"ضريح أيام مجهولة" للشاعرة فرات إسبر (دار سومريون للطبع والنشر ــ العراق، 2024) عنوان يُشبه حياتنا، فنحن ننتظر المجهول في أيامنا القادمة، لا نملك إلا الترقب وآمال تخيب كل يوم. والضريح صار سرير الأحبة الذين نفقدهم كل يوم، وبأعداد كبيرة (خاصة في فلسطين).
يتميز هذا الديوان لفرات إسبر عن دواوينها السابقة ("الماء لا يُمكن كسرها"، "تحت شجرة بوذا")، بأنه أشبه بمونولوج داخلي بين امرأة خبرت خيبات الحياة وقسوتها وبين نفسها، فهي تستنسخ امرأة أخرى من ذاتها وتكلمها وتسمعها، لكنها أيضًا تحكي بصوت المرأة العربية التي تعاني كثيرًا. تكتب في مقطع بعنوان (حياة النساء): أرسم في مهب الزمان/ ما تبقى لي من متاهات/ لا أنا قمرُ ولا أنا شمس/ أنا فوضى/ ونساء بأسماء مستعارة. وجه الأيام مُصفر/ ليس من لفحة الشمس/ ولا من نور القمر/ إنه من عضات القدر/ أيتها السعادة بأي نبال أرميك؟
حين يتخمر الألم في الروح يتحول إلى خيبة تلازم روح الشاعرة. في مقطع بعنوان "جسد عتيق" تكتب: أنا ونفسي في جسد عتيق/ ظاهره يضحك/ باطنه يبكي/ والفراق بيننا يبتسم ويعض.
تعاني الشاعرة فرات إسبر السورية، ابنه مدينة جبلة، من ألم الغربة، فهي تعيش في نيوزيلاندا منذ أكثر من ثلاثين سنة، لكن روحها في الوطن تعيش تفاصيل الأحبة المقهورين، وتناجيهم، وتكتب عنهم لعل الشعر يلطف وجع الفراق، وتعاقب السنوات يزيد الحنين والشوق إلى وطن اضطرها وأسرتها إلى الهجرة، لا مكان للفرح الصافي في الغربة، فالحنين يحرق، والذكريات في الوطن تُضيء الروح المُتعبة من الوجد، لكننا بين الكلمات نستشف فرحًا مُعتقًا في روح الشاعرة، فرح الانتماء إلى الوطن والأحبة. في مقطع بعنوان "أمل مكسور"، تكتب: يأتي صوت كلب من بعيد/ أرتجف/ أيها الوطن ما أبعدك/ ليس لي فيك بيت ولا موطىء لقدم/ والذين مروا بك رموني بحجر/ ألعب بالحصى/ وأدهن وجهي بالرمل/ وأقول: هذا قدر./ ذاكرتي أحراش وساندها قش/ وأوزع قبلاتي بالتساوي/ على الأسى والحزن/ أنهض وأرتفع/ أخرج من جسدي/ أدق الأرض/ حاجتي للحب تُشعرني بنقصاني/ وأتدفأ بالشمس/ فلك تائه وطريق وحيد/ في وجه أبي نجوم وأحلام/ يُعلقها في أشجار الزيتون/ يلمع بيتنا في ليالي كانون/ وأرى قمرًا وبيده قنديل/ الضوء يتوهج/ وأمضي في حلمي وأتسابق معه/ مرة يكسرني ومرة أغني. الغناء يرمم الأمل المكسور.
يتجلى وجع الانسلاخ عن الوطن لسنوات طويلة في مقطع بعنوان "لا توابيت لنا للرجوع": في بلاد نسيت أسماء أولادها/ لا توابيت لنا للرجوع/ أيها العطر خذني بأنفاسك إلى دار أبي/ قد يمر قمرُ يؤنس وحشتي/ إني ألم أنفاسي من رئات خربه/ أشحنها بوهج الروح كي أقوى على السفر/ بخيال صاعق يؤاسيني في وحشتي.
حتى الحب يطفئه الأسى في ألم الإنساخ عن الوطن، ففي مقطع بعنوان "جثث الأيام" تكتب: تمشي على جثث الأيام/ تسأل نفسها ما هو الحب؟/ وتُجيب عنها: يعني أن تموت غبيًا/ أقيس الحياة بمقاييس الحكمة/ وقعت وغمرني ماء غزير حتى اختنقت/ وتجاوزت موتي حتى انتهيت، وقمت/ أيها الحب مزق ثوبك/ اخلع قلبك/ إنني لا أجيد غير ذمك. ومقطع رائع بعنوان "أشجار التفاح تموت بعد كل عناق": وُلد الحب من تفاحة/ منذ نامت حواء في حضن آدم/ تشكلت بحيرة/ وغرقت امرأة. حواء تركت بذور التفاح خلفها/ وأفعى تتلوى على الأرض/ آدم شج ضلعه/ خرجت وردة منها./ التفاحة عالقة في حنجرة آدم/ كل الرجال يختنقون./ أيها الحب/ قادني إليك شيطان وأفعى/ من مكر الأفعى ووسوسة الشيطان/ خُلقنا نحن البشر.
كتاب "ضريح لأيام مجهولة" للشاعرة فرات إسبر أشبه بجدارية تكتبها امرأة شاعرة غاصت في بحر الحياة وعاشت ألم الانسلاخ عن الوطن مُرغمة، الشعر يخفف قسوة الحياة والابتعاد عن الأحبة والوطن، وهي تعبر عن مشاعر معظم النساء العربيات (وربما غير العربيات أيضًا). بوح عميق لشاعرة مدهشة الإبداع والتميز تعشق سورية وقرية قصابين قرب جبلة في سورية. ثمة شعر يلامس شغاف القلب، فتحس أنك تشارك الشاعرة الإحساس والكتابة وتأمل الكون.