دأب كتاب الدراسات الأوروبية والغربية حول تاريخ الفلسفة الزعم بأنها نشأت على حين غرَّة في اليونان القديمة، أي قبل حوالي 2600 عام مضت، حين افترض طاليس أن الماء هو المكون الأساسي للطبيعة، ثم تطورت على يد الإغريق والرومان ومن جاء بعدهم. واستمر الادّعاء بأن الفلسفة قد نشأت وتطورت في الغرب على مدى القرنين الماضيين، وذلك على الرغم من أن أول كتاب باللغة الإنكليزية عن تاريخ الفلسفة، نُشِر في عام 1687 من قِبَل توماس ستانلي، وقام بعرض العديد من الفلسفات القديمة في الشرق، بما فيها فلسفات الكلدان والفرس والصابئة، وادّعى ستانلي أن الفلسفة الإغريقية نشأت منها. يضاف إلى ذلك كتاب آخر عن تاريخ الفلسفة نشره أندريه فرنسوا ديزلانديه في عام 1728 باللغة الفرنسية، وتحدث فيه عن الفلسفة غير الأوروبية، بما فيها فلسفات الأثيوبيين، والمصريين، والليبيين، والصينيين، والتي نشأت كلٌّ منها قبل نظيرتها الإغريقية. وقد احتوى كتابه أيضًا على فصل طويل عن الفلسفة الإسلامية في العصور الوسطى.
غير أن الأمر تغيّر خلال القرنين الماضيين، مع تواتر دراسات حول تاريخ الفلسفة في كل من أوروبا والولايات المتحدة تنكر وجود فلسفات غير غربية. ويرى برايان فان نوردن في كتابه "استعادة الفلسفة: بيان متعدد الثقافات" (ترجمة فاطمة الشعلان، الرياض، نادي الكتاب، 2024) أن معظم أقسام الفلسفة في الجامعات الغربية تصرّ على أن الفلسفة الغربية فقط هي الفلسفة الحقيقية، وتزدري كل ما هو خارج نطاق المتون الفلسفية الأوروبية. ويدعو إلى تدريس المزيد من الفلسفة خارج التيار الرئيسي الأنجلو أوروبي، وفق منطق تعدد الفلسفات والثقافات، معتبرًا أن الفلسفة الصينية ليست سوى واحدة من عدد كبير من الفلسفات الأقل شيوعًا في العالم، والتي تتجاهلها أقسام الفلسفة في الولايات المتحدة إلى حد كبير، بما في ذلك الفلسفات الأفريقية والهندية وسواها. فضلًا عن تجاهل الجامعات الأميركية العديد من أشكال الفلسفة التي تأثرت بشدة بالتقاليد اليونانية الرومانية، بما في ذلك الفلسفات المسيحية والإسلامية. كما أن الذين يقولون إن الفلسفة الصينية غير عقلانية لا يكلفون أنفسهم عناء قراءتها، ويرفضونها ببساطة بسبب جهلهم. والغاية من توسيع دائرة الاهتمام الأكاديمي هو توسيع الفلسفة من خلال هدم الحواجز، وليس تضييقها من خلال بناء حواجز جديدة، بل هدم كافة الحواجز المصطنعة كي تتمكن الفلسفة من استعادة مثالها العالمي الأصلي.
يوجّه نوردن سهام نقده إلى التمركز العرقي، وإلى المركزية الأوروبية للفلسفة في الأوساط الأكاديمية، وانعزاليتها، وتواطئها مع النزعات القومية، مطالبًا بمقاربة شاملة ومتعددة الثقافات للبحث الفلسفي، انطلاقًا من حقيقة أن الفلسفة لا يتحقق عمقها إلا حين تستوعب مشارب متعددة، الأمر الذي يستدعي اعتماد مناهج تعليم متعدد الثقافات، وإتاحة التعرف على الفلسفة الكونفوشيوسية والبوذية وسواهما. ولا يخفي مناهضته للفكر الذي يميّز السياسات الأميركية المعاصرة، ودفاعه عن قيمة الفلسفة وتدريس الإنسانيات، داعيًا للعودة إلى البحث عن الحياة، بوصفه الشعار الذي ميّز فلسفة كونفوشيوس وسقراط وبوذا.
