وعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأنه سيوقف الحرب الروسية الأوكرانية "في 24 ساعة"، وكرر وعده في أكثر من مناسبة خلال حملته الانتخابية، لكن وبالرغم من مرور ما يقارب الشهرين على تنصيبه رئيسًا للولايات المتحدة لم ينته الصراع، ولم يتمكن من وقف الحرب الدائرة. وإذ كان المقصود هو المبالغة في قدرته على حل الصراع في وقت قصير، إلا أن كثيرًا من الشك بات يعتري وعده، ليس لأنه لا يمتلك القدرة بالفعل على الوفاء به، بل لأنه يريد تقديم خدمة مجانية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من خلال إنهاء هذه الحرب على حساب الشعب الأوكراني، بناء على توهمه امتلاك القدرة على فعل كل شيء، اعتمادًا على تربعه على عرش الولايات المتحدة، واعتداده بنفسه استنادًا إلى عنجهيته وغطرسته وصفاقته، وهو ما يفسر إهانته للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض، لأنه رفض طلبه تقديم تنازلات ووقف إطلاق النار من دون الحصول على ضمانات أمنية. وبعيدًا عن تصرفات ترامب فإن الحرب الروسية على أوكرانيا التي بدأت قبل أكثر من ثلاث سنوات، أودت بحياة مئات آلاف الضحايا من الأوكرانيين والروس، فضلًا عن ملايين الجرحى والمصابين، ودمار وخراب مدن وقرى كثيرة، واندلعت لأسباب عديدة، حيث يقدم المتخصص بالشأن الروسي عاطف معتمد في كتابه "روسيا وأوكرانيا: حرب عالمية غير معلنة" (القاهرة، دار الشروق، 2024)، رؤية واسعة للصراع الروسي الأوكراني، تهدف إلى إتاحة المعلومات والتحليلات، وعرض وجهات النظر المختلفة له، عبر الاعتماد على تفسير جيوسياسي للحرب الدائرة منذ 24 فبراير/ شباط 2023، وبما يحول كتابه إلى مرجع يساعد على فهمها، انطلاقًا من مناهج التفسير المتبعة في الجغرافيا والتاريخ الجيوسياسي.
يبدأ المؤلف كتابه بتبيان نشأة الروس، كشعب ونظام سياسي، قبل أكثر من ألف عام، حيث كانت الأراضي التي نشأت فيها روسيا حتى نهاية القرن العاشر في شمال شرق أوراسيا ميدانًا للتغير المستمر بين ممالك رعوية في الأراضي السهلية الواصلة بين العمق الآسيوي والهامش الأوروبي. وتشكلت فيها قبائل "السلاف"، الذين ينتمي إليهم الروس كجماعة عرقية، في كنف الوحدات الأقوى من الدول والممالك الآسيوية. ثم تعاقبت على المجال الجغرافي الذي سيظهر فيه الروس بين قبائل القوط الجرمانية، التي تواجدت في مناطق شرقي أوروبا، التي امتدت من شمال البحر الأسود إلى بحر البلطيق، ومن نهر الفولغا إلى نهر الدانوب. وإثر ذلك توالى على المجال الجغرافي الذي سيظهر فيه الروس كل من القبائل التركية والخزر وعلى مشارف دولة الخزر ظهرت قبائل الـ"روس". ولم تكن كلمة روس (Rhos) تطلق في تلك الفترة على مكان أو دولة، بل على تلك القبائل ذات الصلة بعشائر "الفرنجية" ذات الأصل الإسكندنافي، والتي حكمت الشعوب السلافية في شرقي أوروبا في تلك الحقبة. وقد رأت بيزنطة في التحالف مع الروس ضمانًا لاستمرار الحركة البرية للتجارة في القارة الأوروبية، فيما عثر الروس لدى بيزنطة على الدستور المفقود لصياغة دولتهم الشابة التي كانت تشق طريقها في عالم متنازع القوى، وتعلم الروس من بيزنطة الكثير، وأهم ما تلقفوه ذلك التقليد الروماني القائم على إقامة "مملكة الرب" التي تحكم العالم باسم المسيح. وكانت قبائل الخزر اليهودية قد استعانت ببعض القبائل الروسية في حروبها ضد الدولة العثمانية الإسلامية التي كانت قد وصلت قلاعها المتقدمة إلى منطقة القوقاز، فضلًا عن دول البلقان. ثم خاض الخزر حروبًا ضد روسيا الفرنجية للسيطرة على شرق أوروبا، فنجحوا في إخضاع العاصمة الروسية "كييف" لسيطرتهم، وأجبروا الروس على دفع الجزية، وذلك قبل أن يتمكن الروس من رد الخزر إلى شمال القوقاز. وانتهت "روسيا الفرنجية" بعد أن عاشت قرنين من الزمن، بين أعوام 862 و1054، وبعدها بدأت روسيا مرحلة جديدة حول مدينة كييف.
