تختار رواية الكاتب الفلسطيني والسوري سمير الزبن "دفتر الرئيس" سياقا مختلفا لمقاربة الحدث السوري السياسي وعناوينه التي قرأناها في الروايات السورية الأخرى، بل لعلّها أكثر من ذلك وضعت الحدث السوري بأهواله الكبرى كخلفية رؤية ذات إيقاع هائل من أجل "استدراج" الطاغية ذاته إلى وقفة اعتراف تنهمر كطوفان من المعلومات وسرديات الوقائع بل وحتى الأهواء والرغبات والأحلام الفردية بكل تلاوينها وملابساتها لرسم صورة الطاغية على نحو يقارب بشكل درامي ساطع الوضوح جوهر تلك الشخصية التي رغبت طيلة الوقت في إثبات علاقة ما تربطها بالإنسانية ومكوناتها وجوهرها.
رواية "دفتر الرئيس" (منشورات دار الحرية – 2018) أقرب إلى مونولوج هذياني الطابع والسرد لتلك الحالة من النرجسية العميقة التي انطلق الطاغية من قداستها وادعاء جدارتها وأحقيتها أن تكون كافية – بدون أي سند واقعي – في تسويغ قراراته وحروبه وتبرير جرائمه جميعا: الكاتب سمير الزبن شاء في روايته "أنسنة" الطاغية الرئيس بالقدر الذي يسمح له أن يكون "طبيعيا" كي يسترسل في "هذيان" قصة حياته ومحطاتها ومنعطفاتها وما فيها من وقائع كبرى وليقدم "شهادته المتخيلة" عن زمن الدم والحرائق والحروب التي لم تتوقف يوما واحدا على مدار عقد ونيف من السنوات راح ضحيتها أكثر من مليون من القتلى وملايين من المشردين ناهيك عن تدمير شبه شامل طاول المدن الكبرى والصغيرة وحتى القرى وتسبب في تشريد أهلها داخل البلاد وخارجها، فالأهم في سياق تلك السردية المتخيلة كاعترافات من الطاغية ذاته هو ولع الطاغية بذاته وحتى بتخيلاته وأوهامه التي يعرف هو نفسه قبل أي أحد آخر أنها ليست سوى "نشوة" شارب الدم ورقصته المجنونة على جثث ضحاياه.
الطاغية في رواية "دفتر الرئيس" يرى البلاد وأهلها من "خرم إبرة" ويراه قراء "روايته" كائنا يقترب ويبتعد فيما يحجبهم سيل الدم والرعب، بل لعل تلك المشاهد التي تحكي عن مغامراته النسائية (هي من أجمل فصول الرواية) تأخذنا إلى رؤية عالم الطغاة وعبوديتهم المطلقة والمعدة مسبقا لطاغوت السلطة التي يصنعونها بتدبر ومكر هائلين ليتحولوا إلى عبيد تحركهم مصالح السلطة ومقتضياتها وبالضرورة مآلاتها النهائية.
قدم سمير الزبن كثيرا من هذا في "لعبة" يتبادلها الطاغية الإبن مع الطاغية الأب الذي كان يعده ويدربه على وراثة الملك، فحتى في تلك "الفسحة الإنسانية" التي توهم الطاغية الإبن أنه أعدها لملاقاة حبيبته بعيدا عن رصد عسس أبيه يكتشف لاحقا أنها لم تكن كذلك إذ أن رجاله الذين اختاروا له الحي والبيت ليلاقي حبيبته بعيدا عن الأنظار لم تكن كلها إلا من تدبير أبيه وأنهم هم ذاتهم ليسوا سوى رجال أبيه الذي يراقب ويخطط ويوجه حياته كما لو أنه مشدود إليه بخيوط لا مرئية وكأن الكاتب يضعنا خلال ذلك أمام الحقيقة الكبرى التي عرفها العرب منذ أقدم العصور والتي قالت لنا خلال التاريخ كله أن "الملك لا يورث إلا الدم".
قلنا في مطلع هذه القراءة إن "دفتر الرئيس" تقوم على "مونولوج" الطاغية في سرد حكايته ونضيف هنا أن هذه البنائية الروائية – وان رأينا أو سمعنا أحدا غيره خلالها – لا تلغي أنها رواية ببطل درامي وحيد: حين تختفي وجوه البشر، العامة وحتى الأقرب، تبدو البلاد ببشر مفترضين، يحضرون باعتبارهم الغائبين مرة والمغيبين مرات أكثر وتحضر معهم نتف غير مترابطة من حكاياتهم وموتهم.
رواية "دفتر الرئيس" إذًا هي حكاية التوريث بين الطاغية الأب وإبنه وهي أيضا حكاية الطغاة الكبار في العالم المحيط بكل ما فيه ومن فيه من دول كبرى هبت لنجدة الطاغية الإبن في "محنته" التي أوشك خلال محطات كثيرة منها على السقوط فهبوا لنجدته وإعادته لعرشه محروسا بحرابهم ومذابحهم وأهوالها، وهم ذاتهم من سيقررون في محنة لاحقة تعرض لها أن يفلتوا حبل الخلاص الذي كانوا يمسكون به كي يدعوه يسقط سقوطا حرا في ليلة حلم بها الشهداء ومعذبو المعتقلات والسجون وأرامل البلاد وأيتامها، تلك الليلة التي بدت في سياق الرواية كنبوءة ساطعة كانت تنير عتمة عاصمة الأمويين وتفتح الأبواب المغلقة لتنهمر في الشوارع وجوه ملايين البشر الغائبين والمغيبين...
رواية سمير الزبن "دفتر الرئيس" نشيد حزين، موجع ومثقل بفداحة الحياة التي صارت جحيما، والتي أوشكت في الأيام الأخيرة أن تصبح سكونا يطبق على البلاد وأهلها ويدفع الجميع لليأس وفقدان الأمل قبل أن يطلق التاريخ مكره من عقاله العظيم ويأخذ الجميع نحو نهاية لم يتوقعها كثر من الناظرين، لكنها مع ذلك كانت هي ذاتها النهاية التي يقبلها التاريخ، بل التي هي حتميته وعنوانه في تلك الليلة من كانون الأول/ ديسمبر بكل ما حملته من بشائر ومن صرخات وهتافات باسم الحرية وباسم المفقودين على دروبها وفي أقبية زنازينها التي لا تحصى.
إنها رواية أخرى عن الثورة السورية، مختلفة، نتجول خلال سطورها بمتعة واهتمام ونستحضر فكرة الحياة من جديد باعتبارها ما نعيشه بأمل، وباعتبارها انتصارا لمن سقطوا على دروب الثورة والحرب مضرجين بدمهم ومضرجين بأحزانهم وصبرهم الطويل من أجل أن لا يتناسل الطغاة وأن لا يسلمنا كل طاغية منهم إلى طاغية جديد من أبنائه يأتي فيواصل اعتقال التاريخ والقبض على الحياة.