"رجل يفتش عن حاضره" رواية صدرت حديثًا للدكتور قاسم قاسم عن دار بيسان في بيروت، وهي مهداة إلى جبران خليل جبران الثائر على أمّة تكثر فيها العاهات والانقسامات والتناقضات، وتضمحل فيها العدالة الإجتماعية والديمقراطية. يطالعنا الإهداء كصرخة لا تلاقي صداها، مع الأسف، منذ زمن طويل. صرخة رجل من الماضي ومن الحاضر وربما من أزمنة متعددة يبحث عن حلّ لخطايا أمّة، خلق من رحمها. أما غلاف الرواية فيأخذنا إلى الأرض في مندرجاتها الطبيعية، يتوسطها رجل، بالأسود والأبيض، يبحث في ظلام هذا العالم عن ذاته، عن وعيه، ولكنّ علامة الاستفهام تشير إلى المجهول.
ينطلق الكاتب بإيضاح شخصيات روايته منذ البداية كدليل على رغبته بإعانة القارئ لتلمّس خلفية القصة العميقة المضمون، السهلة الأسلوب، وخصوصًا المخفي منها، وهو أكثر من المعلن. فنتعرّف بداية على بطل الرواية طارق، بحسب هويته الأصلية، الآتي من عكار للعمل في بيروت، ولكنّ أصحابه في المطعم حيث يعمل ينادونه بعصام لأنّه عصاميّ يحبّ عمله ويتفانى فيه. من الصفحة الأولى، يلقي الكاتب بعدد من الرموز، كالتفاحة الحمراء التي تتصدّر الطاولة الصغيرة في غرفة عصام، والتي تشير برمزيّتها إلى قصة آدم وحواء. أو قوله "زبائن المطعم من جنسيات متعددة الذين يفضّلون الأكل اللبناني التقليدي"، وكأنّ اللبنانيين على اختلاف مشاربهم لا يتفقون إلاّ في موضوع مطبخهم المميّز.
ركّز قاسم على الرموز التي سنراها في مختلف أحداث الرواية متأثرًا بتيار الرمزية الحديثة الذي نشأ في أوروبا في القرن التاسع عشر. هذا التيار الذي اعتمد على استخدام الرموز والإيحاءات بدلًا من الوصف المباشر، وذلك بهدف الإضاءة على العالم الداخلي للشخصيات. وبالفعل، فقد اعتمد كاتب "رجل يفتش عن حاضره" على رموز متنوعة لترجمة الحالات النفسية التي تتخبط بها شخصياته، وبالتالي لتصوير انفعالاتها وعوالمها الخفيّة. ولعلّ الحديث عن المدرسة الرمزية لا يكتمل من دون التطرق إلى أحد أكبر روادها، الشاعر والكاتب البرتغالي فرناندوا بيسوا، الذي استخدم الرمزية للتعبير عن الهُويات المتعددة. وقد كان بيسوا شغوفًا بالعلاقة التي تربط الإنسان بالزمن، والحاضر بالنسبة له ليس سوى ماضٍ مؤجل. كتب بيسوا بأسماء شخصيات مستعارة حتى صارت هو. صحيح أنّ شخصياته كانت متخيّلة، ولكنها حملت مشاعر وتاريخ وهُويات، ترمز إلى مفاهيم كونية. وما تعددّ أسماء بطل رواية قاسم سوى تعدّد في هُويات الرجل، بل في انتماءات اللبنانيين وحتى العرب، بداية مع عصام بشخصيته الخجولة والهادئة، وبوتيرة عمله الرتيبة التي يصورها الكاتب عبر مصطلحات مثل "كعادته، حركة آلية، جاء يومه عاديًا..." للإشارة إلى طباع بطل الرواية الذي يتعرف على زبون كريم بالتزامن مع تعرّفه على ساره عبر وسائل التواصل الاجتماعي. والشابة السورية التي تعيش بين بيروت ودمشق التي "أخذته جاذبية سارة إلى مقلب جديد في حياته" (ص: 14). توالت الأيام حتى أقنعت سارة عصام بالعمل لدى هذا الزبون الكريم مالك محل السكاكر. مع عمله الجديد "أقفلت صفحة من حياته وفتحت صفحة جديدة، تغيّر فيه نوع عمله، لباسه، الزبائن، الرائحة، الوقت..." (ص: 35)، إن ما أشار إليه الدكتور قاسم في هذا الاقتباس هي رموز تُشير إلى التحوّل المفاجئ من هوية إلى أخرى في شخصية بطل الرواية. حتى نكتشف فيما بعد كيف صار عصام "الشيخ عادل" إثر انضمامه إلى جماعة دينية، ولماذا تزوجت سارة به وتركت فرصة اللجوء إلى بريطانيا.
