وكعادة حسين علي يونس، لا يوجد ذِكرٌ ولو مرة واحدة لتاريخٍ أسفل القصيدة، كما يفعل الشاعر سعدي يوسف أو بعض الشعراء. وربما إلغاءُ التاريخ يقصد به ألّا يكون مرجعيةً للقارئ أو الناقد، ولا متَّكًأ، سوى القصيدة نفسها، المنفلتة عبر زمنٍ مَزيجٍ من زمنِ الأحلام، وزمنِ الحياة اليومية، والزمن الكوني. هذا ليس إهمالًا منه، فغالبيّةُ القصائد مطبوخة بعنايةٍ في النار السرّية التي لا يعرفها سوى الشاعر نفسه، ولم يُلزِم نفسه بوضعها ضمن طابورٍ وِلاديٍّ/ زمنيّ.
غالبيّة العناوين تدلّ على حالةٍ من الاتّساع. ينطلق من الحانة، من البرميل، من البئر... ينطلق أيضًا من السؤال الكبير: هل عشنا حياتنا؟
من "حكايا" وما تعنيه هذه الكلمة من سردٍ شفهيٍّ من أجل التسلية، أو هذا ما خُلِقَت من أجله. ينطلق من كلمةٍ أخرى ملتصقةٍ إلى جانبها، توأمها: مرائر. لا يوجد هنا تَرَفٌ، ولا ملاعقُ ذهب، ولا حتى ملاعقُ قصب، ولا كفٌّ رحيمةٌ تُغطّي عيون الصغير ريثما يتلاشى الإعصار.
أيُّها الطفل، افتح عينيك بكلّ ما أُوتيتَ من قوّةٍ لترى المذابح اليومية، الصغيرة والكبيرة، وتترعرع خلال هذه الممارسة القاسية، وما أصعب أن يكون الزادُ اليوميُّ دموعًا.
ربما منذ قصيدته الصغيرة/ القصيرة/ الواخزة مثل إبرةِ حشرةٍ مشاكسة، قصيدته "هشاشة في المخيلة"، المنشورة في مجلة "أسفار" (*) عام 1993، والمنشورة لاحقًا في أوّل مجموعة له: "حكايا ومرائر"/ منشورات الجمل وهو يضع جنبًا إلى جنب: البداية التي تنهض من زاويةٍ في الغرفة أو السطح أو الشارع، إلى جانب شيءٍ آخر ينخره/ يطبخه بالكتابة والأسئلة:
هشاشة في المخيلة
قبل عشرين سنةً بالتمام،
كنتُ أنظرُ إلى نهايةِ سطحِ المنزل،
فأحسبهُ نهايةَ العالم،
أمّا اليوم............ ¹
أبدأ بالحوار معه كعادتي: كيف حالك يا حسين؟
وأخاطبه هذه المرّة من داخل قصيدته، وهنا يكون المكانُ مُشِعًّا، مُجَنَّحًا، فيلمًا من الخيال العلمي والاجتماعي من النوع الراقي، وهو مختلف عن لقائنا الواقعيّ في الكرادة مثلًا. كلانا يبحث عن مكانٍ آخر في أعماقِ هذا المكان، المُقيم في بغداد هذا الشاعر/ المُنعزل كبقعةِ زيتٍ في مياهِها، أنا، أو هو، المُسافر/ الضيف، وهو يحمل مجموعة كتب أو أوراقًا في حقيبةٍ حائلةٍ، متمسّكةً بالحياة وخيوط الوجود المتدلّية.
يملك أكثر من عين: نظّارةٌ تحت حاجبيه، نظّارةٌ تتدلّى على صدره، قلادةٌ أو مِشْنقة، بالإضافة إلى كاميرا داخل جسده وُلِدت معه، يحاول جاهدًا قراءة الأسطر المسحوقة في الشوارع والزوايا، تحت الجسور، في الماء والدم.
