بعد رائعتها "مستر نون" الصادرة منذ أربع سنوات عن دار الآداب، والتي جاءت بعد انقطاع عن الكتابة تجاوز الخمس عشرة سنة، ها هي "غيبة مي" تصدر أخيرًا عن دار الآداب بصوت أنثوي قوي يعبُر بنا عتبة الشيخوخة بصراحة مفرطة، واضعًا القارئ أمام حقائق قلّما نجدها في الرواية العربية في السنوات الأخيرة بعد أن أصبح الرّاهن المُعاش بين حروب وهروب ولجوء هو الطاغي على الثيمة الروائية.
وعلى نسق "مستر نون" ندخل سُبُلَ اللعبة السردية الذكية لنجوى بركات ونحن نجهل تمامًا أنّها أوقعت بنا في فخ متاهتها. ينكشف المشهد الأول لسيدة عجوز ترى زائرًا غير مرغوب فيه في بيتها، هي "الست مي" بجلالة قدرها ومقامها، الساكنة في الطابق التاسع في بناية مطلة على بيروت، سلمت من الانفجار العظيم بقدرة قادر. وقبل أن نحسم الأمر بشأن الحالة النفسية والعقلية للست مي نكون قد تورّطنا في تلابيب هذا النص المؤثر الجميل، الذي يبرز جماليات الشيخوخة بلغة هي أقرب لعرض "ستاند آب كوميدي"، نص لديه أذرع مثل أخطبوط كاريكاتوري، يمد كمّاشاته العجيبة ليدغدغنا مرة فنضحك، ومرة يعتصر قلوبنا ألمًا حتى البكاء.
عليّ أن أشير هنا إلى أن خلفية القارئ ستجعله يتفاعل مع النص وفق جنسه ومجموع تجاربه في الحياة، وقد تكون ثيمة الشيخوخة التي تجسدها الست مي في النصف الأول من الرواية مجرّد اكتشاف للبعض، وحالة جسدية سيكولوجية للبعض الآخر، ومسارًا طبيعيًا لأحداث عاشتها قبل بلوغها شرفة الطابق التاسع وقربها من البوابة السماوية التي تقود مباشرة إلى عالم ما بعد الموت. هناك عدد لا نهائي من القراءات لهذه الثيمة التي عالجها كُتّاب آخرون مثل حسن داوود في "أيام زائدة"، وإبراهيم أصلان في "حجرتان وصالة"، وفيليب روث في روايته "كل إنسان" التي ورد فيها أن "الشيخوخة ليست معركة، إنّها مذبحة"، وروايات أخرى، اجتهد كُتّابها لرصد هذا العمر الحساس من منظور مختلف. في "غيبة مي" ليست الشيخوخة التي عولجت في حدّ ذاتها، من تعب جسدي وفقدان للصلاحية والمضي إلى الهامش المظلم الكئيب. "مي" في الحقيقة نموذج سيكولوجي مدهش لردود الأفعال العاطفية (Emotional reactions) والسلوكية (Behavioral reactions) والدفاعية (Defense Mechanisms) والمعرفية (Cognitive reactions). فقبل أن تتعطّل محرّكات دماغ "مي" تمامًا تستنجد الذاكرة بكل الأصوات والمشاهد التي لم يصبها التلف، من مرحلتي الطفولة والشباب. مثل حضور الأب في طفولتها، والذي غطّى على موت الأم، وحضور الحبيب النرجسي العنيف الكذاب الذي دمّر روحها الشفافة الهشة العاشقة للمسرح منذ بداياتها، ثم تأتي التفسيرات تباعًا، لنفهم سر زواجها من رجل يشبه والدها، وممارسة أمومتها بشكل غير معهود، أمومة باردة، فاترة، وهي علاقة تكشف مدى الحذر بالتعلّق القوي بالتوأمين، اللذين لن نعرف أبدًا اسميهما. سنتوقف طويلًا عند حضور يوسف النّاطور، وخدعة القطة التي خطرت بباله لإنقاذ الست مي من "وحدتها" التي لم تكن فتّاكة بالنسبة لها، بقدر ما كانت تفتك بيوسف نفسيًا كل يوم.
حين نعيد قراءة بعض المقاطع المؤثرة في الرواية بشأن معاناة مي حين كانت عاشقة، ونعيد ترتيب الأحداث وفق سُلّم القراءة، يتّسع أكثر من ثقب أسود في دواخلنا، ونرى بوضوح كيف نشأت تلك الثقوب في طفولتنا الباكرة، وبقيت ثقوبًا تتنفّس وتحيا وتكبر مسيطرة على قراراتنا بين إسقاط وإنكار، واستعجال ورفض وقبول، مستخدمين دروعًا دفاعية قد تكون في الغالب وهمية.
تبرع نجوى بركات في شدّنا إلى العوالم النّفسية المعقّدة للإنسان، من خلال رصد أعماق مي، ومرافقتها في أكثر المنعرجات خطورة في حياتها، لقد أرادت أن تفهم من أين يبدأ الدّاء، وأين ينتهي. تتبّع ذكي لانتكاسات مي التي توجّه عتابًا متأخرًا تهمس به لوالدها الراحل الذي لم يعلمها كيف تكون عندها مخالب ويحضّرها لهذا العالم المتوحش. عتب يشبه ما نردده جميعًا في لحظات الخسارات الفادحة والفشل التام أمام الشرور التي تهجم علينا متنكِّرة بأقنعتها الجميلة.
ثمة انسجام مخيف بين حال الست مي وحال الفضاء المكاني الذي تتحرّك فيه. الشقة الفاخرة المطلّة على بيروت تشبه الست مي كثيرًا حتى في تلك الثنائيات الحزينة بين انطفاء روح مي وانطفاء بيروت التي تغمرها العتمة، بين التشوهات الداخلية لمي والتشوهات التي تتركها كل حرب على بيروت، بين الانفجار الذي نسف بمعمار المدينة وحالة السخط التي أصيبت بها مي الشابة حين فقدت ذاتها المبدعة العاشقة للمسرح وجنينها إثر العنف الذي تعرّضت له، فحلقت شعر رأسها وحاجبيها... ألا يحدث ذلك في الواقع، حين ترغب المرأة في عقاب بدنها المدنّس؟
على النساء اللاتي أضعن براءتهن وهن يقاتلن الوحوش البشرية خلال صراع البقاء أن يقرأن هذه الرواية، إنها رواية أخرى استثنائية تضاف إلى مشروع نجوى بركات الروائي. ونص يعيدنا بجماليات سردية إلى حِكَم الكتب المقدسة التي طالما حذّرتنا من "الأنبياء الكَذَبة الذين يأتون بثياب الحملان". وبدون أدنى شك للنص أبعاد أخرى وفق أنساقه ومعطياته الروائية والفكرية، وحتمًا فيه من الثّراء ما يجعل هذه القراءة وجهًا من أوجهه العديدة القابلة للتفكيك.
عروض
"غيبة مي": شرح عميق لانتكاسات الذات المبدعة
فضيلة الفاروق
18 مايو 2025