}
عروض

"تستريحُ الأرضُ من كلامِنا": لا بدّ للربيع أن يزهر


بالتزامن مع تلك الحرب الهمجيّة على قطاع غزّة، برزت على الساحة الشِعريّة العربيّة حساسيّة جديدة، أسّست لحالة إبداعيّة فريدة من نوعها؛ سواء من جهةِ وقوفها على الحدث لحظةً بلحظة، أو من حيثُ تأكيدها على جماليّات "القبح" وكيف للكتابة أن تستثمر ذلك في البنيّة الأسلوبيّة للنصّ، عدا عن تلك الخصوصيّة الجليّة في إدخال مفردات جديدة إلى متنها، وبمنتهى الرويّة والأنّاة. ثمّة قاموسٌ شِعريّ جديدٍ، تدوّنه أصوات شابّة من داخل فلسطين وخارجها.

في مجموعتهِ الشِعريّة الجديدة "تستريحُ الأرضُ من كلامِنا"، الصادرة حديثًا عن دار النهضة العربية في بيروت 2024، يكثف الشاعر الفلسطيني مصعب أبو توهة من لغته، ليتداخل السرد مع الشعر في مزجٍ هادئ وحميم؛ ثمّةَ حكاية تلو أخرى تُروى بين جنبات هذه المجموعةِ، جُلّها تخصّ "الموت" بوصفه كائنًا يعيشُ بيننا، هو فرد من العائلة وجارٌ لا يغيبُ عن العينِ وغيمةٌ تمطرُ ليل نهار، لعلّ ما كتبه أبو توهة هنا أجملُ مرثيّة قيلت في "الموت" نفسه وأكثرها عذوبةً وقهرًا، يقول: "أيها الموت، لا تفرح/ يومًا ما، لن تجد أحدًا على الأرض تضع روحه في حقيبتك المهترئة/ سيأتي اليوم وتشعر بالملل/ وسيشهد الغيم كيف تقتل نفسك قرب مقبرة/ لكن لا أحد هناك ليدفنك/ ولن يصلّي عليك أحد".

"الموت" هنا، في هذا المقطع، ليس مجرّد مفردة من القاموس فحسب، بل هو القدر الذي يحيطُ بنا من كل حدبٍ وصوب، وهو الأقرب إلينا من (قرب سواد العين إلى بياضها).

من قاموس الحرب

يكتب مصعب أبو توهة عن الحرب؛ ثمّة تفاصيل ومشاهد غايةً في القساوة والدهشة، لا تفارق معظم قصائد "تستريحُ الأرضُ من كلامِنا"؛ حيثُ نقرأ عن "قذيفة سقطت"... وكيف "حفرت في الأرض جرحًا طولهُ خمسين ألف شظيّة"، وعن "المعركة" التي انتهت، وعن "ركام قاموس مزقته الشظايا"، وعن "مخيّم اللاجئين" و"المقبرة الكبيرة"، وعن "صلاة الخوف" و"الجنازات" و"حقيبة صديقي المفقود"، وعن "إطراقة رؤوس القتلى"... "حينما يسلمون أرواحهم لساعي البريد".

القصائد على الرغم من تكثيفها للمشاهد الملتقطة، إلا أنها تقول الكثير الكثير، وتوثّق لحالات إنسانيّة عديدة في مواجهة الظلم والقهر الذي لا ينتهي. في قصيدة بعنوان (الحفرةُ على الأرض...) يقول الشاعر: "في الحرب تحتاج أن تبدّل ملابسك في كل جنازة تخرج فيها/ فأنت لا تريد أن تقول الناس أنك لا تملك غير هندامٍ واحد فقط/ يحدث أن تبدّل ملابسك أربع مراتٍ خلال ساعات/ كل هذا يعتمد على عدد الجنازات في المنطقة".

ما نجده في المقطع السابق من تهكّم ساخر وقريب من روح الفكاهة، ينسحب على جُلّ قصائد هذه المجموعة، فالحزن لدى الشاعر لا يقابله سوى الفرح، بينما الحياة وجهًا لوجه أمام الموت وبالثقة المطلقة.

