}
عروض

"السّيح": استعادة متخيّلة لوقائع من ثورة 36

عمر شبانة

14 أبريل 2025


يشتغل الروائي مجدي دعيبس في روايته "السّيح" (وهو التجويف الصخري...)، الصادرة مؤخرًا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، على حكاية تبدو بسيطة، لكنها تتفتّح على مجموعة من الحكايات، وهذه تنفتح بدورها على زمنين ومكانين، زمن الفتى (سند)، وزمن والديه لطفي وتركية، ومكانين متواصلين هما ما يقع شرقيّ نهر الأردن، وما يقع غربيّه، أي الأردن وفلسطين، هما، في ذلك الزمن، زمن ثورة الـ(36)، مكانان متواصلان بلا حواجز، أو موانع، ويستطيع أبناء أيّ من الطرفين الانتقال بينهما في حريّة، كما لو كانا "مكانًا" واحدًا. ولهذا سنرى في الرواية أنّنا حيال مكان واحد يتم التنقل فيه بلا صعوبة. وهنا تظهر إشارات إلى عمليات تهريب الأسلحة من الأردن من خلال مخاضات نهر الأردن وسورية.
سبق للكاتب أن تناول "الثورة العربية الكبرى"، وثورة سلطان باشا الأطرش على الفرنسيين، في روايتين هذه ثالثتهما. ويفتتح دعيبس روايته بوصية للشهيد فؤاد حجازي، وجّهها إلى والدته قبل شنقه من قِبل قوّات الاحتلال البريطاني لفلسطين، مطالبًا أن يكون يومُ شنقه "يومَ سرور وابتهاج، وكذلك يجب إقامة الفرح في يوم 17 حزيران/ يونيو من كل سنة..."، ويختم بمطالبة والدته "لا تذهبي إلى قبري إلّا مرّة في الأسبوع على الأكثر، ولا تجعلي عملك الوحيد الذهاب إلى المقبرة". ويُهدي دعيبس روايته "إلى أمّهات الثورة" (خضرة وأمينة وفاطمة وعائشة وبهية...، وبينار وبرلا وكاترينا، والقائمة تطول).
هنا إضاءات على أبرز ما تحفل به الرواية من ملامح وتفاصيل.
يتكئ الروائي في كتابة الرواية على مصادر ومراجع تاريخية معروفة؛ "يوميّات أكرم زعيتر، الحركة الوطنية الفلسطينية 1936- 1939"، و"حيفا الكلمة التي صارت مدينة، جوني منصور"، و"سجلّ المحكومين بالإعدام في فلسطين في عهد الانتداب البريطاني، محمد عقل"، لكنه لا يكتب التاريخ، بل يستلهم بعض وقائعه وحوادثه وشخصياته فيجعل منها وقائع وشخصيات وحوادث روائية كأنها هي الواقع والتاريخ. كما يفتتح الكاتب كلّ فصل من فصول الرواية بمقطع من قصائد الشاعر نوح إبراهيم، بما يلائم روح الفصل؛ مثلًا:
اسمعوا لي يا سادات
وخصوصًا يا سيدات
قصة شاهدتها بالذات
من امرأة قروية
قصة عجيبة يا ناس
حوادثْها بترفع الراسْ...


من عجلون إلى حيفا
تنطلق حكاية الفتى سند (البطل الرئيس في الرواية)، من تعرّضه لصفعة من والده لطفي، وشعوره بالقهر، ومغادرته البيت بلا أيّ وجهة معيّنة، يخوض في التيه، تيه السيح وعجلون وما حولهما، حتى يقطع النهر إلى الجهة الأخرى، فيدخل في عالم جديد من الريف الفلسطينيّ، من سهول جنين وكرومها، إلى جبال حيفا وكرملها وبحرها. وفجأة يجد نفسه واقعًا مصابًا بذراعه وسط اشتباك بين فصيل من الثوّار الفلسطينيين وبين جنود من الاحتلال البريطانيّ، فيتمّ اعتقاله من قِبل الجنود الإنكليز، واقتياده إلى سجن عكّا ومحاكمته بتهمة مساعدة الثوار، ويُحكم عليه بسبع سنوات، يُمضيها في العذاب والمعاناة وقصص المساجين بين السجون، ونشهد الإفراج عنه في نهاية الرواية، وعودته إلى السّيح، واكتشافه رحيل أمّه، وهزال والده، وعودة أخيه مقبول مع زوجته وأطفالهما.




