتْ دوريّة مينرڤا، التي دأبَ هيغل على قراءتها، في شبابه، في باله، تسمُ في الواقع تراجعًا عن السياسة الراديكاليّة التي اتّسم بها في "فينومينولوجيا الروح"، مثلما كان موقف هيغل من الثورة الفرنسيّة، إذ رأت الكاتبة أنّه كان في وسع هيغل الحديث عن أنّها كانت "فجرًا عقليًّا مجيدًا" بدلَ قولِهِ في نهاية كتابه "فلسفة التاريخ" واصفًا عهدَ الإرهابِ بأنّه "الطغيانُ الأكثرُ رُعبًا"، مشيرةً إلى أن هذا التغيير الذي طرأَ على راديكاليّة هيغل لربما كان جزءًا من نزعتِه المحافِظة التي اكتسبَها خلال إقامته في برلين، بمعنى أنّه هو نفسه وقفَ على الحكمة متأخّرًا، فها هي بومة مينرڤا رمزُ الحكمة أطلقتْ جناحيْها إثر بهتان النظريّة بإزاء إشراق الممارسة، وإن اجتزأتْ د. بوك مورس مقولةَ هيغل هذه، رغم شموليّتها، وأشارت ساهيةً، على الأرجح، إلى موقعها في محاضراته عن "فلسفة التاريخ"، فيما هي حقيقة الفقرة التي يقفلُ بها تصديره لمحاضراته في "فلسفة القانون" (1821)، وهي في سياقها التاريخي تكملة لفهم جدليّته:
كلمة أُخرى عمّا يتوجّب أن يكون العالم عليه. تصل الفلسفةُ المشهدَ متأخّرة لإعطاءِ رأيها، وهي، كونُها فكرُ العالَم، تَظهرُ متى كان الوجود فعليًّا هناك بعد تشكّل سياقِهِ. إنّ تلقين التصوُّر، وهذا هو درسُ التاريخ الذي لا مفرّ منه، هو أنّه متى نضجَ الفعليّ يبدو المثاليّ طغى على الحقيقيّ، فيستوعب المثاليّ هذا العالَمَ الحقيقي في مادّته ويؤسِّسُهُ لنفسه على شكل مَجلىً ذهنيّ. فحين ترسمُ الفلسفةُ صورةَ الوجود رماديّة، يكون شكلُ الحياة اكتملَ وهَرِمَ. هذا للفهم. إنّ بومة مينرڤا تنشرُ جناحيها فقط مع حلولِ الغسق.
وكان هيغل ها هنا يردُّ قارئه إلى ما أعلنَه "مفيستو" في مؤلَّف غوته فاوست:
يا صديقي الفاضل
رماديّةٌ هي كلُّ النظريّات
فقط هي خضراءُ شجرةُ الحياةِ الذهبيّةُ.
على هذا النحوِ هي الفلسفة تُلوِّن رماديّة النظريّة بإزاء خلفيّة لمشهد عالمٍ هرمٍ، أي أنّ الفلسفةَ تصلُ متأخرةً على المشهدِ لتطلقَ حكمًا على الحدَث، فهي، إذًا، باهتة بالقياس إلى بهجةِ الحياة، طالما أنّ الجدليّة تُفضي إلى انقلابية المُعطى باتجاه نقيضِه، فالتحوّلُ نسغُ التاريخ، كما في إنكار كُثيِّر لدى عزّة لواقع الحال:
لقد زعمتْ انّي تغيّرتُ بعدها
ومن ذا الذي، يا عَزُّ، لا يتغيّرُ.

هيغل وهايتي والتاريخ الكوني، في سلسلة "ترجمان" عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مساهمةٌ في إذكاء روح البحث والنقد، في ترجمة أمينة موثوقة مأذونة، وإضافةٌ إلى تراكم معرفي في مسار الثقافة العربية، تَمكّنَ ناقلُها د. علي حاكم صالح عن الإنكليزيّة من إعطاء النصّ الأصلي حقَّه، رغم عبارة د. سوزان بوك مورس الآخذة من عبارة هيغل بعضَ وعُورَتِها. أمّا في ما يخصُّ اتّهامها هيغل بالرجعيّة فأعقدُ الأملَ على مترجمها أن يبلغَها نيابة عنّي بإنكليزيّتِهِ الراقية والمعافاة: "المسامح كريم".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.