في مجموعته الشِعريّة الأحدث "في مطعم الوجود"، الصادرة مؤخرًا عن دار جبرا في عمّان، يواصل المرعبي نهجه في كتابة قصيدة حبّ شديدة النقاء وغايةً في التكثيف، مستندًا إلى لغةٍ تتجنب الزوائد وتتجه لجوهر اللحظة الشعرية، وذلك من خلال حساسيّة مرهفة تلتقط التفاصيل الخفيّة في المشهد الإنساني، حيث تتداخل مشاعر العزلة والحنين مع تأملات وجودية عميقة. يقول الشاعر: "السجين الذي لم يرَ سوى وجه سجّانه،/ من سنين/ كان مطلبه عندما فُتحَ له الباب/ إلى الحرية/ مرآة!".
في هذه القصيدة، كما في معظم قصائد المجموعة، الواقعة في 110 صفحات من الحجم المتوسط، لا يبحث الشاعر المرعبي عن البلاغة المُفرطة، بل عن الصورة الخاطفة التي تختزل المشاعر والأفكار في آنٍ واحد، مما يجعل قصيدته أقرب إلى لمعةٍ أو فلاش خاطفٍ ينبض بالحياة.
كضوء خافت في آخر النفق
يكتب باسم المرعبي (من مواليد الديوانية، 1960)، كما لو أنه يمشي بحذرٍ، فوق خيط رفيعٍ بين ثنائيّة الحلم والواقع، حيث كل كلمة تحمل أثرًا، وكل جُملة تبدو وكأنها محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الزمن المُتسرّب، وهو بذلك، يُعيد تعريف القصيدة، لا بوصفها مُجرّد انزياح عن التقاليد، بل كبحث مستمر عن الجوهر الإنساني، حيث تتجلى الوحدة كقدرٍ شعري، والبحث عن الأمل كحتميةٍ وجوديّة، قصيدةٌ تشبه ومضةً خاطفة في عتمة العالم، لكنها تترك أثرًا لا يُمحى.
نُدب على جسد الزمن
لا يستسلم الشاعر المرعبي للبلاغة وحدها، بل يختار عباراته كما ينتقي الناجي من الحطام ذاكرته الأخيرة، فقصيدته ليست مجرد كلمات، بل نُدَبٌ على جسد الزمن، صدى لأمكنة مهددة بالاندثار، وأشواق مُعلّقة بين الفقد والرجاء، بينما لغتهُ شفيفة مسكونة بالحنين، لكأنّ صوته يأتي من برزخٍ فاصلٍ ما بين الصمت والانكسار، حيث الوحدة ليست مجرد شعور، بل مصير محتوم، وحيث الأمل لا يأتي إلا كضوء خافت في آخر النفق. في قصيدة بعنوان "قطار مُضاء" يقول: "الوجودُ نوعٌ من قطار مُضاء، يمضي على سكة الليل، والمسافر فيه لا يكلّ عن التنقل بين عرباته./ لا وصول لهذا القطار/ ولا توقف/ وبين حين وآخر يزدحم بمسافرين جدد/ كأنهم ينبثقون من الفراغ؟".
في هذه القصيدة، يستخدم الشاعر صورة القطار المستمر في حركته كاستعارةٍ للحياةِ المعاصرة وصخبها، حيث يعبّر عن رحلة الإنسان المستمرة والمجهولة، مع التركيز على حالة الغموض اللا نهائي (الليل/ لا وصول/ لا توقف)، ليغدو المشهد أكثر غموضًا. وفي المقطع الثاني من القصيدة ذاتها يقول: "قطارٌ مضاءٌ على سكّة الليل/ ركّابه وحدهم المرئيون/ وهم لا يرون شيئًا خارجه،/ لا يعرفون وجهته/ ولا يحقّ له السؤال/ وحتى معرفة الجواب غير مجدية/ كل ما يعرفونه/ أنهم تآلفوا مع وجودهم الغامض/ في قطار غامض/ في رحلة غامضة".
في المقطع السابق، يصبح التكثيف أكثر من مجرد أسلوب، بل موقف وجودي، إذ لا شيء فائض، ولا شيء يُقال جُزافًا. إنه يختصر العالم في جُملة، والحنين في نظرة، والغربة في شهقة مخنوقة.
من جهةٍ أخرى نجد أنّ هذه القصيدة، تُظهر قدرة الشاعر على استخدام السرد الشعري والتصوير البصري لنقل تجاربه وتأملاته، مما يضفي على شعره عمقًا وجاذبية خاصة.
باسم المرعبي في مجموعته هذه لا يكتب عن الحياة، بل يستخرجها من صميم العزلة، جاعلا من الشعر أرضا أخيرة وفردوسًا لمن لا يملكون مكانًا في الخراب.
باسم المرعبي: شاعر وكاتب عراقيّ مقيم في السويد. نالت مجموعتُه الشعريّة الأولى جائزةَ يوسف الخال عام 1988.
أصدر اثنتي عشرة مجموعة شعرية وتسعة كتب نثرية تتوزع بين النقد الأدبي والمقال السياسي، ومختارات شعرية وقصصية لشعراء وكتاب آخرين.
عمل في الصحافة الثقافيّة في لبنان، وأصدر في عام 2006 مجلة "ملامح"، المتخصصة في الشعر بالعربيّة والسويديّة. وأسّس "بيت الشعر" في السويد.