}
عروض

ممدوح عدوان "الفارس الخاسر"

فدوى العبود

16 أبريل 2025



تتفاقم في زمن الانعطافات الحادة، والتناقضات المربكة، مبررّات الحيرة، وموجبات التردّد؛ لينهمك العقل والروح معًا – وهما قلما يجتمعان- في البحث عن إجابة؛ لا بغرض الخروج من المأزق، بل عبر الانغماس فيه. لفهم الظروف التي رمته كثمرة لم يكتمل نضجها والرحم الذي ألقاه كجنين في خلاء بارد وظلام مديد؛ مأزق لا نكاد نفهمه في سورية منذ بداية الثورة عام 2011 إلاّ ويتهدّم، فهل هي مشكلة الفهم أم العالم؟ وهل نبدأ من الصفر، ما يعني أن نفعل؟ أم نغرق في رمل التردد فنحجم عن الفعل على غرار هاملت الذي كان حساسًا إزاء متناقضات الحياة ما شل قدرته على الفعل.

في المقابل: هل يمكن أن يكون هناك تفسير واحد للإنسان؟ "لا يمكن أبدًا"، يجيب في "حيونة الإنسان": "وإذا كان فيه من هاملت فهو تلك الطبيعة التي فسرها وليم هازلت بكَوْن هاملت مجرد اسم، وكل أقواله وخطبه وصياغاته الساذجة من عقل الشاعر شكسبير، فهل يعني هذا أنها غير واقعية؟ إنها واقعيّة كواقع أفكارنا الخاصة، إننا نحن هاملت وهذه المسرحيّة لها صدق النبوءة إضافة الى كونها تاريخًا".

ولكن بخلاف الإنسان العاجز عن الانخراط في غموض العالم، فإن هاملت الذي يريده ممدوح عدوان هو رجل إرادة؟ إنه نسخة معدّلة أقرب إلى دون كيشوت الذي يبدأ في كل مرّة من الصفر، لأنه يحسن الظن بالعالم، بالنقاء لا بالفهم، على اعتبار أن اللحظة التي نفهم فيها تعني التوقّف عن المحاولة!

لقد تحققت إرادة الفعل لدى دون كيشوت، لحظة ابتكر خوذة وتقلّد سيفًا؛ ثم مضى لتغيير العالم. فأضفى ما في مخيلته على هزال عصره، مضى بدون أن يفكر وأرسل سانشو ليقرأ رسالة هيامه إلى معشوقته المشغولة بتنقية الحبوب، سيهاجم عربة الرهبان لأن خياله صورها له خلاف ذلك. وقد تضخم حدّ أنه لم يعد يرى في طواحين الهواء سوى مردة يجب محاربتها ولم يكن يتراجع خطوة إلاّ لأن أخرى بانتظاره. فالفعل لا ينفصل عن الخيال، والمطلق الذي يخلقه الإنسان ليس سوى تحدٍّ موازٍ لمطلق الاستبداد رغم المعيقات.

هذا وغيره يضعنا في صلب التجربة التي مثلها الروائي السوري ممدوح عدوان والتي تستعيدها الشاعرة والكاتبة السورية نهلة كامل في كتابها "الفارس الخاسر" (*)، إذ يحتوي الكتاب الذي يتألف من "قراءة في ظاهرة ممدوح عدوان، سيرة التمرد"، "أنطولوجيا حزب الجوع"، وأخيرًا "الوصية" ذكريات المؤلفة ولقاءات وحوارات جمعتها بالأديب الراحل؛ والتي امتدت من أواخر السبعينيات حتى عام 2004، كانت فيها مشغولة بالشأن الثقافي وكاتبة في جريدة "تشرين" وزميلة لممدوح عدوان حين كان رئيسًا لقسم الترجمة في صحيفة "الثورة"، إذ كان يعمل "على تحفيز الإبداع الحر لدى الآخرين".

ترصد المؤلفة في هذا الكتاب رؤيته الصحافية التي لا تنفصل عن المواضيع الحارّة في زمنه، وتعامله مع الأخير ومعاركه الأدبية التي خاضها لا سيمّا بعد مسرحيته "سفر برلك" عام 1994. وفي هذه السيرة الفكرية والروحيّة يطل القارئ على عالم عدوان المتنوع والمتعدد في نتاجه والذي وصفه محمود درويش "بالمفرط في التشظّي ككوكب".

