في عالمٍ تندثر فيه الحضارات تحت وطأة النسيان، وتذوب فيه الهويات تحت هيمنة الحداثة والعولمة، تطلّ قصة "لعنة الأسرار الأربعة"، للكاتب الأردني محمد ملكاوي، كصوت أدبي يستند إلى وعي جماليّ يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان وإرثه وجذوره المنسيّة. ينسج الكاتب حبكةً دراميةً تجمع بين التاريخ المُعلَن والذاكرة المدفونة، عبر رحلةٍ ملحمية تبحث عن نور الشمس المفقود في أربع مدن أردنية عريقة.
العمل الأدبي، الصادر مؤخرًا عن "دار أزمنة للنشر والتوزيع" بعمّان، عبارة عن قصة طويلة من سبعة أجزاء، لكل جزء منها عنوان خاص، لتبدو وكأنها روايةٍ قصيرة مكثّفة. هذه القصة، ليست مجرد سردٍ لأحداث خيالية، بل مرآةٌ تعكس إشكاليات الهوية والانتماء في عالمٍ يهمل إرثه وأصالة تاريخه في صخب الحداثة، ويغرق في عالمٍ ماديّ سريع الإيقاع، مبتعدًا عن روح الحكمة والفن والجمال. في هذا العمل الأدبي، تتحول المدن الأثرية إلى شخوص ناطقة، والشمس إلى قاضيةٍ تُحاكم البشر على جحودهم ونسيانهم.
الطاعون ــ موت الذاكرة
تبدأ القصة بحصة في التاريخ للأستاذ مبارك، الذي يثير دهشة طلابه بدرسٍ عنوانه "الطاعون"، غير موجود في كتاب التاريخ المقرّر. ومن خلال سرده لحكاية مدينة جدارا القديمة (أم قيس)، يكشف كيف قضى الطاعون والسّاسانيون على حضارتها العريقة، تاركين الآثار شاهدةً على مجدٍ غابر. يذكّر الأستاذ طلبته بأنهم ورثة هذه الأرض، وأنهم حَمَلة أمانة التاريخ وحضارته، داعيًا إياهم إلى استحضار حكمة الفلاسفة والشعراء الذين عاشوا تحت أعمدة المدينة.
الطاعون هو استعارة عميقة لموت الذاكرة الجماعية، وامّحاء الهوية، ويعاد تفسيره هنا كأزمة وجودية تواجه الإنسان المعاصر: كيف يحمي هويته من "أوبئة" العولمة والنسيان؟ وكيف يحيي ماضيه كي لا يصاب بـ "عدوى" التغريب"؟ أما الأستاذ مبارك، فيمثّل صوت التاريخ الذي يحاول النظام التعليمي والمجتمع تجاهله، وهو يجسّد أيضًا أزمة المثقف العربي في مواجهة التهميش المزدوج من قِبَل السلطة والمجتمع.
حين تغضب الشمس
يغوص عامر، الطالب المتأمل الفضوليّ، في حيرةٍ وجودية بعد الدرس، بينما تدفعه لقاءاته مع حبيبته نور نحو مصير غامض. عند ساحة الأعمدة، يختفي ظلّ الشمس فجأة، ويواجهان شبحًا إغريقيًّا يخبرهما أن الشمس ستغيب ولن تعود، وأنها غاضبة من نسيان البشر لقيمة الأرض والتاريخ والجمال. يُكلَّفان مع الأستاذ مبارك برحلةٍ لاستعادة نور الشمس خلال ثلاثة أيام، عبر كشف أسرار أربع مدن تاريخية (أم قيس، جرش، عمّان، البتراء)، مسترشدين بحكايات الحجارة والأشعار المدفونة تحت طبقات الزمن.
الشمس هي الرمز المضادّ للطاعون ــ الموت؛ وهي استعارةٌ للهُوية والذاكرة الجماعية، التي تمنح الضوء والمعنى للوجود الإنساني. يعكس اختفاؤُها انقطاعَ الصلة بين الحاضر والماضي، وانتصارَ النسيان على التراث. تمثّل الشمس أيضًا الحياة الروحية للإنسان؛ فكما تعتمد الأرض على نورها، تعتمد الهوية على إحياء كنوز ــ حكايات التاريخ. تعكس محاولةُ الشخصيات استعادة إشراق الشمس صراعَ البشرية ضدّ ظلام الجهل والتهميش، مع التأكيد على أن الخلاص لا يكون إلا بالحفاظ على الذاكرة كـ "شمسٍ لا تغيب".
