}
عروض

"وارثة المفاتيح": حين ترسم الحرب ملامح البشر

راسم المدهون

2 مارس 2025


في روايتها الجديدة "وارثة المفاتيح" تحدق الكاتبة السورية سوسن جميل حسن في خبايا عالمين نقيضين في زمن الحرب الكبرى التي دارت رحاها طويلا وأنتجت عالما له مفاهيمه المختلفة وخباياه الغارقة في فجائعية تحرق كل شيء بما في ذلك الأرواح والنفوس، وتعيد تشكيل الجميع على هواها وهوى نارها التي تحرق كل ما يمرُ بها.
في رواية "وارثة المفاتيح" (منشورات الربيع – القاهرة – 2024) حكاية رجل وامرأة يمثلان على مسرح الدم والقتل اليومي دورين مختلفين لا يفترقان تماما، ولكنهما لا يلتقيان، وتتتبع خطواتهما في الدروب الصعبة التي تشكل ما يشبه الحياة: "عفيف" الشرطي الذي يعيش حياة رتيبة في تفاصيلها كلها في مواجهة زوجته "رضية" المسكونة بالشهوة الجامحة لكل شيء بدءا من الجنس، وصولا إلى الشهرة والمال والقوة وحلم الوصول إلى "الأعلى" حيث الطبقة التي تمتلك كل شيء وتقبض على "زمام الحياة" على نحو يبهر "رضية" ويشدها في اتجاهه لتبتعد أكثر عن ذلك "العالم السفلي" الذي يجسده زوجها "الشرطي عفيف".
نلاحظ منذ البداية رمزية المهنة التي امتهنتها "رضية"، وأعني تجارة الثياب المستعملة والتي يعتني بها بالأساس الفقراء وأصحاب الدخل المحدود ولكنها في الخفاء تنال اهتمام الموسرين الذين تشغلهم فكرة أنها "بضائع" مستوردة من البلاد الصناعية الكبرى.
هي رحلة "صعود" "رضية" وفي سعيها الحثيث والمحموم للالتحاق بالطبقة العليا من المجتمع في زمان عاصف تتشكل خلاله ملامح جديدة وصفات مغايرة للأفراد على نار الحرب الطاحنة ومساراتها، وتضعنا الكاتبة سوسن جميل حسن في بؤرة تفاصيلها حيث تتوحد الرغبات الفردية مع الآمال "العجولة" لتشكلا معا نوعا من "حياة نيئة" تتأسس على عجل وتجرف في طريقها مصائر بشر يتحركون هنا وهناك وكأنهم دمى تحركها إرادات الأقوياء الذين يقبضون على رقاب البشر و"يمنحون" كل فرد منهم ملامحه وحدود دوره والمساحة التي يعيش ويتحرك على رقعتها في لعبة جهنمية يقبض الكبار خلالها على مسارات الحياة اليومية وتوجهاتها ويختارون لها عناوينها الكبرى وحتى الصغيرة والهامشية.