حاولت نهلة تحري ما وراء الوضوح والحديّة في نبرة مؤلف "حيونة الإنسان"، واستجلاء الغموض الذي طارد حياة عدوان، وهذا الغموض كما تراه أقرب للكشف، إذ أن التزامه بفكر التمرد هو "مطاردة مستمرة للحقيقة". ولعل الجوع والجنون وفقدان العدالة والاستبداد هي الشيفرات التي شكّلت رؤيته. يضاف لها ما تصفه نهلة بـ"تنقية الأفكار والوجدان".

إن تقلب رؤيته بين "الهاملتيّة" و"الدون كيشوتيّة" جعل مغامرته تتأرجح بين عالم ضبابيّ، وبين السؤال الدائم حول تقاطع الملتزم والمقاوم في آن، مع المثقف في عراكه الجسور ضد الأنساق الذهنية السلطويّة أو كما تصفه "بمغامرة انقلابيّة، ما جعل منجزه غاضبًا، وعبارته طلقة، ودلالته كثيفة، ولحظته ساخرة".

تحاول كامل القبض على هذه اللحظة من خلال سيرة صاحب مقولة "يألفونك فانفر"، فتتطرق إلى علاقته مع الزمن، لترجح كفة منجزه، فقد ترك نتاجًا أدبيًّا يقارب 90 عملًا؛ إضافة إلى طرحه مفاهيمه السياسية والإنسانية بكل وضوح في التفاصيل، وجرأة في التوصيف بدءًا من نظرته "للشعر" حتى "المسرح" الذي لم يكن في نظره سوى نشاط للفكر التحرري ورفض للتدجين "ودعوة إلى تغيير العالم"، لينحاز إلى الفعل على غرار ذلك الطفل الذي يعتقد أن الجبل قريب فيغذُّ السير نحوه؛ وإذ به يتوه ولا يصل. خدعته الرؤيا والرويّة، ودفعته الطفولة بكل ما فيها من نقاء وبراءة، فلا معنى للعالم من دون الفعل، حتى لو أوصلنا للخسارة، ما يعني رفض التعوّد لأنه مشكلة للمبدع، وأخطر أنواعه "إطلاق أفكار وتيارات كموضة، وربما تحت ستار التغيير والحداثة". فالحرية كما يعيشها ممدوح عدوان "أشبه بصرخة الطفل الذي رأى الملك عاريًا، ودعوة إلى تغيير العالم مع أنه كان يدرك كم هي رومانسيّة، ومستحيلة".

ترى الكاتبة أن علاقة عدوان بالسلطات الثلاث الدينية والعرفيّة والسياسية، هي رفض ونفور، فقد ترك حزب البعث الحاكم الذي انتمى إليه منذ بداية الستينيات حتى عام 1968، يقول: "بعد حرب حزيران/ يونيو (1967) انقلبت رأسًا على عقب وفقدت علاقتي بالتنظيمات وإيماني بها".

أغلب أعمال ممدوح عدوان تدور حول البطل الخاسر


لكنه لم يفقد إيمانه بالفن الذي يجب أن يكون إيقاظًا للجمهور الحياديّ المروّض والميكانيكي والذي "استؤصل منه الإنسان"، فالفن في رؤيته صرخة تقول "هل من المعقول أنكم لا ترون ما أرى"، وهذا يعني أن وراء كل تطور يلحق بالفن حقيقتان "البحث عن الذات الصافية والبحث عن الآخرين"، وهاتان القيمتان تشكلان حصانة ضدّ أيّ سلطة.

وتورد المؤلفة حادثة تعرّض لها عدوان وهي تجسدّ هذه العلاقة بالآخرين، فقد رواها الأديب عادل أبو شنب الذي روى موقف ممدوح عدوان حين انتقد سرايا الدفاع في اجتماع حضره رئيس مجلس الوزراء آنذاك، الأستاذ محمود الأيوبي، للاستماع لآراء المثقفين حول أوضاع البلاد، "وإذا بممدوح يهاجم جزءًا من السلطة القائمة وقتئذ، سرايا الدفاع ورئيسها رفعت الأسد، غير هيّاب، وسرت العدوى لآخرين واشتعلت القاعة من الجرأة". تكتب كامل: "سألته لاحقًا من الذي حماك من رفعت الأسد آنذاك؟ فأجاب: الذين انضموا إليّ وهاجموا بعدي وحيث أصبحنا نشكل معًا صوتًا واحدًا".

