}
عروض

"من سراديب الذاكرة": فلسفة البقاء في زمن المَحْو



تبدأ القصّة الحقيقيّة عندما يدرك الإنسان أنّ ذاكرته ليست مجرّد مستودع للأحداث والمواقف، بل هي نسيج متشابك من التجارب والانفعالات والتأمّلات التي تصوغ هويّته الفرديّة والجمعيّة؛ إذ لا تكاد تخـلو الذاكـرة من استدعاء الأصول عبر تقديس النماذج الأولى، والافتتان بنـقاء البدايات، وتخليد اللحظات التي تمنح الوجود معنى أعمق، تتماهى مع محيطها الواقعيّ، فتؤسّسه تاريخيًا وأنثروبولوجيًا في وعي الأفراد والمجتمعات؛ لتشكّل عمليّة تأويليّة تُعيد ترتيب الماضي وفقًا لرؤى الحاضر وأسئلته، وهو ما يتجلّى بوضوح في كتاب "من سراديب الذاكرة: مذكرات وقصص تراثيّة"، الصادر عن دار سهيل للطباعة والنشر (2025) للكاتبة فوزية كتّاني.
تعيد الكاتبة من خلال سراديبها العشرين، تفكيك مفهوم الذاكرة عبر سرديّة شفويّة جَمَعتْها من مدخّرات ذاكرة أختها الكبرى "حفصة"، حيث تتعالق بحميميّة واضحة مع ذاكرتها الطفوليّة، لتشكّل بنية ديناميكيّة، تتداخل فيها الأحاسيس والمفاهيم والمعتقدات الأولى، التي تظهر من خلالها الذاكرة ككيان متشابك بين الماضي والراهن، وبين الفرديّ والجمعيّ، وبين العفويّ والمقدّس؛ ليُعاد تشكيلها بنكهة ماضويّة أصيلة، فلا يظهر هذا التشابك في إعادة إنتاج الذكريات فحسب، بل يمنحها طابعا رمزيًّا، يُحوّل الزعتر الجبليّ من مجرّد نبتة برّية إلى استعارة تنسج قلقًا وجوديًّا بريئا، لازَمَ الكاتبة حياةً طويلة، بعد أن شحنت طفولَتَها بقلقٍ احتارتْ معه كيف تكفّر عن خطيئتِها لقطفها زعتر الحيايا (زعتر الجبل) حينما صرخت بها طفلة أخرى مُؤنّبة كانت ترافقها في مغامرتها الطفوليّة: "يي، ليش قطفت زعتر الحيايا؟ الليلة الحيّة بتيجي على داركم وبتقرصك، هذا الزعتر للحيايا وممنوع حدا يوكله غيرها". هكذا يصبح الماضي أشبه بظلّ طويل، لا يفارق صاحبه، ويهمسُ له بأنّ الذاكرة ليست مجرّد محطات زمنيّةٍ، بل بذورًا تنمو منها هواجسنا ومخاوفنا وأسئلتنا الكبرى.

البنية السرديّة: بين التشظّي والتأمّل

تكشف كتّاني من خلال عنوان كتابها "من سراديب الذاكرة" عن كمٍّ كبيرٍ من التكثيف والإيحاء والترميز؛ كما زّينت الغلاف بلوحةٍ استعارتْ من الماضي تفاصيل تختزلُ تجربةً إنسانيّةً ندرك من خلالها أنّنا أمام مرحلةٍ معقّدةٍ داخل سراديب الوعي، تشكّل عناوينها مفاتيح لإشاراتٍ دلاليّة تدور حول الموضوعات الرئيسة، فتمنح النصّ زخمًا فلسفيًّا ونفسيًّا يجمع بين السرد وتأملاتٍ فكريّةٍ تعكس قلق الذات والهويّة، عبر لغةٍ مشحونةٍ بالأسئلة والتأمّلات.
فمنذ اللحظة الأولى، يطالعنا النصّ بحساسيّة مرتبكة تجاه المكان والروائح والأصوات، إذ لا تقدّم الكاتبة للقارئ إجاباتٍ مباشرة، بل تضعه أمام مفارقات مركّبة، تُحوّل الكتابة إلى أفقٍ احتماليّ، مخلفةً بذلك فضاءً سرديًّا ينفتح على احتمالات لا نهائيّة، تتكرّر فيه مفرداتٍ مُنتجةٍ لخطابٍ يعتمد على الإيقاع الداخليّ للجمل، وعلى التكرار والتشظّي في بنيةٍ سرديّةٍ تحاكي طبيعة الذاكرة المتقطّعة 
والمتداخلة؛ مثل "الصدى"، "الضياع"، "الهروب"، "المتاهة"، "الأمكنة المنسية"، وكأن القارئ يتجوّل في متاهة حسّيّة قلقة في أزمنة متشعبة تعتمد على تعدّد الأصوات السرديّة  والتداخل بين الأزمنة، والاستخدام المتداخل للأفعال الزمنية التي تعكس هشاشة الزمن داخل النص. 





