يسرد كتاب "ديار بئر السبع" للأكاديمي والباحث الفلسطيني أحمد أمارة، الرواية التاريخية لجنوب فلسطين، أو ما يُعرف اليوم بالنقب، بالاعتماد على مواد أرشيفية عثمانية وبريطانية وغيرها، حيث يعيد المؤلف فيه بناء التاريخ القانوني والاجتماعي لجنوب فلسطين منذ منتصف القرن التاسع عشر، مُتناولًا التحولات الجيوسياسية والإدارية والقانونية التي مرّت بها خلال فترة اتسمت بإصلاحات عثمانية متزايدة وبأطماع استعمارية، شكّلت حوافز لتغيير جغرافيّتها واقتصادها، ولترسيم حدود سياسية جديدة، تركت بصمتها حتى اليوم.
الكتاب، الصادر عن المركز العربي للدراسات وأبحاث السياسات، يتحدى، بشكل لا لُبس فيه، الأبحاث النمطية التي تصوّر المجتمعات البدوية على أنها مجتمعات منعزلة تعيش في اللادولة واللامؤسسات، وعلى أن منطقة النقب محض منطقة صحراوية قاحلة يسكنها بدو رحّل، حيث يعرض المؤلف التفاعلات المجتمعية والاقتصادية والإدارية في سرد متماسك، يؤكد انتماء العشائر البدوية إلى الأرض والمكان، فضلًا عن علاقاتاتها الاقتصادية بأهالي الجوار.
كما يرسم كتاب "ديار بئر السبع"، بعنوانه المتفرّع "جنوب فلسطين العثماني: الأرض والمجتمع والدولة"، صورة واضحة لتفاعل القانون المحلي فيما يتعلق بتطبيق قانون الأراضي العثماني، وبتأسيس محاكم مدنية إلى جانب المحاكم العشائرية.
وعبر فصول سبعة بتفصيلاتها، عزّز أمارة دحض فكرة بدائية "ديار بئر السبع"، مشيرًا إلى أن النصف الثاني من القرن التاسع عشر شكّل نقطة تحول مهمة في تاريخ جنوب فلسطين، بحيث بدأ العثمانيون مركزة سلطتهم، ومحاولة إرساء حكم مباشر في الأقطار المختلفة، وتجاه المجتمعات العشائرية، متطلعين إلى ما رأوه مشروع إصلاح اجتماعي للعشائر في سبيل تمدينهم، إلى جانب الدفاع عن السيادة العثمانية وعن فلسطين في مواجهة التهديدات الأوروبية.
وحسب الكتاب ومؤلفه، الذي شارك في توقيعه ونقاشه في مركز خليل السكاكيني الثقافي بمدينة رام الله، أخيرًا، كانت الإصلاحات الإدارية العثمانية والزراعة المحلية متشابكة، بحيث جذب التوسع الزراعي مزيدًا من الاهتمام العثماني في المنطقة، في حين كان هذا التوسع بفضل تحسن الحكم، فمنذ ستينيات القرن التاسع عشر، أخذت الحكومة العثمانية تزيد من فعاليتها وتدخلها في شؤون البدو المحلية، لا سيما علاقات الملكية، بحيث وصلت ذروة هذه التطورات عام 1899، عندما قررت الحكومة العثمانية تأسيس مدينة وإدارة خاصة بالبدو، فكانت "بئر السبع"، التي باتت قضاءً إداريًا خاصًا يهتم بشؤون العشائر المحلية، بحيث تحولت المدينة، مع الوقت، من حدود داخلية عثمانية إلى حدود خارجية تتصدى للتهديد البريطاني من الجهة المصرية، لتتحول إلى حدود سياسية دولية.
وكانت الإدارة العثمانية والسكان المحليّون في مواجهات وتشابكات وتفاعلات متعددة، كوّنت عمليًّا، وفق أمارة، تاريخ المنطقة وشكلها، بحيث كانت النقاشات الدائرة في القدس، وإسطنبول، وغزة، وبئر السبع، تسعى إلى التعامل مع الواقع السياسي والاقتصادي في جنوب فلسطين، وما بعده، كما تسعى في ذات الوقت إلى إنجاز تغييرات سياسية وإدارية عدّة، منها: إحلال السلم والاستقرار، والحفاظ على أمن الحدود، ومشروع تسجيل الأراضي وتوطين المجتمعات العشائرية، وتأسيس مدينة بدوية وعاصمة إدارية، كأهداف تخص فلسطين أو الإمبراطورية العثمانية عامة.