استعان الكاتب لتحقيق المصداقية في روايته بصديقات وأصدقاء له لترجمة اللهجات المتعددة المستخدمة في الحوارات، كالعكارية والشامية والحمصية. وقد أتت هذه الاستعانة بمكانها الصحيح نظرًا لانعكاس واقعية المفردات على فهم المتلقي لسياق هذه الحوارات. أحاديث بين الزوج والزوجة، منها ما تفتح الجرح عميقًا على أوطاننا العربية، في أنظمة عاثت فسادًا، وفي إنسان مرتهن لهذا النظام أو لتلك العقيدة. ونستشهد من الصفحة 64 من الكتاب: "خوف الزوج بدأ يكبر، وخصوصًا عندما تخبره عن أشياء كانت تسمع بها، وعن المعاملة القاسية والفظيعة داخل السجون، والتعذيب الذي تقشعر له الأبدان، حيث كان يوقف النظام المسجون في باحة السجن عاريًا في عزّ البرد، ويُصب عليه الثلج. وبدوره يخبرها عن نسوة يجرهنّ تنظيم داعش كأنهنّ قطيع من الغنم...".
ومن ظلم السجن الصغير حيث الشيخ عادل إلى ظلم الحياة والسجن الأكبر الذي قد يكون عقيدة ما، أو مرض أو فقر. في سياق الأحداث، يعيش القارئ مع شخصيات الرواية في تبدلات أحوالهم: من مرض الزوجة الأولى ووفاتها، إلى ميساء الزوجة الثانية ومن ثم موتها، إلى سبب قطع المال عن عصام ما أدى به إلى الفقر المدقع والتشرد. صفحات من عمر رجل كان كاتبًا ومفكرًا مهمًا قبل أن تؤول به الحياة إلى متسوّل على قارعة المطعم نفسه الذي كان يعمل به. يبحث القارئ عن وعي الرجل في الوقت نفسه الذي يفتش هذا الرجل عن هُويته. لكنّ هذا البحث الأخير يأتي نتيجة تديّنه والقلق الوجودي الذي خُلق بداخل بطل الرواية، وهو تجسيد لحالات كثيرة وفي مختلف المجتمعات. ولعلّ أبرز من ناقش هذه الصراعات الداخلية للإنسان مع الإيمان والأخلاق هو دوستويفسكي لا سيما في روايته "الأخوة كرامازوف"، وما يترتب على هذه الصراعات من قلق وجودي للإنسان وارتباطه بمعنى الحياة.
عمد الدكتور قاسم قاسم إلى تسليط الضوء على الضياع الداخلي لرجل متعدّد الهُويات، وضياع مجتمع متعدّد الأنظمة، نتيجة التأثير السلبي للإثنيات الدينية والطائفية والحزبية. وفي الواقع، إنّ هذه الفكرة تطورت من الفلسفة إلى الأدب، وأصبحت جزءًا أساسيًا من النظرة الحديثة للذات. ففي حين صوّر الكاتب هنا روايته بتصوير واقعي، مسميّا الأشياء بأسمائها، إلاّ أنّه، وعبر عدسته الفلسفية، استخدم لغةً غنيّةً تحمل الكثير من الرموز والإيحاءات الفلسفية، تتناول مفهوم الكينونة وارتباطها بالزمان، ناطقًا على لسان شخصياته بالكثير من المعاني التي تلامس الواقع فترفعه إلى المعنى، بعيدًا عن الوعظ وبأسلوب رمزي بديع. أسلوب يأخذك في الوصف، لا إلى عمق الشخصيات وتعقيداتها فحسب، بل إلى رحلة لمدائن وشوارع، فنتعرف من خلالها إلى جمالية مغيب الشمس خلف بحر بيروت، أو نشمّ من خلال الكلمات رائحة القهوة في استعارات جميلة، ومنها في الصفحة 96: "تاه في شوارع المدينة حتى بدأ النهار ينسحب خجلًا، تاركًا الحضور لصديقه الليل، الذي أضاء أحد أعمدته وجه المتسولة". ونقرأ في الصفحة 109: "غبش المساء، فاحتلت العتمة فضاء جلوسه. لم يشعل النور، ظل قابعًا في مكانه حتى أطلت خيوط الفجر، فأمسك الرسالة، ونشرها على أشعة الضوء، ثم داعب ضياعه مع فنجان قهوة".
"رجل يفتش عن حاضره" هي رحلة رجل يبحث عن خلاصه في الدين أو السياسة أو الحبّ أو حتى في الكتابة متأثرًا بالكاتب الفرنسي الشهير جان جاك روسو القائل بأهمية العقد الاجتماعي وتطبيق القانون بعيدًا عن عبودية الشخص أو الحزب أو التنظيم (ص 127). رواية تكشف الحقيقة الفانية للإنسان، تضعه وجهًا لوجه أمام معنى حياته، فإمّا أن يعي معناه فيجد ذاته الضائعة في متاهة الدرب، وإمّا أن يغادر هذه الحياة من دون أن يدركها.