صدرت مؤلفات كثيرة منذ الربع الأخير في القرن العشرين المنصرم تقدم قراءات تشي بانهيار الغرب وهزيمته، وأفول نجم الإمبراطورية الأميركية، وسوى ذلك. وتنهض على توقعات وتنبؤات تستند إلى معطيات وعوامل مختلفة مستقاة من نظريات تستخلص من التغيرات التي تطاول المجتمعات الغربية وتركيبة دولها. ويعد المفكر الفرنسي إيمانويل تود أحد الكتاب المشغولين بالتوقعات التي يستخلصها من دراساته. وسبق له أن توقع انهيار الاتحاد السوفياتي في كتابه الشهير "السقوط النهائي"، الذي أصدره عام 1976، واعتمد فيه على نظرية في "أنساق القرابة الأسرية"، وإحصائيات عن معدلات وفيات الأطفال الرضع في الاتحاد السوفياتي. ثم أصدر في 2001 كتابه "ما بعد الإمبراطورية: دراسة في تفكك النظام الأميركي"، تنبأ فيه بانهيار الإمبراطورية الأميركية وأفول نجمها كقوة عالمية على الرغم من مزاعم انتصارها الكبير بانهيار الاتحاد السوفياتي. وفي السياق نفسه، يرى إيمانويل تود في كتابه بعنوان "هزيمة الغرب" (بيروت، ترجمة محمود مروة، دار الساقي، 2025) أن روسيا لن تُهزم في حربها على أوكرانيا، بل الغرب ومعه الولايات المتحدة، وذلك بعكس كل ما تردد في وسائل الإعلام، عادًا أن الغرب دخل مرحلة انحدار سريع. ويبرر تود توقعه بالاعتماد على مجموعة التحولات التي تمرّ بها دول الغرب في أوروبا والولايات المتحدة من النواحي الثقافية والسياسية والاجتماعية. ويبشر بسقوط القوى القديمة، أو اضمحلالها لفترة على الأقل، بالنظر إلى موت القيم الاخلاقية والدينية، وحتى الليبرالية، في دول أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
يبدأ تود مؤلفه بتناول تركيبة المجتمعين الروسي والأوكراني، وبنيتهما الأنثروبولوجية، والأسباب المفصلية التي أدت إلى شن الحرب الروسية على أوكرانيا، مبرزًا سلبية الدول الأوروبية وانبطاحها وتحولها إلى مجرد أتباع غير فاعلين للولايات المتحدة في هذه الحرب. ثم يتناول المجتمع الأميركي، مركزًا على تدهوره الأخلاقي والاجتماعي، الذي قام بتصديره إلى دول أوروبا، فيما يتحدث باهتمام عن نمو قوى جديدة، مثل الصين، وروسيا، وغيرهما في منطقة الشرق الأوسط. ويبرز جملة العوامل التي أدت إلى سقوط الغرب، التي يجدها في نهاية الدولة القومية في الغرب، وتراجع التصنيع، وعجز حلف شمال الأطلسي (الناتو) عن إنتاج الأسلحة الضرورية لأوكرانيا، إلى جانب وصول المصفوفة الدينية الغربية، أي البروتستانتية، إلى "درجة الصفر" والإفلاس، والزيادة الحادة في معدلات الوفيات في الولايات المتحدة أعلى بكثير مما هي عليه في روسيا، إضافة إلى تفاقم أعداد حالات الانتحار، وجرائم القتل، وسيادة العدمية الإمبراطورية التي يعبر عنها هوس مزمن بالحروب الأبدية.
يرى تود أن حرب أوكرانيا جاءت خاتمة لدورة زمنية بدأت في عام 1990 مع انهيار الاتحاد السوفياتي، وأن تمازج عدميتين، أميركية وأوكرانية، سيقود إلى هزيمتهما. ويراهن على فترة زمنية مدتها 5 سنوات لانتهاء الحرب، أي في عام 2027. والمشكلة هي أن وزير الدفاع الروسي السابق سيرغي شويغو سبق تود في إعلان أن "العملية العسكرية الروسية الخاصة ستنتهي في عام 2025". لكن ما لم يخطر على بال تود هو أن يلعب الرئيس الأميركي دونالد ترامب دور الوسيط الساعي لإنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا.