يمثِّل عامر الجيلَ الشاب التائه بين الحاضر والتاريخ، الباحث عن هويته في ظلّ انفصام الواقع بين الحداثة والأصالة. سؤاله الوجودي: "من أنا؟" يجعل منه رمزًا لسعي الإنسان لفك شيفرة الماضي، وتحويل الأسرار المدفونة إلى نورٍ يسترشد به الحاضرُ. أما نور، فهي الروح المتصالحة مع الأرض، وهي الشخصية التي تجسد الحبّ الذي يصل بين الإنسان وجذوره. ونور ليست مجرد حبيبة، بل شريكٌ مؤثر يُعيد إلى عامر إيمانه بجمال الحياة، ورمزٌ للتوازن بين العقل والقلب في رحلة استعادة الذاكرة ـ الهوية.
الشبح الإغريقي هو صوت الماضي المنسيّ، الذي يرفض الاختفاء. يجسّد ظهوره، كشاهدٍ على حضارة جدارا، فكرةَ أن التراث ليس مجرد آثار ميتة، بل طاقةٌ حيّة وحكايات تنطوي على المعرفة والحكمة، وتطالب الوارثين بحمل الأمانة. يشير تحذيره من غضب الشمس إلى أن تجاهل التاريخ والجذور يُغرق العالَم في ظلامٍ روحي.
يواجه كل من عامر ونور والأستاذ مبارك صعوبةً في إقناع أهل مدينة أم قيس بالكارثة الوشيكة، لكن مع غياب الشمس، تتحوَّل الشكوك إلى يقين. ينطلقون بجموعٍ غفيرةٍ من الناس إلى المدن الأثرية، ليكتشفوا إهمال التراث وانفصال المجتمع عن روح الفن والحكمة. وعبر خطابات الأستاذ مبارك المؤثرة، واستحضار أمجاد الشعراء القدامى مثل "ميلياغروس"، يعاد إحياء ذاكرة الناس، وتذكيرهم بأن الشمس لن تشرق إلا بعودة الروح إلى حجارة التاريخ، وبإحياء قيم الحب والتسامح وتقدير الإنسان والجمال والأصالة والفنون، لتُعلَن ثورة ثقافية تعيد للتاريخ بهاءه، وللشمس إشراقتها.
الأسرار الأربعة
تتوشّح القصة برمزيةٍ ملفتة تربط مصير الإنسان بإرثه وفنون حضاراته القديمة، وتجعل من الشمس شاهدًا أبديًّا على صراع البشر بين التدمير والإبداع، بين التنكّر للذاكرة والتمسّك بها. تمثل الأسرارُ الأربعةُ الرمزيات الأكثر عمقًا في القصة، وهي ليست لعنةً كما يوحي العنوان، بل على العكس من ذلك، هي دليلٌ ونبراس في الطريق إلى استكشاف الذات والهوية.
يكمن السرّ الأول في زوايا "أم قيس"، تحت أغصانِ شجرةِ رُمّانٍ عجوز؛ حجرٌ بازلتي أسود، نُقِشَت عليه حِكَمُ الشاعر الإغريقي "ميلياغروس": "يا أيهَّا المارُّ من هنا، إليك أقول: كما أنتَ الآن كنتُ أنا!! وكما أنا الآن ستكونُ أنت!! فتمتّع إذًا بالحياة". هذا الحجر لم يُلقَ جانبًا كحطامٍ عابر، بل كُتِمَ صوتُه كصرخةِ تاريخٍ مُغَيَّب. الأعمدةُ الشامخةُ التي كانت يومًا مسرحًا للفلاسفة، صارت شاهدةً على تحوُّلِ المدينةِ إلى ظلٍّ لنفسها. هنا، حيثُ كانت القصائدُ تُحفَرُ في الصخر، أصبح التراث غريبًا بين أبناءِ الأرضِ الذين ورثوه بدون أن يعرفوه. الحجر المهمَلُ هو استعارة لمرآة الهوية المكسورة، بينما يشير إهمالُه لما تفعله الأجيالُ بذاكرتها حين ترفض أن ترى في الماضي جذرًا للحاضر.
