}
عروض

"عودة ابن يقظان" من الماء والغابة حتى السماء

عمر شبانة

3 أبريل 2025


في كتابه "عودة ابن يقظان" يمزج الدكتور نبيل ابن عبد الجليل (المؤلّف الموسيقي المغربي المعروف) السرد الروائي بالتأمّلات الفلسفية، يستدعي شخصية حي بن يقظان التي تجمع بدورها الجانبين الروائيّ والفلسفيّ، فضلًا عن تداخلها بالجوانب الفقهية لدى عدد من الفلاسفة والفقهاء العرب، مستفيدًا من نصوصهم ورؤاهم الفلسفية، ليقدم لنا هذه التحفة الفنية والأدبية والفلسفية المتميّزة والمختلفة جدًّا عن النصوص التي نعرفها عن ابن يقظان كما جاءت في نسخة ابن طفيل (1100- 1185م)، ونسخ لفلاسفة آخرين؛ ابن سينا (980-1037م)، السّهروردي (1155- 1191 م)، وابن النفيس (1210-1288م)، ثمّ لم يكتب قصّته أحد حتى هذه القصة! (صدرت في دار مرسم، المغرب 2024).
هنا محاولة للوقوف على أبرز ملامح "قصة" ابن عبد الجليل و"ابن يقظان".

يفتتح ابن عبد الجليل نص عودة حيّ بن يقظان، بمشهد حيث تلقيه أمّه (الطبيعية) في "اليمّ"، ثمّ احتضان الظبية كأمّ له، وغُربته بين الوحوش وحياة الخطر معها، واكتشافه تميّزه عنها بسِمات واضحة. تميّز في الشكل والمكوّنات، في المشاعر، وعلاقة الحب مع الأمّ- الظبية في صور مختلفة، وفي العلاقة مع الموت، هذه العلاقة التي ستصبح محورًا أساسيًّا للرواية عند موت الأمّ، حيث السؤال عن صورة الموت وسببه وما بعده، واقفًا بذهول أمام الشيء الذي "لا يُدرك ولا يُرى"، فيقوم بالتشريح كطبيب، وبالتأمّل كفيلسوف.

لعلّ أوّل وأهمّ ما يمتاز هذا النص، من بين ميزات كثيرة، هو اهتمامه بالتحليل الفلسفي العميق، حدّ الاستغراق في بعض الأبعاد الفلسفية لشخصيّة "حي"، بل الخروج عنها إلى ما بعدها، على مستويات الوعي الجماليّ والأخلاقيّ في فهم العالم، كما سنرى لاحقًا. كما يتميّز بسلاسة صياغة أفكاره، وتنوّع أساليب التناول، ما بين السرديّ الحكائيّ البسيط، وبين سرد الأفكار الفلسفيّة المعمّقة المتّصلة بالحكاية، وكيفية تحوّل هذا الكائن (المختلف وغير الطبيعي)، في نهاية المطاف، إلى كائن يعي ما حوله ومن حوله، ويتوق للتعرّف إلى الطبيعة والكون وقوانينه، فيما هو يعيش بين طبيعتين نقيضتين؛ الإنسان الذي في داخله من حيث الجوهر، والوحش الذي يتشكّل فيه خلال حياته هذه التي لم يعرف سواها. لكن الأبرز في سلوكه منذ اندماجه في قطيع "الوحوش"، أنه كان يمكن أن يأكل أنواع اللحوم ما عدا لحم الظبي، فهو فصيلة أمه غير الطبيعية.

لم يهتد نبيل ابن عبد الجليل إلى الموسيقى بالفطرة والضرورة قبل اللغة فحسب، بل إنه لجأ إليها كأداة طقوسية مباشرة، دائمًا في غياب اللغة


يرسم النص/ المؤلّف مصيرَ صاحبنا "حيّ" وتحوّلاته، ضمن محطات ومراحل، بدءًأ من ولوج الغابة، ورحلة وعي الذات، وصولًا إلى طرح قضايا فكريّة، وأسئلة حول أصل هذا الكون، منذ بدء المستويات الزمنية التي يمكن لعقله أن يسبح فيها. تحوّلات يتطلب التعرف عليها قراءة أكثر تفصيليّة للنص. لكن الأهمّ هو النقلات النوعيّة في مسيرة "حيّ" منذ بدء وعي "الاختلاف" في طبيعته وقدراته التي تنطوي عليها "بشَريّته". مسيرة تنطوي على محطات أساسية في تطوره السريع، وتقدّمه نحو الله/ الخالق، في مسار يدعوه المؤلّف "ما يُدرك ولا ويُرى".

فبعد مرحلة اكتشاف الذات، لدى "حيّ"، ومرحلة حبّ الأمّ والعائلة الصغيرة، في مواجهة عالم الوحش، والمشاعر تجاه الموت وغريزة حبّ الحياة، تأتي مرحلة/ محطة الجمال الذي سوف يغزو وجدانه بحب وسلام ومواساة لا تُرَد، هو الذي أهَّلته قساوة فاجعة (موت الأمّ) لاستشعار آيات الجمال القصوى في أنقى تجلياتها، والحاجة إلى التطهير، إلى أن تذوب ذاته في الجمال هائمة، حتى تُبعث من جديد من قلب ذاك الجمال ذاته. الأهمّ في ما بعد أن هذا الجمال، خطوة تمثلت في التعامل مع "رمزية المكان... بالدفاع عن المقدسات أو الرموز العقَدية".