يعتبر المؤلف أن الفلسفة الأكاديمية في دول الغرب تتجاهل وتحتقر التقاليد الفكرية في الصين والهند وأفريقيا. ولا بد أن يتغير هذا، لأن الفلسفة السائدة في الغرب ضيقة الأفق، وغير قادرة على الإبداع، بل وحتى كارهة للأجانب. لكنها لم تكن كذلك من قبل، حين كانت تعترف بالفلسفات الإسلامية والهندية والصينية، وكانت الفلسفة الغربية أكثر انفتاحًا وعالمية، حيث قدّم اليسوعيون أول ترجمة كبرى إلى اللغات الأوروبية لكتاب "محاورات" الذي تضمن تعاليم كونفوشيوس (551-479 قبل الميلاد)، وأطلقوا على ترجمتهم اسم "كونفوشيوس الفيلسوف الصيني" (1687). وكان غوتفريد فيلهلم لايبنتز (1646-1716) أحد أهم الفلاسفة الغربيين الذين قرأوا بشغف الروايات اليسوعية عن الفلسفة الصينية، وأذهلته المطابقة الواضحة بين الحساب الثنائي (الذي اخترعه، والذي أصبح الأساس الرياضي لجميع أجهزة الكمبيوتر) والتغييرات، وهي كلاسيكية صينية تمثل رمزيًا نظام الكون من خلال مجموعات من الخطوط المتقطعة وغير المتقطعة، والتي تتألف في الأساس من 0 و1. وزعم الفيلسوف الألماني كريستيان وولف أن كونفوشيوس أظهر أنه من الممكن أن يكون لدينا نظام أخلاقي بدون أن نستند فيه إلى الوحي الإلهي أو الدين الطبيعي. كما أخذت الفلسفة الصينية على محمل الجد في فرنسا أيضًا، حيث كان فرانسوا كيناي (1694-1774) أحد المصلحين الرائدين في بلاط لويس الخامس عشر، وأشاد بالمؤسسات الحكومية والفلسفة الصينية بسخاء في كتابه "استبداد الصين" (1767) حتى أصبح معروفًا باسم "كونفوشيوس أوروبا".
غير أنه مع نهاية القرن الثامن عشر بدأ الأمر بالتغير، حين كان المثقفون الأوروبيون يقبلون وينظمون بشكل متزايد وجهات النظر حول التفوق العرقي للرجل الأبيض التي تستلزم عدم قدرة أي مجموعة أخرى على إنتاج الفلسفة وتطويرها. وعليه، جرى النظر إلى القديس أوغسطين، الذي ولد في شمال أفريقيا، كرجل أبيض شاحب، وبالتالي فإن استبعاد الفلسفة غير الأوروبية كان قرارًا لا يستند إلى حجة معقولة، بل إلى اعتبارات عرقية غير صحيحة، إضافة إلى جدلية تنطوي على المجموعة المؤيدة للفيلسوف كانط في الفلسفة الأوروبية، وتتألف من تلامذته الذين سعوا إلى إعادة كتابة تاريخ الفلسفة بوصفه تمهيدًا تدريجيًا لفلسفة كانط النقدية، معتبرين أنها الهدف الذي كانت تسعى نحوه كل الفلسفات السابقة. ولتحقيق هذا، قاموا بوضع معايير، اعتبرت أن الفكر غير الغربي لا يرقى لأن يكون فكرًا فلسفيًا، وجعلت الفلسفة مشروعًا غربيًا حصريًا. والأدهى من ذلك هو أن كانط بنفسه وافق شخصيًا على تلك المساعي لإعادة كتابة تاريخ الفلسفة. وسبق له أن قام في إحدى محاضراته بتعريف الإغريق على أنهم مؤسسو الفلسفة، وبنبذ أنظمة الثقافات الأخرى باعتبارها غير فلسفية على الإطلاق، أو إنها تبدو مثل "لَعِب الأطفال" مقارنةً بالإغريق. وتلاقى هذا بشكل مثالي مع الأيديولوجية العنصرية التي ضمنها كانط في كتاباته الأنثروبولوجية، والتي صنّف فيها البشر إلى أربع مراتب متباينة، ذات مستويات انحدارية في القدرة والقدر، يحتل أولها أصحاب البشرة البيضاء، الذين لديهم كل المواهب والقوى الدافعة، وثانيها يحتله البوذيون أو الآسيويون، القابلون للتعليم، لكن ليس في المفاهيم المجردة الضرورية للفلسفة، ويقع في ثالثها الزنوج والأفارقة، الذين يمكن تعليمهم ولكن فقط كخدم، وفي الرابع يتواجد السكان الأصليون للقارة الأميركية، الكسالى والفاقدون للشغف، وغير القابلين للتعليم على الإطلاق.