هي رواية عن الحرب السورية وتفاصيلها لعلّ أهم ما فيها هو اعتناء الكاتبة برسم ملامح شخصياتها الذين نراهم يتحدون مع أهوائهم ويلتصقون بآمالهم في الصعود رغم فداحة حقيقة أنهم يصعدون فيما ينحدر كل شيء ويتماهى مع وقائع القتل وتتحول البلاد كلها إلى ساحات حرب تنتمي لعصور قديمة، بدائية ولا شأن لها بعصرنا الراهن، تصبح معها لغة الجسد الجميل الذي تحاول "رضية" أن تستخدمها في مخاطبة الطبقات العليا مجرّد تفصيل لا تكترث به قوة الموت السائد وتضعه في مكانه الطبيعي كمفردة بائسة الحضور والتأثير في زمان هو بيد الطغاة الكبار وبيد أهوائهم ومصالحهم على نحو لا ينفصل: "رضية" في سعيها لسفح جمالها الجسدي وتوظيفه في تعبيد رحلة صعودها السلم الإجتماعي، تقف في مواجهة "الباشا" المهووس بابتذال شهواته وطغيان قدراته وتسلطه، والذي نكتشف أنه في لحظة الحقيقة ليس سوى مازوخي يلبس جلد نمر شرس فيما تتكشف ملامحه عن قط أرعن يستجدي الجلد والتعذيب في سياق "مقلوب" يعاكس صورته الخارجية التي تنهار مرة واحدة ونهائية وتجعل السوط بيد "رضية" التي تتحول إلى جلاد يسوط "الثور الجنسي" الهائج في معركة احتدام الجسدين وصدام الشهوتين.
شخصية رمزية تحمل دلالاتها وتشير إلى الطاغية، الديكتاتور المهووس بالرغبات كلها، والطامع في الاستحواذ على الجميع وتقرير مصائرهم بكيفيات جنونية تناسب نزواته وتخدم مصالحه الفردية ورؤاه المجنونة التي أخذت البلاد وأهلها إلى نهايات سوداء دمرت كل شيء.
في رواية "وارثة المفاتيح" تأخذ شخصيات الرواية بعدين: رمزي وواقعي، تتناقض وتتكامل في اللحظة ذاتها، وأعتقد أن سوسن جميل حسن نجحت إلى حد كبير في زج أبطالها على نحو فني بارع وغني التفاصيل في لعبة روائية تمنح الواقعية ملامح وحتى مضامين رمزية تتكامل معها وتتناقض أيضا في لعبة مقنعة ولها بعدها الفكري مثلما لها حضورها الإنساني الذي ينتمي بكليته وحتى بتفاصيله إلى ما خلقته الحرب الدموية من تشكل اجتماعي لا علاقة له بكل ما عرفته البلاد في حالتها الطبيعية السابقة، فنحن في هذه الرواية إزاء تحولات تضع الجميع أمام جموح كل الشهوات بدءا من الجنس، العادي، التقليدي والطبيعي، ولكن الذاهب بانحدار ساحق إلى قاع يجعله حمّى جنون شامل يذهب بالأخضر واليابس بل باليابس واليابس بعد أن تحوّل الجسد الجميل، الشهواني والباذخ والمأخوذ بسطوته، إلى لعنة كبرى تعصف في كل الإتجاهات وتدمر الذات الفردية وتجعلها تذهب بسرعة جنونية نحو مآل مدمر نهائي.




وفي "وارثة المفاتيح" احتفال بالحياة في تفاصيلها اليومية ومصائر أفرادها وبالذات زوج "رضية" الشرطي "عفيف" الذي عاش في حيزه الضيق والملتبس كل سنوات عمله الوظيفي ورأيناه في نهاية الرواية وهو يصل إلى طريق مسدود أو بشكل أدق إلى نهاية اللعبة حيث ينسحب من الوظيفة تاركا لإرادة مسدسه كتابة نهايته من الوظيفة ومن الحياة بطلقة وحيدة اختار "عفيف" أن يطلقها على نفسه أمام رؤسائه في لحظة مغادرته النهائية للوظيفة والحياة في لحظة واحدة وأخيرة وكأنه بهذا المشهد الفجائعي الصارخ في رمزيته يحقق المعادلة التي ظلت مستحيلة خلال الرواية كلها، والتي جعلتها الحرب بما فيها من أهوال ودم وخسارات طاولت بيته وأبناءه يكتب في النهاية عنوان خياره الأخير وينسحب من المشهد انسحابا دراماتيكيا يليق بعجزه الجنسي والواقعي ويليق باحتجاجات روحه على ذلك كله.
سوسن جميل حسن في روايتها "وارثة المفاتيح" تقارب حدث الثورة السورية بحساسية جميلة طافحة برؤى تحتفل بانتباهات كبرى لتأثير المأساة السورية، وتنهل من جنون حرب السنوات الطويلة التي أحرقت كل شيء وأحالت الجميع إلى أشباح تتحرك على مسرح دموي كبير نراه في المدن والشوارع والمستشفيات ووسائل المواصلات ونراه ونعيشه أكثر في الوجوه والملامح والإرادات الملتبسة وحتى المجنونة التي أخذت البشر العاديين إلى مصائر جنونية من عبث لا معنى له سوى غريزة البقاء وما تحمله من رغبة محمومة في مواصلة السير في خطوط الهذيان واللامعنى وهي رواية تنتمي للحرب لكنها ترسم بعض صورها وتفاصيلها على نحو تراجيدي جميل يمنحنا عملا روائيا واقعيا بليغا وحارا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.