تأتي النقلة التعبيرية، بلا كلمات، فهو لم يتعلّمها، بل من خلال تكوين مجموعات نغمية صغيرة وخطوط لحنية في غاية البساطة. وبسرعة هائلة، صار "حي" يكرر هاته التركيبات البدائية، إذ أن تعرّف العقل عليها في كليتها أسهل بكثير من تتبع مكوناتها كل واحدة على حدة. لم يهتد نبيل ابن عبد الجليل إلى الموسيقى بالفطرة والضرورة قبل اللغة فحسب، بل إنه لجأ إليها كأداة طقوسية مباشرة، دائمًا في غياب اللغة، مثبتًا إمكانية معانقة الموسيقى لأعمق المعاني والمشاعر مع تجاوز تام للكلمات، حتى على المستوى الذهني، لكون تلك المعاني والمشاعر غير مسمّاة من الأصل. والموسيقى كانت سابقة للألفاظ والأسماء في اختراق المبهم والغامض والماورائي.

يهيم الإنسان على وجه الأرض، فيكون البحث عن السماء! يتولّد الفنّ، ثم تأتي الأديان بالأجوبة الحاسمة والحقائق المطلقة، يعلو بعضها على بعض متى تقاطعت طرقها. الأديان وجدت خطاب الجمال قد شق طريقه نحو السماء، نحو ذاك المجهول المتعالي والخفي، نحو السحب الرمادية مرقد الأسئلة المحيرة، نحو الشمس بآمالها المنزَّلة، نحو "ما لا يدرك ولا يرى"، بعد أن أدرك اختلافه وتميزه عن باقي الحيوانات. كان تَفكره في الطبيعة ومكوناتها موازيًا لتفكره في ذاته. ولعل أول فتوحاته الفكرية هو تمييزه بين ذاته الحيوانية المشتركة وذاته الإنسانية الخالصة.

تمَّت له هاته الملامسة الفطرية للأخلاق وحيدًا على مستوى فردي يبقي العلاقات الإنسانية خارج المعادلة تمامًا. ونعتبر الأخلاق إكراهًا جميلًا تمارسه الذات على نفسها، إكراهًا يأتي من الطبيعة أولًا على شكل التزامات فطرية قبل أن تنضاف عناصر جديدة كالتربية والتقليد والتراضي الاجتماعي.   

وإذا ما نظرنا باتجاه "حي" بعيدًا عن التعقيدات الاجتماعية وأحكامها، فسنراه يلبي نداء فطرته ونداء الطبيعة. وإذ كان واعيًا بقدرته على التأثير في محيطه بل وتغييره نسبيًّا، فقد فطن بالمقابل إلى لزوم الحفاظ على التوازنات الطبيعية وعدم الإخلال بها- وإن استطاع عكس ذلك. كان الوعي الأخلاقي عند "حي" منحصرَا في تلك الأرضية الفطرية، ثم في التزاماته تجاه الصالح العام نتيجة تحليل عميق لمحيطه الطبيعي.

تأمل "حي" في الطبيعة فلم تعوزه قوة التحليل ليدرك أن الجمال يتجلّى عبر الانسجام والنظام والتوازن تارة، وعبر الهيجان العنيف والمهدد لذلك التوازن تارة أخرى. وهناك عنصر آخر لا يقل أهمية عن كل ما أشرنا إليه، ألا وهو التجرد عن الذات وعن العالم المحسوس، وهو تجرد يعكس تطور إدراك صاحبنا للوجود وإن لم يكن واعيًا بهذا التطور.

هنا يطرح المؤلّف السؤال: من يكون حي ابن يقظان يا ترى؟ أهو مجرد شخص حكمت عليه الأقدار بالوحدة المطلقة، زيادة على التحامه بالطبيعة كما التحم أجدادنا قبل آلاف السنين؟ هل يمثل "حيّ" أولى الخطوات في تطور الإدراك البشري، وهل هو تجسيد لمرحلة فكرية وكفى؟

ويجيب: "حيّ" يمثل الأنا الطبيعية المطلقة، الأنا الأولية، الأنا الخالصة والمتخلصة من شوائب الظاهرة الاجتماعية، تلك الأنا المتأرجحة بمحبة وحنان بين رحمة الله وصفاء الطبيعة. وهو يلتقي، في النهاية، مع بشر يدلّونه إلى السماء، يعيش تجربة من الزهد، تتغير نظرته إلى الموت وعلاقته به؛ "طوال حياتي وأنا أرى الأرض تبتلع ما فوقها لتتجدد الحياة". ونستمع في "نداء ابن يقظان" إلى ترنيمة الخلاص العلوية، ونلتقي بالمؤلف وابن يقظان وبصبي غريب في عالم فانتازيّ، ونجده مشدوهًا أمام جمال ذاك العناق وقوته الجارفة بين "حيّ" والصبيّ. وننتهي مع مشهد بكائي/ تراجيديّ: اقتربت بما يكفي، إلا أنني لم أجرؤ على لمسهما، وكيف لي أن أدنس عناقا مقدسًا كهذا. حضنني بقوة وضمني إلى صدره ضم الأب والشقيق والابن: 

بكى صامتًا...
وبكيت بدوري...
بكيت حتى جفت الدموع...
وجفّ القلم.
 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.