المشكلة هي في تبني العديد من مؤرخي الفلسفة اللاحقين لمثل هذه الأفكار والأطروحات في كتابة تاريخ الفلسفة، التي ترتب عليها ما بات يعرف على أنه حقيقة مقبولة تعتبر الفلسفة إغريقية الأصل، ونشأت من عبقريتهم الفطرية التي لا تمتلكها الشعوب الأخرى، وبالتالي فإن أي أفكار أخرى غير غربية باتت غير مؤهلة لأن تكون فلسفة حقيقية على الإطلاق. وقد تبنّى الفيلسوف هيغل كل هذه الأفكار المتكررة في محاضراته عن تاريخ الفلسفة، حيث كان يعامل الفكر الشرقي بفجاجة على أنه مادة تمهيدية، وأصرّ على أن هذا الفكر لا يستحق مكانًا حقيقيًا في تاريخ الفلسفة. ولا يخرج هيغل عن سلسلة طويلة من الفلاسفة والمفكرين الذين حاولوا تشويه الفلسفة غير الأوروبية وإخراجها من الوجود، حيث زعم مارتن هايدغر أن الفلسفة يونانية بطبيعتها، فيما ذهب جاك دريدا إلى الزعم بأن الصين ليس لديها أي فلسفة، بل لديها فكر فقط.
يحاول فان نوردن في هذا الكتاب التصدي نقديًا لمنتجات التمركز الغربي على الذات فلسفيًا، مستندًا إلى جهود إدوارد سعيد الهائلة في هذا المجال والذي اعتبر المشكلة تكمن في اعتبار الشرقي غير عقلاني، فاسدا، وساقطا، وطفوليا، ومختلفا، وأن الأوروبيين عقلانيون، وفاضلون، وناضجون. وكأن الشرقيون من الناحية العملية هم جوهر أفلاطوني، يمكن لأي مستشرق أن يفحصه ويفهمه ويكشفه، وهو ما شكل الأساس لاعتبار أن ما يقوله المفكرون الصينيون أو الهنود أو العرب، أو غير الأوروبيين، في أفضل الأحوال، غريب الأطوار، وفي أسوأ الأحوال سخيف.
أخيرًا، يريد فان نوردن أن تصبح الفلسفة أكثر عمقًا مع تزايد تنوعها وتعدديتها، وتمثل استعادة الفلسفة دعوة واضحة لكي يكون التعليم متعدد الثقافات، وبما يشكل مقدمة يمكن عبرها الوصول إلى تعلم الفلسفة الكونفوشيوسية والبوذية، ونقد النزعات الإثنية والمناهضة الفكرية التي تميز السياسات الأميركية الراهنة، عبر الدفاع عن قيم الفلسفة ومبادئها، وعبر الدعوة للعودة إلى البحث عن الحياة التي حفلت بها فلسفات كونفوشيوس وسقراط وبوذا.