تتحرى المؤلفة توظيفات كلمة "الجوع" في أدب عدوان، بدءًا بنصه المسرحي "سفر برلك" (1990) والذي عرض عام 1994، وقد تناول فيه الطبقة التي جاعت في عام 1912 وأحداث الحرب العالمية الأولى، حيث اضطر أبناء بلاد الشام إلى القتال تحت الراية العثمانية، إلى "محاكمة الرجل الذي لم يحارب"، و"حكي السرايا" التي تجري أحداثها في زمن الاحتلال الفرنسي؛ لتكشف أهمية الجوع بالنسبة لعدوان في الوعي بالذات ووعي الخوف والقهر والظلم.

وسفر برلك أيام الجوع هي النظرة إلى المجتمع الوطني من زاوية الطبقة التي جاعت، وهي "ليست عن الجوع فقط ولا تخص حقبة معينة فقط، بل تطلّ من عالم التسعينيات الذي شهد مرور العواصف والزوابع التي اقتلعت أفكارًا وأيديولوجيا عربية وعالمية".

وتفسر الكاتبة هذا، بعمق ارتباط ذات عدوان بالآخرين، رغم اختلافه وتفرده، وتفسر وتؤوِّل البعد الدونكيشوتي في هذه الكتابة لتصل إلى أنه "اعتمد على الوعي كنصف علاج، لكن تنبيهه إلى العطب كان سخريّة مريرة، وحقيقة صادمة، فأغلب أعماله تدور حول البطل الخاسر".

وفي كل هذا كان عدوان يطمح لتقديم البطل إنسانا عاديًّا. وفي حوار مع المؤلفة يقول "أنا ضدّ تصوير البطولة في تصدي وحش لوحش، فهذا برأيي خارج عن إنسانيّة الإنسان الذي أحاول التعبير عنه". وظهر ذلك بوضوح في مسلسل "الزير سالم" عام 2000، وما أثاره من استهجان لكونه بدّد في هذا العمل الصورة التقليدية للبطل الشعبي، انطلاقًا من كراهيته الاتكاء على البطل الذي تعولُّ عليه الشعوب لحلِّ مشكلاتها؛ إذ صرح عقب الضجة التي أثارها المسلسل، "أنا غير آسف لتبديد صورة البطل في أذهان الناس، ولا أجد مسوِّغًا يدعوني لمجاملة صورة البطل في أحلام الناس، مع بداية الألفيّة الثالثة".

هذه الإصرار على فكرته جعله يخوض معركة ثقافية للدفاع عن رؤيته، إذ اتهمه آنذاك الشاعر شوقي بغدادي "بإغلاق نافذة الأمل"، وكان رده على سؤال اتهامي وجّه له: "ماذا يقولون عنّا- أي الغرب- فليقولوا ما يقولون، يكفينا أننا نملك الجرأة على مراجعة تاريخنا، وتاريخنا مثل كل الشعوب فيه حروب ومعارك ومذابح".

وفي جلّ أعماله الشعريّة والمسرحيّة، "الدماء تدق النوافذ"، "أمي تطارد قاتلها"، "مهرجان دمويّ للفقراء"، "الجوع يسرق المدينة"، و"ليل العبيد"، فإن القريحة الشعبيّة هي قلب رؤيته، ومحرّك نصّه الذي يروى القصة من منظور الشعب لا السلطة.

كتب عدوان بحثًا عن إنسانيّة البشر، لكن الأخيرة كانت الحلقة المفقودة في "حيونة الإنسان". وفي هذا الكتاب الذي يعتبر بمثابة "قراءة في أنثربولوجيا التوحش البشريّ"، يناقش مراحل انحطاط وتشويه الأخير، لفهم و"صياغة أنثروبولوجيا مضادة لتاريخ السلطات القامعة" إيمانًا منه بأن قوة المواجهة الفرديّة لعالم ينهار تأتي عبر الوعي والوعي فقط، وفي أحيان أخرى قد تأتي من خلال الجنون باعتباره وعيًّا مضادًّا. فما يجعل عدوان حاضرًا الآن وفي المستقبل هو أننا بحسب تعبير المؤلفة "سواء قرأنا مرجعيّاته في بداية نضجها الهادئ أو في خاتمتها، فإننا نسلك دربًا واحدة بلا متاهات، ولن نضيّع إشاراته فقد وضع علاماته الفارقة كلافتاتِ خبزٍ للعصافير الجائعة".

*كاتبة سورية.

(*) نهلة كامل، ممدوح عدوان الفارس الخاسر، دار التكوين للتأليف والنشر، دمشق، سورية، 2021

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.