وتوزعت فصول الكتاب بين محاور عدّة عكستها عناوينها: "جنوب فلسطين في سياق التنظيمات العثمانية"، و"التغييرات الجيوسياسية"، و"قضاء غزة قبل تأسيس بئر السبع"، و"تأسيس بئر السبع: تعزيز جنوب فلسطين"، و"نظام الأراضي في بئر السبع"، و"إنتاج الدولة والحداثة في بئر السبع"، و"ديرة بئر السبع بعد الحكم العثماني".
وعبر هذه الفصول يسعى الكتاب إلى عرض السياسات العثمانية إزاء المنطقة، ومناقشتها، خاصة مع تجسدها على أرض الواقع، بهدف سرد الرواية التاريخية العثمانية الخاصة بجنوب فلسطين وأهله، محققًا نجاحات عدّة، برأيي، في سد فجوة معرفية مهمة من ناحية الأبحاث المتوفرة بخصوص جنوب فلسطين وسكانها، وتاريخ المنطقة القانوني والاجتماعي، وأيضًا الثقافي في وقت لاحق، وتحديدًا في الفترة العثمانية.
في الفصل الأول من الكتاب، عمد أمارة إلى وضع القارئ في إطار السياق السياسي الجغرافي الأوسع للسياسات العثمانية الإصلاحية في منتصف القرن التاسع عشر، وسياساتهم المتغيرة بشكل خاص تجاه المجتمعات العشائرية والثغور الحدودية، فيما يقدم الفصل الثاني نقاطًا محورية تشكل أساسًا للتعريف بأجزاء جنوب فلسطين المختلفة، وسكانها، واقتصادها المحلي الذي تمركز حول زراعة الشعير، عارضًا الشبكات الاجتماعية التي تطورت في ذلك الوقت، وكيفية تشكل "النقب" كوجدة جغرافية سياسية، إلى جانب مصطلح "البدو"، الذي وجد أنه لم يكن سائدًا في تلك الحقبة، وأن الاستعمار البريطاني هو من فرضه لأسباب استعمارية عنصرية، عارضًا الحقبة العثمانية في "بلاد غزة" أو "ديار بئر السبع"، ومميزاتها الخاصة، والتي لم تكن تعرف قط باسم "النقب"، في حين أن السكان المحليين كانوا يُسمّون "العرب" أو "العربان".
وسعى الفصل الثالث إلى استكشاف تاريخ "ديار بئر السبع" ما بين عامي 1850 و1900، أي قبل تأسيس مدينة بئر السبع، مسلطًا الضوء على "الاقتتال العشائري" المتمحور حول نزاعات على الأراضي الزراعية الخصبة التي يمكن زراعتها في فترة تزايد فيها النشاط الاقتصادي لفلسطين، والصادرات إلى أوروبا.
وكان بناء مدينة بئر السبع والقرار العثماني بشأنه، وتأسيس قضاء إداري جديد بين عامي 1900 و1917، مفصلًا في الحديث عن النظم الإدارية والقانونية الجديدة كما جرى تأسيسها في بئر السبع، في إطار قوانين: الولايات العثمانية، والأراضي، والقضاء.
وفي الفصل الخامس، الذي يتناول النص القانوني والتصورات والسياسات العثمانية تجاه بئر السبع، نجد مجموعة أرشيفية محلية خاصة ونادرة وفريدة، تدل على ان نظام المُلكية المحلي يشبه إلى حد كبير النظام القانوني الحديث المتعلق بالملكية الخاصة والفردية.
وفي تسلسل بحثي يعكس خبرة المؤلف، يتناول الفصل السادس من "ديار بئر السبع"، مسألة الخلافات والنزاعات الناتجة، والتوترات القضائية في بئر السبع، عارضًا على شاشة "علية" مركز خليل السكاكيني الثقافي، كما في الكتاب، وثائق نادرة تؤسس لحكايات مثيرة في هذا الجانب، توزعت ما بين الديار الجنوبية لفلسطين، والقدس، وغزة، وإسطنبول أحيانًا.
وركز الفصل السابع والأخير في الكتاب على التحولات المركزية في منطقة بئر السبع منذ عشية الحرب العالمية الأولى حتى النكبة عام 1948، مناقشًا أيضًا، في زاوية أخرى، الإرث القانوني العثماني، خالصًا إلى أن منطقة بئر السبع شكلت أكثر من مجرد مساحة نائية أو مساحة واقعة خارج حدود الدولة ومؤسساتها، بحيث كانت بمثابة حيّزٍ إداري قضائي مركّب، تطوّر مع مرور الوقت، منذ القرن التاسع عشر، حتى تغيّرت علاقات الملكية العقارية مع الوقت، مشددًا على أهمية دراسات إصلاحات النظام القانوني للأراضي، التي لا تزال تشكل تحديًا حقيقيًا إلى يومنا هذا.