يسعى المؤلف إلى تسويغ ما يطرحه بالاعتماد على ما يرى فيه بحثًا أكاديميًا علميًا صرفًا، ويرفض تسميته بالتوقعات، لأنه مبني على دراسة وتحليل تركيبة الهياكل العائلية في المجتمعات الغربية طوال نصف قرن من الزمن، مع الأخذ في الحسبان بيانات الخصوبة في كل بلد، ووضع منظومة التعليم، ومستوى الخدمات الصحية، ومتوسط الأعمار، وانتشار الأمراض، وحركة المجتمع المحركة للشعوب ولسياساتها، ليخلص إلى أن الولايات المتحدة تحوّلت إلى "إمبراطورية عدمية"، ولم تعد تشكل أمة وبلدًا له حدوده الواضحة، بل اختلط فيها الداخل بالخارج إلى درجة تهدد كيان الدولة، حيث بات الاقتصاد مرهونًا بالآخرين، يعد أن بلغ العجز التجاري مستويات كبيرة، مرجعًا السياسة الحمائية التي تقوم بها واشنطن إلى فقدان المركزية الثقافية، وتاريخها وتقاليدها. والأمر نفسه ينسحب على دول أوروبا الغربية.
يستند المؤلف إلى التبريرات التي قدمها الرئيس الروسي بوتين للحرب على أوكرانيا، ولخصها بعدم قبوله تمدد قواعد الحلف الأطلسي واستخدام الأراضي الأوكرانية لهذا الغرض، وأن ثمة خطوطًا بالنسبة إلى روسيا تُعدّ حمراء تم تجاوزها، وبالتالي فإن العمل العسكري الروسي هو "دفاع عن النفس"! وحملت هذه الحرب، بحسب وجهة نظره، عشر مفاجآت، أولها قيام الحرب في أوروبا نفسها التي نظرت إلى الحدث بصفته حدثًا "غير معقول في قارة ظنت أنها تعيش سلامًا أبديًا". وثانيها في أن الحرب وضعت كل من روسيا والولايات المتحدة وجهًا لوجه. أما المفاجأة الثالثة، فتتجسد في قدرة كييف على المقاومة، بينما كان الروس والغربيون يعتقدون أنها ستنهار خلال 72 ساعة. وتتمثل المفاجأة الرابعة في إظهار روسيا قدرتها على مقاومة الضغوط الاقتصادية التي فرضت عليها منذ بداية الحرب، بما في ذلك عزلها عن النظام المالي الدولي. وخامس المفاجآت تتحدد في "انبطاح" الاتحاد الأوروبي، وغياب أي استقلالية عن الإدارة الأميركية. وسابع المفاجآت يجدها المؤلف في عجز الصناعات الدفاعية الأميركية عن توفير الأسلحة والذخائر الكافية للقوات الأوكرانية. وفي المقابل، فإن روسيا، ومعها حليفتها بيلاروسيا، نجحتا في إنتاج أسلحة أكثر مما أنتجته المصانع الأميركية والأوروبية مجتمعة. أما ثامن المفاجآت فتتمثل في ما يسميه "العزلة الأيديولوجية للغرب"، حيث لم ينجح الغرب في جرّ العالم وراءه ووراء أوكرانيا. والمفاجأة التاسعة تتحدد في أن العالم الإسلامي ما يزال ينظر إلى روسيا بوصفها شريكًا وليست عدوًا، والمفاجأة الأخيرة تتمثل في توقع حتمية هزيمة الغرب، حيث يجزم المؤلف بأن "هزيمة الغرب واقعة لا محالة، لأنه آخذ في تدمير نفسه أكثر مما هو ضحية لهجمات روسيا"!