ولأن كييف كانت المركز فقد اصطلح الباحثون على تسمية تاريخ الدولة الروسية منذ منتصف القرن الحادي عشر باسم "روسيا كييف"، التي لم تعمر طويلًا، حيث عاشت قرنين من التفكك من القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر. أما المرحلة المغولية من التاريخ الروسي فتمتد من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر، ثم بدأت مرحلة ما بعد المغول في "روسيا المسكوفية"، وذلك مع نجاح الأمير إيفان الثالث (إيفان العظيم) (1462 ــ 1505) في تحقيق الاستقلال عن المغول، واستلهمت موسكو من بيزنطة رسالة الممالك الأرثوذكسية على البحر المتوسط، وأصبحت بذلك مؤهلة لمواجهة حاسمة مع دول أوروبا الكاثوليكية والبروتستانتية، ومشحونة بطاقة هائلة للتوسع والتوغل، حيث استمرت في التوسع حتى عهد ميخائيل الأول في عام 1613 الذي بدأت معه حقبة "آل رومانوف"، وعرفت باسم "إمبراطورية روسيا القيصرية" التي ستستمر حتى اندلاع الثورة البلشفية في عام 1917. ومع هذه الثورة بدأت مرحلة روسيا السوفياتية، التي توسعت بدورها، وخاصة بعد هزيمة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، حيث سيطر ستالين على ألمانيا الشرقية، وبولندا، ورومانيا، لكن مع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 فقدت روسيا دول البلطيق وأوكرانيا وبيلاروسيا ومولدوفا. واعتبرت أوكرانيا الرابع والعشرين من أغسطس/ آب من عام 1991 عيد استقلالها الوطني عن الإتحاد السوفياتي.
عندما تولى فلاديمير بوتين رئاسة روسيا لم يخف صراعه العلني مع الغرب وسعيه إلى استعادة مكانة روسيا على الساحة الدولية. وبدأت حدة الصراع بين روسيا وحلف الناتو بالتزايد في بداية عام 1993، حين أبدى عدد من دول حلف وارسو السابقة رغبتها في الانضمام إلى الناتو، ولا سيما جمهورية التشيك، وسلوفاكيا، والمجر، وبولندا، أما أوكرانيا فلم تجد فرصة للانضمام إليه، لكنها سعت إلى تعزيز التقارب معه كي تخفف الضغط الروسي عليها، وذلك على الرغم من قبولها شروط الولايات المتحدة بالتخلص نهائيًا من الأسلحة النووية، بل وصادقت في نهاية عام 1994 على معاهدة حظر الانتشار النووي، واكتفت الولايات المتحدة بتقديم بعض المعونات المالية لها، وتوقيع الولايات المتحدة وروسيا والمملكة المتحدة مذكرة بشأن ضمان أمن أوكرانيا وحدودها. وجاءت "الثورة البرتقالية" في أوكرانيا عام 2004، كي تخلع الرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش، وتولى مكانه الرئيس الموالي للغرب فيكتور يوشينكو، وهو ما اعتبرته موسكو عدوانًا على مجال نفوذها الإقليمي. واستمرت المناكفات بين روسيا والغرب في التصاعد، وأسفرت عن إقدام روسيا على ضم شبه جزيرة القرم إليها في 2014، بالرغم من المذكرة التي وقعتها مع الولايات المتحدة بشأن أمن أوكرانيا. ورد حلف الناتو على روسيا بفرض حزمة من العقوبات الاقتصادية، وبتكثيف حضوره الاستخباراتي في دول البلطيق الثلاث، إستونيا، لاتفيا وليتوانيا، وتجهيز قوات انتشار سريع وقت الطوارئ. كما قام الحلف بدعم أوكرانيا عسكريًا من دون الانخراط بقوات مباشرة للناتو.
غير أن فهم الحرب الروسية على أوكرانيا يُبنى على فهم أبرز معالم أسلحتها، حيث لا يجري استخدام أسلحة نووية ولا بيولوجية أو كيميائية، بل سلاح آخر صامت هو "سلاح الغاز"، حيث استخدمته روسيا بفعالية ضد أوروبا. وسبق لروسيا بوتين أن استخدمته في شتاء 2006 ضد أوروبا، وفي أوج برودة الطقس فيها، حين أوقف الكرملين تدفق الغاز إلى أوكرانيا، وهو ما قلل بدوره من تدفقه إلى دول غرب أوروبا.
يرى المؤلف أن الحرب على أوكرانيا يعود تراكمها إلى أكثر من 20 سنة، وبالتحديد مع صعود بوتين إلى سدة الحكم، واستفادته من كل أخطاء سلفه بوريس يلتسين، وسعيه إلى تقوية دور روسيا في النظام الدولي والسياسة الإقليمية والدولية، لكن ردّ حلف الناتو على هذه الحرب، بضم كل من فنلندا والسويد إليه، شكّل خسارة كبيرة بالنسبة إلى روسيا على المستوى الجيوسياسي، وذلك بعد قرنين من حياد السويد عسكريًا وأكثر من سبعة عقود من حياد فنلندا، تضاف إلى الخسائر الجسيمة الأخرى.