تواصل الرحلةُ إلى "جرش"، المدينةِ التي حملت اسمًا يعني "المكان كثيف الأشجار"، لكنها استيقظتْ يومًا على أرضٍ يبابٍ تئنّ تحت وطأةِ التصحُّر. الأعمدةُ الرومانيةُ العتيقةُ تقف صامتةً كشهودٍ على زمنٍ كانت فيه الخُضرةُ تناطح السحاب. يذكّر الأستاذ مبارك الحشودَ بأن الاسمَ ليس مجرّدَ حروف، بل إنه عهد مع الأرض: "فليغرس كلٌّ منكم شجرة اليوم، لنعيدَ لجرش معنى اسمها، لنعيد لها اخضرارها وجمالها". الغرسُ هنا ليس فعلًا بيئيًّا فحسب، بل إحياءٌ لعهدٍ بين الإنسانِ والطبيعة، فكلُّ غرسةٍ تُنبِتُ أملًا، وكلّ ورقةٍ تعيد للتراب ذاكرتَه. الأشجارُ الغائبةُ هي جرحُ انفصالِ الإنسانِ عن جذوره. أما إعادة التشجير فمحاولة لتطبيب هذا الجرحِ ببلسم الوعي والمعرفة.
الأنثى ــ دائرة الحياة
في عمّان، مدينةِ الجبالِ السبعةِ والتسامحِ التاريخي، يختفي السرّ الثالث وراء حجاب الصمت. ورغم أنها احتضنتْ كلّ الأديانِ والثقافات، إلا أن نصفَ روحها ظلّ مقيَّدًا: "أين نساءُ عمّان؟"- تسألُ نور، بينما الرجال وحدهم يملؤون الساحاتِ بالدعاء. هنا، حيث كانت النساءُ يومًا ملكاتٍ ينسجنَ جدائل الحضارة، صِرْنَ خلف الجدران كأسرارٍ مُحرّمة. الشمس لن تشرق إلا إذا زَحفْنَ إلى الواجهة، حاملاتٍ زهرَ الجمالِ وشمعَ الإرادة. غيابُ النساءِ استعارةٌ لفقدانِ التوازنِ المجتمعي، كما أن إشراق الشمس مرهونٌ بعودةِ الأنثى لتكتمل دائرةُ الحياة.
في قلب "البتراء"، حيث تنحت الصخورُ قصصَ الأنباط، يجتمع الآلاف كجوقةٍ عظمى لترديد نشيدِ الخلاص. العازفونَ والشعراءُ والأطفالُ واللاجئون والزائرون يرفعون أكاليل الغار، وكأنهم يقدمون اعتذارًا للأرضِ عن قرونٍ من الإهمال. "الخَزْنة" (مَعْلَم أثري محفور في الصخر في البتراء)، التي صمدت آلاف السنين، تَسمعُ لأول مرة صوتَ شعبٍ يعيدُ اكتشافَها. عامر ونور يقفانِ في المقدمة، كأنهما قائدا أوركسترا الوجودِ، تُنشَدُ على إيقاعِهما كلماتٌ تذوبُ فيها الحدود: "بكتب اسمك يا بلادي... عالشمس الما بتغيب".
تمثل رمزية الغناء الجماعي وحدة الشعب، وإحياء روحه الثقافية، عبر تجميع الأردنيين بمختلف أطيافهم وخلفيّاتهم (مسلمين، مسيحيين، لاجئين، فنانين) لإنشاد الأغاني معًا، ممّا يعيد للشمس نورها كرمز للتجدد الحضاري والانتصار على التصحّر الروحي.
كلّ مدينةٍ هي سرٌّ يكشف جرحًا، وكلُّ جرحٍ يدفع البشر إلى مواجهة مرآةٍ تعكس التناقض بين الحاضر والتاريخ. في هذا العمل، لا يروي محمد ملكاوي قصة مدنٍ ميتة، بل يقصّ حكاية أحياءٍ يبحثون عن أرواحِهم بين أطلالِ الماضي. وحين تنتهي الرحلةُ بشروقِ الشمس، تبدأ رحلةٌ أخرى: قراءةُ التاريخِ ليس كسردٍ جامد، بل كحوارٍ حيٍّ مع أرواحٍ تُناجي ورثتها الأحياءَ من خلف جدران الزمن.