كيف حالك يا حسين؟
يأتيني الجواب إمّا بومضةٍ هي عنوانٌ وقصيدةٌ في آن، أو قصيدةٍ طويلة، مُتقشِّفة، تُشبه شجرةً كبيرةً أُجريت لها حلاقةٌ عصريةٌ وجوديّة، اعتنى بها المزارعُ من أجلِ روحٍ أكثرَ خفّةً وأعلى طيرانًا. يُجيبني من مكانه، وهو في قصيدته، ربما ممدَّدٌ في إحدى مقاهيها:
في المدن
متاحةٌ لنا الكراجات،
متاحةٌ لنا أذرعُ الفِتية،
وهم يجلون ضجرَ الوقت.
متاحٌ لنا الفندقُ الفَذُّ،
وأزقّةُ بغدادَ القديمة،
ومتاحٌ لنا وسط هذا الزحام،
حرّ الصيف. ²
يُحدثني وهو يضحكُ بطيبته المتواصلة عن جوازِ سفرٍ مُصمَّمٍ على شكلِ قصيدة، عن فريد الأطرش وأطيافه الواسعة، عن تحدّياته خلال العطش والجوع، وامتلاكه لسلّمٍ مُحطَّم، وأمام هذا السُلَّم، لديه قلبٌ مُعذَّبٌ يرغب بشدةٍ بأن يرسمَ سلّمًا، وبعدها يمزّق الورقَ وينام، وربما يُفكّر غدًا بصنعِ سلّمٍ حقيقيّ.
واجهَ جشعَ الناشرين بالاستنساخ.
لم يأخذْ بنصيحةِ المتنبي (العظيمة) التي يشتريها غيره بالذهب.
أمام الملوك، يُخرجُ قصائدَه المُعبّأة بالسوادِ الساخر، يرفضُ أن يُسوّق قصائدَه بالتزلّف، يركلُ الخطاب الرسميّ كلّما يمسك قلمه ويكتب. يُطالبونه بمدائح، لكنه لا يمدحُ سوى ظِلِّ شجرةٍ، وربما نحلةٍ تَطِنُّ حول استكانِ شايٍ محترق، أو لمعانٍ خاطفٍ في نهرِ دجلة، لمبةٍ تتبادلُ مع نجمةٍ رسائلَ، نافذةٍ صغيرةٍ في مدينة الثورة:
الشجرة
كنتُ ضائعًا في الشتاء،
وكنتُ ضائعًا في الصيف،
أعيشُ حياةً لا تنتهي،
وأحلم أن أكون شجرة،
تمتدُّ أغصانُها وتَنمو،
كالمحيطات. ³
هذا هو. لن يتبدّل. لن يُقدّم تنازلات. يجد نفسَه جميلًا وهو بهذا الشكل: توأمٌ أحدُهما ملتصقٌ بالآخر عن طريق الشرايين. الأول هو الشعر، والثاني هو الشرف. الأول هو الشرف، والثاني هو الشعر. الأول = الثاني، ولو فُصِلَ أحدُهما عن الآخر، سينتهي كل شيء: الكتابة، والأراجيح، والفضة في داخلها.
في مُقتبلِ شبابي
في بدايةِ شبابي،
يئستُ من الحياة،
لكنّ جرحي التأم.
كنتُ أريدُ أن أكون بقالًا،
ولم أكن أُمانعُ أن أكون عاملَ نظافة.
ثمّ حَلِمتُ لفترةٍ طويلة
أن أصبحَ فنّانًا،
ورسمتُ شابلن وماركس،
فريد الأطرش وزكريا أحمد.
بيد أني أصبحتُ شاعرًا،
ورافقني الإفلاس. ⁴
هوامش:
1و2و3و4- مجموعة قصائد مقتبسة من "هل عشنا حياتنا"، حسين علي يونس/ قارات، 2024.
(*) مجلة أسفار، عدد 15 آذار/ مارس 1993.