وعلى الرغم من الواقع السياسي المجزأ في الحقبة العثمانية، وخاصة نهاياتها، واصلت المجتمعات البدوية الحفاظ على اتصالاتها وأنشطتها المختلفة العابرة للحدود المفروضة، بحيث بقيت غزة والخليل وقراهما تحضر بوضوح كونها جزءًا من الفضاء المحلي لـ"عربان" فلسطين، أو "البدو"، كما باتوا يُعرفون لاحقًا، فكانت غزة مركزًا اجتماعيًا اقتصاديًا وإداريًا مهما لجنوب فلسطين ومجتمعاته المختلفة، كما كانت الخليل مركزًا لمنطقة شرق بئر السبع على وجه الخصوص، وكانت تلك العلاقات، وفق أمارة، قوية لدرجة أنها باتت تذكر في أغاني الحنين والفولكلور المحلي بين "عرب" بئر السبع، وخاصة في أعراسهم، ما يطرح "الحاجة الواضحة إلى اتباع نهج بحثي بديل يرى عشائر بئر السبع جزءًا من النسيج الاجتماعي السياسي الفلسطيني، ضد التوجه الذي يركّز على عزلة البدو عن باقي المجتمعات المحيطة بهم، أو تميّزهم بالعدائية تجاه القرى والهجوم عليها"، مستشهدًا بكلمات الأغنية: "يحرم عليي لبس منديل العزة على اللي انقتلوا شهداء بغزة... يحرم عليي قص الشاليش على اللي انقتلوا بأرض العريش... يحرم عليي تلوين الخرقة على اللي انقتلوا ببرقة... يحرم عليي لبس منديلي على اللي انقتلوا بأرض الخليلِ... يحرم عليي الكحل في العين على اللي انقتلوا في وادي حنين".
وكشف الكتاب أنه كان لبئر السبع مشروع إصلاح اجتماعي وثقافي، انعكس عمرانيًا في المباني الحكومية والمسجد والخدمات، علاوة على المنح المجانية للأرض، في إطار مشروع عثماني لـ"جلب الحضارة للبدو"، لا من خلال التوطين فحسب، بل أيضًا من خلال التعليم، فقد بنى العثمانيون مدرسة في بئر السبع عام 1906، وكانت عبارة عن مبنى مكون من طابقين و16 غرفة، حيث تم تدريس الزراعة، إلى جانب القراءة والكتابة والدراسات الدينية.
وفيما يتعلق بإنتاج فضاء ثقافي في "ديار بئر السبع"، قامت الحكومة العثمانية في عام 1916 ببناء مطبعة ونشر دورية "الصحراء في صور"، وكانت تصدر مرة واحدة كل أسبوعين، بين تشرين الثاني/ نوفمبر 1916 وأيار/ مايو 1917، وتم تقديمها كمنشور سياسي واجتماعي وأدبي وفني، وطبعت في بئر السبع والقدس، وبلغ عدد المشتركين فيها قرابة 800 مشترك.
وفي مذكرات لبرلماني عثماني حملت عنوان "مذكرات الصحراء"، تبرز الحياة الثقافية واليومية في بئر السبع، في خضم الحرب العالمية الأولى، وتحديدا عام 1917، موضحة كيف أن أعضاء الوفد البرلماني العثماني، الذي كان كاتب المذكرات أحدهم، قضوا بعض الوقت في حديقة بئر السبع العامة، وكيف أضيئت الشوارع في الساعة التاسعة مساءً، فبحسب وصفه، "كان لبئر السبع خان ومتاجر ومقهى، ورغم أن الوقت ليلًا، فقد رأيت متجرًا مفتوحًا ومقهى، وحتى أطفالًا ونساءً يمشون في الشوارع، كما أتيحت الفرصة لنا كي نشاهد فيلمًا في دار سينما بئر السبع، وشاهدناه مع آخرين في الهواء الطلق، في حين شاهده رجال الجيش والإداريون وقرابة 100 من البدو في الداخل"، ما يوحي بأن هذه الدار، التي أكد أمارة لـ"ضفة ثالثة" أن لا معلومات إضافية عنها، كانت مكتملة كدار للعرض السينمائي الداخلي والخارجي.
ويخلص الكتاب إلى أن بئر السبع في حياتها العثمانية التي دامت سبعة عشر عامًا، برزت كمدينة شابة واعدة، ومركزًا إداريًا واقتصاديًا مهمًا في المنطقة، وكمركز للجهود العثمانية في الهندسة الاجتماعية والتحول الثقافي، بحيث كانت بئر السبع قبل النكبة، لا تقل عن "بلدة صغيرة مزدهرة ذات إمكانيات عالية، لكونها المركز الإداري والاقتصادي لمنطقة واسعة".