وبالنظر إلى عمق الأزمة في الغرب، فإن الإصلاح بات متعذرًا، خاصة بعد تبخر البروتستانتية وأخلاقها وآليات عملها التاريخية التي أدت إلى صعود العالم الأنغلو أميركي، ولعبت دورًا في بناء النهضة الصناعية في كل من ألمانيا وإنكلترا وأميركا، لذلك رأى ماكس فيبر أن البروتستانتية هي التي منحت الرأسمالية ديناميكيتها. وبالتالي، فإن العامل الديني الذي كان أحد عناصر تأجيج المعرفة العلمية، فقد وهجه في الغرب في المرحلة الراهنة، حيث بلغت البروتستانتية درجة الصفر، ما يعني أن الولايات المتحدة التي تتمتع بنظام وقوة عسكرية هائلين، باتت من دون قيادة مركزية وقيم توجهها، وهنا تكمن مشكلة الغرب، فهو بات يمثل قوة ضاربة فقدت بوصلتها. إضافة إلى أن الغرب ليس مستقرًا، لا بل مريض، ويعاني من أزمة يشغل موقعًا مركزيًا فيها. وعليه، يقرر المؤلف أن الغرب وقع في فخ الحرب في أوكرانيا، وخسرها ليس بفعل قوة روسيا، بل بسبب انحداره التدريجي الذي بدأ منذ وقت طويل. فوزنه، سواء الديموغرافي، أو الاقتصادي، يفوق وزن روسيا، من سبع إلى عشر مرات، كما أن تقدمه التكنولوجي، وسيطرته الأيديولوجية، يقود إلى افتراض أن أزمة الغرب هي أزمة العالم. أما روسيا، في المقابل، فهي دولة استرجعت توازنها، وتبذل كل ما في وسعها من أجل الحفاظ عليه. وهي بعكس الدول الغربية زاد فيها متوسط الأعمار، وارتفعت نسبة الخصوبة. فمنذ بداية حكم فلاديمير بوتين تراجع معدل الوفيات بسبب الكحول من 25 في المئة إلى 8 في المئة، ونقصت نسبة الانتحار من 39 إلى 13 في المئة، والقتل من 28 إلى 6 في المئة. أما بالنسبة لمعدل وفيات الرضع، فقد انخفض من 19 في الألف إلى 4.4 في الألف. وهو أفضل من المعدل الأميركي. إضافة إلى أن روسيا تنتج ضعفي كمية القمح المنتجة في الولايات المتحدة. كما أن 23 في المئة من طلبة التعليم العالي في روسيا يدرسون الهندسة، في مقابل 7 في المئة في الولايات المتحدة، وهو أمر يرى المؤلف أنه ساعد روسيا على تحقيق تطور مذهل في مجالي الزراعة والصناعة! ويصل تحيزه للطرف الروسي إلى الزعم بأن روسيا ليس لديها أطماع توسعية خارج حدودها التاريخية، بل إن الشعب الروسي سيادي، وهمه استقلاله، والحفاظ على حدود بلاده. وعليه، يرى أن سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، على عكس الادعاء الغربي، لم يكن بسبب هزيمة روسيا فقط، بل لأن الولايات المتحدة لم تعد قادرة في ذلك الوقت على المواجهة. وبما أن الجميع صدق هذه الكذبة، خصوصًا الغرب، فقد استمرت الولايات المتحدة في مغامراتها التوسعية من العراق إلى أفغانستان، فيما كان الفقر والوفيات يتفاقمان في داخلها. وفيما كانت الولايات المتحدة تتخبط في حروبها، كانت روسيا تتعافى، فيما تركت الصين لتُنهك الصناعة الأميركية.
ينحاز المؤلف إلى المقاربة الروسية، ويتبناها إلى حدّ بعيد، وهو ما يُعدُّ من أهم مظاهر ضعف أطروحاته وتحليلاته، حيث لا يهتم بالبراهين والسياقات التي يعلل بها آراءه وخلاصاته، لذلك يغلب تسامحه مع روسيا مقابل مبالغته في التشدد مع الغرب، الذي يحمّله مسؤولية الحرب كاملة، الأمر الذي يدفع إلى الاعتقاد بأنه أحد أبواق روسيا في دول الغرب.