جذور الشِعر المُقاوم

ينشغل مصعب أبو توهة (من مواليد غزّة، 1992)، بجوانب فنّية عديدة ضمن تركيبة قصيدته، ما يبدو لافتًا تلك الجماليّات التي تخصّ تجربته الشِعريّة وحدها، بدون أن يعمل على القطيعة مع التجارب والأصوات الفلسطينية البارزة وتحديدًا التجربة الأبرز للشاعر الراحل محمود درويش، أبو توهة لا يقلّد أو يكرّر بل يضيف المزيد إلى تلك التجارب، بوصفها أشجارًا في حديقةٍ غنّاء، مؤكّدًا على خصوصيّة صوته الممتدّ إلى تلك الجذور المؤسسة للشِعريّة الفلسطينية المُقاومة. يقول: "لماذا تركت الباب وحيدًا؟/ أتركت مقبضه سريرًا للغبار/ وأرجوحةً للهواء؟". وفي مكانٍ آخر من ذات القصيدة يقول: "حتى زوايا الغرفة لم تعد تذكرُ دروسها/ ولا تتذكر الكلمات./ ألا تعلم أن اللغة تحتاج إلى ممارسة؟". وفي قصيدةٍ أخرى، يقول: "هم لم يسرقوا فقط بيتك/ بل الطريق إليه أيضًا/ سرقوا البيض، بل أيضًا/ دجاجك/ نهبوا الحقل بل الرمل/ أيضًا".

ما نجده في المقاطع الثلاثة السابقة من إعادة أحياء لإرث الشاعر درويش ليس من قبيل الصدفة، إنما تأكيد على ذلك النَفَس الثوري الذي طالما عمل عليه درويش وغيره من شعراء فلسطين بُعيد كل نكسة أو حرب.

الحكاية شِعرًا

الجانب السردي يكاد يكون الوجه الآخر للجانب الشِعري لدى الشاعر مصعب أبو توهة، فكل قصيدةٍ من قصائده عبارة عن حكايةٍ أو ذكرى يستدرجنا الشاعر ليرويها لنا على مهلٍ، لا يسردها بقدر ما يلمّح إليها، وهو، هنا، يكتب بمنتهى البساطة والسلاسة؛ ثمّة هدمٌ بارز وإعادة بناء للذاكرة، وهو ما يرفضه الشاعر عبر توثيقه للحالة الراهنة في بلاده، حيثُ يقول: "ماتت غيمة المساء ولم تجد/ من يستقبل رفاتها/ لا البحيرة ولا البحر/ لا الوادي ولا النهر/ قدم تعازيه للسماء/ حتى القمر أشاح بوجهه عنها...".

الرمزيّة في المقطع السابق أضفت المزيد من الغموض المُحبّب إلى أجواء المقطع السابق، إلا أنّ الخاتمة جاءت مُغايرة مع وجود عنصر التشويق فيها: "لا بأس يا غيمة/ فسوف تحوّلك الشمس إلى رماد/ وتطيري في الفضاء جنازة/ ستأخذك العصافير تدفن رفاتك/ تحت شجرة بنت عليها عشها الجديد/ وبدمعها ستكتب تاريخ الوفاة".

لا بدّ للربيع أن يزهر

على الرغم من كل السواد الذي نجده لدى الشاعر أبو توهة، إلا أنّ الأمل والتفاؤل بغدٍ مُشرق يكادُ يكون العنوان الأبرز لمعظم قصائد مجموعته هذه؛ ثمّة تفاؤل جليّ نجده على طول الصفحات، يحمله الشاعر عنوانًا لمستقبل بلاده، حيثُ يقول: "حاول أن تحافظ على لباسٍ/ وتسريحة شعر وعطر ثابت/ فذاكرة الغرفة أصبحت جِدُّ قصيرة/ والبس خاتمًا ذا حجرٍ كريم/ لونه لون جدران الغرفة، فالحجارة تستأنس بأشباهها".

في هذه المجموعة، الواقعة في 96 صفحة من القطع المتوسط يشيرُ أبو توهة، منطلقًا من رؤيا الشاعر، إلى أنّ الربيع في غزّة وفلسطين لا بدّ وأن يزهر... عمّا قريب.

مصعب أبو توهة: شاعر وكاتب فلسطيني من مواليد غزّة عام 1992، يكتب باللّغتين العربية والإنكليزية. أسّس عام 2017 "مكتبة إدوارد سعيد العامّة" في غزّة. نشر قصائده في مجلّات شعرية متخصّصة، وكان شاعرًا زائرًا في قسم الأدب المقارن في جامعة هارفارد الأميركية بين عامَيْ 2019 و2020.

صدرت مجموعته الشعرية الأولى باللغة الإنكليزية عن دار نشر City Lights في سان فرنسيسكو بعنوان "أشياء قد تجدها مخبّأةً في أُذني"، حيثُ حصلت على جائزة الكتاب الأميركي وجوائز أخرى.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.