مع مجموعة نوري الجراح الشعرية الجديدة "فتيان دمشقيون في نزهة" أصعد درج جبل قاسيون وأعود معه إلى ذلك "البيت العالي" الذي يطل على الشام لأستعيد من هناك ذاكرة المكان والناس. هي قصائد التجربة الشعرية الطويلة وقد وصلت حالة الوجد، فكل سطورها وصورها مكان يبوح بحاله ويأخذنا معه كي نصغي بانتباه إلى تلك "السردية الشعرية" المسكونة بحمى المكان في تعبيره عن ناسه وأزمنته وشواهده.
"فتيان دمشقيون في نزهة" (منشورات المتوسط – ميلانو – 2024) عودة روحية إلى البدايات الأولى وإن بحدقة مختلفة تتجوّل وتستعيد وتقدم لنا شهاداتها على الزمن الصعب والسنين العجاف بدون التورط في رتابة الكلمات وما تحمله من رتابة المعنى. هي قصائد مفردة تستقل بذاتها وبما تحمله من أسرار ومشهديات، ولكنها تكتمل وتتكامل بوحدتها وانتباهاتها إذ هي نشيد طويل نقرأ سطوره بالشغف ذاته الذي حملناه ذات سنة بعيدة وصعدنا معه ومن أجله إلى "حي الأكراد" العالي حيث هناك شمسٌ ساطعةٌ وفتيان يخبئون قصائد بداياتهم الأولى مثلما يخبئون أحزانهم وأحلامهم الكبرى:
"الغيوم تَتساقط في حجرتي، سريري يعج بالقوارب وجسدي دميةٌ ضخمةٌ على ساحل تبلغه موجات لاهثةٌ لا تنحسر عنه إلا لتترك أصدافًا وأشنات وسرطانات حائرة، الشمس التي غربت وراء ظهري تركت المساء يملأ الغرفة بحطام النجوم".
هي قراءات عميقة في الجزئيات والتفاصيل التي تستدرج هواجس وتأملات وأفكارًا ورغبات لا تكتمل وإن أخذتنا معها في طواف - لا يتوقف ولا يكتمل – في مرايا لا تعد ولا تحصى تحمل كل مرآة وجعها وبوحها وأسى انتظاراتها في المحطات والبلاد الكثيرة التي ظلت إشارات على "طريق دمشق" نعبرها بعدة الشعر وولعه وأساه العميق وكأننا في نزهة لا تنتهي، نزهة تستكشف متاهات لا تحصى تخبئ كل متاهة منها غيابات وفقدًا وتطلق بحرًا من الأشواق واللوعات ولحظات الانتظار الساكنة كالزمن والذاكرة. هي قصائد فراغ اللغة من زينتها المتكلفة، وديكورها المنمق، وتوحدها مع إشراقات تنبجس من حدقات كثيرة ترى وتعيد رسم ما تراه.
لا أحد في قصائد "فتيان دمشقيون في نزهة" يحضر كما تحضر أزمنة الشام كلها وبالذات "أزمنة الغياب" حيث لا مدينة تنوب عن الشام، وحيث تتناسل من المدينة وجوه وأمكنة وحوادث صغيرة وأخرى مترعة بالفجيعة واللوعة، وحيث يتجول الشعر فنرتحل معه في تجوال يضع تجربة نوري الجراح الشعرية كلها في سياقها الدمشقي وكأنها هي ذاتها سفر جمال ينتمي للغوطتين وبردى ويؤثث للمعنى بعبق الاستعادة الفنية ولغة البوح الهادئ.
تلك قصائد يكتبها أساها العميق منذ النزول البعيد من أعالي قاسيون و"حي الأكراد" والغياب الطويل في "الغياب"، ذلك الذي يستعيد معه الشاعر صورة الفتى الذي يبحث عن فتيان آخرين، كانوا هنا وأضاعتهم الأيام والفجائع، ويعرف هو بانتباهات الشاعر وانتباهات الشعر أنهم يعرشون بحضورهم في الأماكن الكثيرة والمحطات التي لا تحصى. تتوزع قصائد نوري في عناوين و"أسفار" ولكنها لا تتشابه إلا مع سرديته الروحية التي خبأت دمعًا ظل في المحاجر والروح وانتقل من بلاد لبلاد، ليعثر على "قصائده" في أزقة الحضور البليغ لمدينة الجبل العالي والذاكرة الشاهقة حيث الشعر صوت المدينة وآذان جوامعها وأجراس كنائسها، وحيث نحن آذان تصغي وتلتقط المعاني والتفاصيل وتعيدها إلى حالاتها الأولى حجارة للمكان وحجارة للزمان ذاته، الزمان البعيد البعيد، حيث كنا ومثلما كنا فتيانًا دمشقيين يلوذون بزوايا الأمكنة والشوارع ويجتهدون في رسم الحياة ذاتها على نحو ما تمنحهم مخيلاتهم من رؤى صارت اليوم بعيدة ولكنها لم تتحول إلى عتيقة أو قليلة الحضور إذ نحن أمام اكتمال المشهد والمعنى في المكان ذاته، ولكنه المكان الذي يدور بنا وندور به في بحثنا الذي لم يهدأ عن أنفسنا وعن أيامنا التي عشناها بكل ذلك العذاب وما فيه من أحلام مقهورة لا ننساها ولا تقبل هي أن تنسانا:
"والآن شمسي مرثيتي وشراعي الممزق".
في قراءة هذه القصائد أستعيد تجربة نوري الجراح منذ بداياتها مع مجموعته الشعرية الأولى "الصبي" والتي كتبت عنها في تلك الأيام البعيدة: هي تجربة تنشغل عميقًا بحالاتها الشعرية والإنسانية معًا، إذ هي استرسالات "السرد" بقوام أنيق يحتشد بالرغبة في زجنا في حمى المشهد وتكويناته ومفردات صوره، ونوري يأخذنا خلال تلك المشهديات التي لا تشبه سوى ولع حميم كي نرى بوعينا الزمن البعيد والقريب في توحدهما ووقوفهما معًا شاهدًا حيًا على ما حدث، وما كان ولم يزل أعمارنا التي ذرفناها بالجملة ولكن بالتفاصيل المروعة التي جعلت بلادًا تسكن كل تلك الكهوف المعتمة التي خبأت الغياب، ولعلني لا أجد لتلك "النزهة" التي خرج لها "فتيان دمشقيون" منذ عقود طويلة سوى حياتنا ذاتها، وها نحن ذا نراها مرآة كبرى بحجم تلك السنوات وبحجم عذاباتنا فيها، نستعيدها إذ نقرأ القصائد ونبكي.
"فتيان دمشقيون في نزهة" جموح اللغة الهادئة، المراوغة، المحتشدة بالفجيعة والطافحة بقسوة الصور الشعرية الحية وذات الحضور النابض بما في الجمال من قوة وما فيه من رنين نسمعه فنستعيد ونستعيده فنصغي وننتبه إلى أن الذاكرة ذاتها يمكن لها أيضًا أن تكون شعرًا وأن تحمل كل هذه الدلالات والمعاني التي تجعل سردية شعرية تعصف بهذا الميراث الطافح فينا لأن نستعيد الزمن على نحو فني يحمل عبق الذاكرة وأريجها ويشيع في أرواحنا ياسمين الشام حيث الشعر يعيد ترتيبنا في جوقة تنشد وتستعيد وتعيد وتنشد ونستعيد.