وروائيًّا، تتنقل الرواية بين صوت السجين سند من سجنه ومعاناته، وبين عودته ــ ضمن تقنية (فلاش باك) ــ إلى طفولته وقريته، ذكرياته مع الأمّ تركيّة التي خطفها والده وسمّاها (هدية) ثم تزوّجها، وكان قبل ذلك أنقذها من الجنود الإنكليز وقتل عددًا منهم. ثم تتوارد ذكرياته مع شقيقه مقبول في رعي الغنم، وفي حمل محصول القمح إلى حيفا والمتاجرة مع تجّارها، حيث يأتي أهل حوران من كلّ مكان لبيع غلالهم، وشراء ما يحتاجون من بضاعة يفتقدون إليها في قراهم. يتذكر سند حيفا وأسواقها العامرة الملوّنة، قبل أن يعود إلى زنزانته وأصوات الجلّادين، يأخذونه في جولة عذاب تبلغ حدّ تعريته كاملًا وإيلاج عصا في مؤخّرته!
ومن قعر زنزانته، يتذكّر سند كثيرًا من ملامح حيفا، فهي مدينة التنوّع والتعدّد، يتذكر "الدكاكين متلاصقة، والباعة يصيحون بما لديهم من بضائع: قماش هندي، جوخ إنكليزي، قمح حوراني، لوز، مسابح، مواد خزفية، فاصوليا، سمسم، عدس، زيت الزيتون، ذرة، صابون وغيره". ويسترجع حيفا البشر والتنوّع التي "تعجّ بالناس من المِلل والهيئات كافة: عرب، إنكليز، ألمان، مسلمين، مسيحيين، يهود، بهائيين، فلاحين، أفندية، تجار، خياطين، قواسين، غرابلية، مسحّرين، عربجية، سروجيّة، خطاطين، كوّى الطرابيش، رجال دين، وغيرهم كثير". إضافة إلى "سوق الشوام والصناعات الدمشقية، سوق الأبيض والتنوع في الاختصاصات: جلديات ومكسرات ولحوم وخضار وتحف وحلوى... سوق النسناس، وسوق الهدار، وسوق شارع الملوك، وسوق المركز للأحذية والعطورات والمصاغات الذهبية والفضّيات. أبراج المدينة، وبرج السلطان عبد الحميد بطوابقه وساعاته وأجراسه".
ولأنّ الرواية تقوم على التداخل والتشابك بين شخوصها وخطوطها، يأتي التشابك الأول من تدخّل (مقبول) شقيق سند، حين يخرج للبحث عنه، فتسوقه مسيرته إلى فلسطين والثوار، ويوسف أبو درّة، لنكتشف من خلاله معسكرات الثوار وحركتهم وخططهم وعملياتهم، وهنا يتعرّف إلى بهيجة، الفتاة الوحيدة في المعسكر، التي تعد ناشزًا على المجتمع الفلسطينيّ. وحتى في المعسكر بات وجود بهيجة محلّ خلاف بين المقاتلين، وهي التي تقوم بواجبها كما جميع الثوّار، لكنّها نظرة المجتمع إلى المرأة.
وكما كان الراحل غسان كنفاني توقف في كتابه "ثورة 36" عند الضربة الساحقة الموجّهة إلى الثورة، والمتمثلة في النقاط الثلاث التي تبلورت منذ ذاك بصفتها المعضلة السياسية التي يواجهها شعب فلسطين: "القيادات الرجعية المحلية، والأنظمة العربية المحيطة بفلسطين، والحلف الإمبريالي ــ الصهيوني"، فإن الروائيّ يتوقف أيضًا عند بعض عوامل إفشال الثورة، وعند الإضراب العامّ الذي أفشله العرب... وعند ثورة الفلاحين التي أفشلتها محكمة الثوار وتنافس العائلات. والمقصود بهذا هو العائلات الفلسطينية الشهيرة التي كانت تتقرب من الانتداب ــ الاحتلال البريطاني، وتتنافس في ما بينها لتنال رضاه.
ورغم أن الثورة تعرضت إلى ما يشبه الاغتيال، إلّا أنها كانت قد أنجزت ما يشبه المعجزات وسط تلك الظروف، فقد فرض أبو درّة على عموم الشعب ارتداء الكوفيّة والعقال بدلًا من الطربوش، وشاع هتاف الناس "الكوفيّة بخمس قروش/ والنذل لابس طربوش"، كما كانت الثورة تهاجم المعسكرات والسجون بعمليات عسكرية ناجحة تستفز الاحتلال البريطاني قتلًا وأسرًا، وفي واحدة من العمليات، كانت عملية تشبه "الطوفان"، فقد تمّ قتل عدد من الجنود، وأسر عدد آخر بينهم ثلاثة أطفال، وفي حين كان القرار سريعًا بإعدام الجنود، كان السؤال عن مصير الأطفال، فكان القرار تسليمهم إلى مستوطن مع رسالة مضمونها أن "العرب لا يقتلون الأطفال".
أهمّية هذه الرواية، كما تبدو لي، وفضلًا عن إثارتها لقضية ثورة 36، ومآلاتها وما أحاط بها من ملابسات، كونها ثورة فلاحين ضد الإقطاع وضد الاحتلال البريطاني وعصابات صهيونية، هي في أنها (الرواية) رصدت علاقة الأردن بفلسطين في تلك الحقبة من حياة البلدين ومعيشتهما، وتداخلهما على مستويات عدّة، اجتماعيًّا واقتصاديًّا ومقاومة للاحتلال، وتجليات هذا التداخل في علاقات جعلتهما بلدًا واحدً وشعبًا واحدًا. وهي في هذا الطرح تُظهر وعيًا ناضجًا لطبيعة العلاقة، ولطبيعة وعي الصراع مع العدوّ آنذاك، والمستمرّ حتى اليوم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.