الأسلوب السردي ــ الشعرية والرمزية
تمتاز قصة "لعنة الأسرار الأربعة" بأسلوبٍ سرديٍ يجمع بين الوصف الشعري والحوارات الدرامية، حيث يصوغ محمد ملكاوي مشاهدَ مليئةً بالرمزية تربط بين الماضي والحاضر. يبرز أسلوب الكاتب في استخدامه لغةً موجزةً لكنها غنية بالاستعارات، كتشبيه الشمس بـ"الشاهد" الأبدي على صراعات البشر، وتحويل الحجارة إلى شخصيات صامتة تحمل همسات وأسرار الأجداد.
يعتمد السرد على تناوب الأزمنة، فينتقل القارئ بين أحداث تاريخية قديمة وواقع شخصيات معاصرة، مما يخلق توازنًا بين عنصري التشويق والتأمّل الفلسفي. كما يُدخل الكاتب عناصر من الواقعية السحرية، مثل ظهور الشبح الإغريقي واختفاء الظلال، ما يضفي غموضًا على النص يخلق لدى القارئ رغبةً في اكتشاف الأسرار بصحبة الشخصيات.
تتمثل نقاط القوة الرئيسية في القصة في عمق الرمزية التي تربط الإنسان بإرثه وأصالته، وفي البناء المحكَم للشخصيات التي تعكس أزماتٍ وجودية (كصراع عامر مع هويته المنسية). كما يُحسب لهذا العمل الأدبي الدقة التاريخية في تصوير مدنٍ مثل أم قيس وجرش، مع تحويلها إلى فضاءات دراميّة حيّة. ومن نقاط القوة أيضًا: الانزياح الأسطوري؛ فظهور الشخصية الإغريقية يُضفي مصداقيةً وحيويّةً على الحوار بين الحاضر والتاريخ.
يضاف إلى ما سبق، الجرأةُ في الطرح، والتي تتمثل في تناول قضايا ثقافية واجتماعية هامة، كالتصحّر (الذي يشير إلى التدهور الثقافي والحضاري)، وتهميش المرأة، وذلك عبر استعارة الرمز التاريخي، بعيدًا عن الخطاب المباشر. يتميز النصّ أيضًا بترابط فصول السرد ورسائله، خاصة في مسألة الربط والتسلسل بين الأسرار الأربعة، والتي تحيل إلى مفاهيم ــ قِيَم رئيسة هي: التراث، البيئة، المساواة، الفن، ليُقدّم الكاتب عبرها رؤيةً شاملةً للإصلاح.
غير أن بعض الفصول قد تُثقل القارئ بالإسهاب في الشرح التاريخي والتفاصيل التاريخية، مما يُضعف وتيرة التشويق أحيانًا. كما ظلت الشخصيات الثانوية باهتة؛ فتركيز النص على الثلاثي الرئيسي (عامر، ونور، ومبارك) قد يُضعف أدوار شخوص أخرى في المجتمع كعناصر فاعلة. رغم ذلك، ينجح النص في خلق حوارٍ بين القارئ وذاته، عبر الأسئلة التي يطرحها عن الهوية والذاكرة، ما يجعله عملًا أدبيًا لا يُقدَّم كمغامرة خيالية فحسب، بل دعوة لاستعادة الحوار مع الأرض والتاريخ.
تقترب "لعنة الأسرار الأربعة" من أن تكون "رسالة وجودية"، تُذكّر بأن الحضارات لا تموت، وإن طُويت صفحات أزمنتها، أو خَفَتَ وهجُ آثارها، بل الموت الفعلي هو غيابُ وعيِ الذاتِ بامتداد هويتها. البتراء، بشمسها التي تشرق من جديد، تُعلن أن النجاة ليست في الهروب من الماضي، بل في احتضانه كجذرٍ يُغذّي الحاضر. يصوغ محمد ملكاوي عمله كمرثيةٍ للذاكرة، لكنها مرثيةٌ تحمل في طيّاتها بذورَ نهضةٍ وانبعاث. وكما يقول الأستاذ مبارك: "التاريخ أمانة، ولو لم يكن من ميراث أجدادنا"، فإن القصة تذكّرنا بأن المستقبل يُبنى بأيدٍ تعرف وزن التاريخ وقيمته. ويختزل محمد ملكاوي رسالته في جملة تُلخّص عبء الأمانة وجمالها، وهي أن شمس الوجود لا تشرق "إلا إذا أنصتنا لمدننا".