ويمتدّ هذا التوتّر إلى الجزء الذي يتناول لحظة سقوط الطائرة الإنكليزيّة العسكريّة، في الوقت الذي تحوّل فيه المشهد من وصف يوميّ للحياة في القرية إلى لحظة كارثيّة مأساويّة مفاجئة، كأنّها شرخ في نسيج الزمن، وبرز التوتّر هنا في اعتماد السرد على التناقض بين مشهدين: الفتاة التي تتخيّل ثوب عرسها، وتحلم بالمستقبل، تقابلها طائرة تسقط فجأة وتحيل لحظة الفرح إلى مأساة؛ ليتجلّى البعد الفلسفيّ في النصّ؛ حيث تتساءل الكاتبة عن هشاشة الحياة، وكيف أنّ الزمن قد يتوقّف في لحظة، تمامًا كما توقّفت حياة الفتاة تحت أنقاض بيتها؛ فالموت في هذا السياق لم يكن مجرّد حدث عابر، بل كان جزءًا من ذاكرة جمعيّة ارتبط في وعي من عاش معنى الاستعمار والانتداب، ورسَم فهمًا مختلفًا لمعنى الحياة والموت.

الاستعارات السرديّة في التفاصيل

إنّ اللاّفت في اعتماد الكاتبة على السرد الشفويّ كإطار بنيويّ، هو الطريقة التي حوّلت بها التفاصيل الصغيرة إلى استعارات كبرى؛ كتحوّل اللعب بالحقائب النسائيّة إلى محاكاة مبكرة للأدوار الاجتماعيّة، والبحث عن حبّة بندورة لتتحول إلى سيارة أو حصان، ما يعكس قدرة الطفولة على تخليق عالمٍ بديلٍ عن الواقع؛ هذا التناقض بين الإدراك الطفوليّ والتصورات الناضجة يتكرّر في مواضع مختلفة من سراديب الذاكرة، عبر استحضار الكاتبة لتجاربها الذاتيّة مع السرد، والذي منح الرواية ملمحًا من طابع السّيَرِ الذاتيّة، ومنح النصّ حميميّة أظهرت العلاقة الوطيدة والمركّبة بين الفرد وبيئته ومحيطه الاجتماعيّ.
كما أظهر النصّ السرديّ قدرةً استثنائيّةً على إبراز تفاصيل ذات دلالاتٍ وجوديّة، كوصف الكاتبة لـ: "حالة انتظارها لأبيها عند الدبّة كلّ مساء، فيما تهتزّ السلال على كتفه، وتحمل معها رائحة الأرض الممزوجة بتعب النهار الطويل، وهناك، عند القناطر الثلاث، كان الزمن يتباطأ، كأنّ اللحظة تستعير امتدادها من الحجارة التي عاشت أكثر ممّا عشنا جميعًا" (ص 45)، فلا تقتصر هذه المشاهد على كونها صورًا يوميّة، بل تتحوّل إلى شِفراتٍ تكشف عن صمود الإنسان وتعلّقه العميق ببيئته وأرضه؛ فتمنح تلك التفاصيل للهويّة بعدًا إنسانيًّا يتجاوز الخطابات السياسيّة المجرّدة، مُقدّمةً سردًا لا يقتصر على التوثيق بل يعيد بناء الهويّة عبر تفاصيل الحكايات.
إضافة إلى أنّ البنية اللغويّة تعكس أثر الاستلاب الثقافيّ، وتقاطعات ما بعد الاستعمار في بعض مواضعها، فتأتي مُجسِّدة ازدواجية اللغة كفعل مقاومة وتأرجح بين الانتماء والاقتلاع، على نحوٍ يقترب من تفكيكات فانون للهوية المأزومة؛ إلا أنّ فعل الكتابة هنا ما هو إلّا فعل مقاومةٍ يعيد تفكيك الذاكرة ويعيد تشكيلها ضمن سرديّة تقاوم المحو، إذ لا تكتفي بتوثيق الإنسان، بل تمنحه لغةً تعيد خلق وجوده، تمامًا كما قال سلمان ناطور: "أدب الذاكرة هو الوصف الجميل لهذا الإنسان، وذاكرة الأدب هي الصياغة الأجمل لهذا التاريخ".
ومن خلال ذلك الامتداد السرديّ، فإنّ استحضار الماضي بكلّ سراديبه، لا يتحقّق إلّا بفهم السياقات التي صاغت حكاياته، ممّا يستدعي تحليلًا أعمق للبُنى الاجتماعيّة والسياسيّة التي تحيط بالنصّ، حتّى لا تتحوّل الذاكرة إلى مجرّد ظلالٍ هاربة، بل إلى فعل استعادةٍ واعٍ يُقاوم الاندثار. ففي زمن يُعاد فيه تعريف الحاضر وفقًا لقوى الهيمنة، تصبح الكتابة اختبارًا لمصداقيّة الذاكرة، ومُساءلةٍ دائمة: هل نحفظ التاريخ أم نعيد خلقه؟ هل نكتب لنحفظ أم لنكسر قيود النسيان؟
هكذا يصبح الماضي ليس فقط فلسفةً للبقاء، بل ساحةً للصراع ضدّ المحو، حيث الكتابة ليست مجرّد أثرٍ، بل معركةٌ مفتوحةً على التأويل والنجاة.

* محاضرة في أكاديميّة القاسمي – باقة الغربيّة (المثلث الفلسطيني)، باحثة تهتمّ بالشأن السياسيّ والثقافيّ الفلسطينيّ والعربيّ.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.