}
عروض

"من نفق عيلبون إلى طوفان الأقصى": مسار المقاومة الفلسطينية

عمر كوش

27 مايو 2025


يحتل النفق مكانة خاصة لدى الفلسطينيين في صراعهم مع الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي، وذهب بعضهم إلى تأريخ بداية الثورة الفلسطينية بعملية نفق "عيلبون" الذي فجّره فدائيون من حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) في ليلة 31 ديسمبر/ كانون الأول 1965، وكانت تستخدمه إسرائيل لسرقة مياه نهر الأردن. ثم وظّف المقاومون الفلسطينيون النفق توظيفات شتى، حيث استخدمه الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال في العديد من عمليات الهروب وبأساليب مختلفة، وحفر المقاومون الفلسطينيون أنفاقًا قتالية هجومية، للقيام بعملياتهم، وأخرى دفاعية استخدمت للتصدي للاجتياحات الإسرائيلية البرية، ونصب الكمائن. إضافة إلى أنفاق تهريب الأسلحة، وتهريب السلع والمواد الغذائية وسواها.

غير أن ماجد كيالي في كتابه "من نفق عيلبون إلى طوفان الأقصى" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان، 2025)، لا يتوقف عند عملية نفق عيلبون، بل يبدأ منها، كي يخوض نقاشًا نقديًا لمسار حركة المقاومة الوطنية الفلسطينية، يتناول فيه مشكلات وتمثلات صعود الوطنية الفلسطينية، وهبوطها، وفكرة مركزية الكفاح المسلح، وإشكاليات الهوية الوطنية الفلسطينية، ليصل إلى هجوم "طوفان الأقصى"، وحرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل على الفلسطينيين، باعتبارها نكبة جديدة. ويدخل هذا الكتاب ضمن قراءته النقدية للحركة الوطنية الفلسطينية في تجاربها من الأردن إلى لبنان وصولًا إلى الأرض المحتلة.

يكشف الواقع الفلسطيني أن المقاومة الفلسطينية مرّت بمنعطفات تاريخية ومفصلية، أهمها مجازر سبتمبر/ أيلول في الأردن عام 1970، وانتقال فصائل المقاومة الفلسطينية إلى لبنان، حيث تفجرت الحرب الأهلية في منتصف سبعينيات القرن العشرين الماضي. وبدأت بعدها عملية استنزاف فصائل المقاومة، التي أصاب قياداتها الترهل، وغرقت معظمها في دهاليز البيروقراطية والعمل المكتبي، بدلًا من العمل النضالي على الأرض. وتحولت منظمة التحرير إلى ما يشبه نظامًا غارقًا في المحسوبيات والفساد، والرضوخ إلى ما تريده الأنظمة العربية، التي كانت تسعى إلى مصادرة القرار الفلسطيني. ثم جاء الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان في آذار/ مارس 1978، ليقيم شريطًا حدوديًا، ولإبعاد مستوطناته الواقعة في الشمال عن عمليات الفصائل الفلسطينية. وقامت إسرائيل بغزو لبنان في صيف 1982، وما نجم عنه من إبعاد الفصائل الفلسطينية عن بيروت والجنوب. وأكمل نظام حافظ الأسد الاستبدادي، الذي كان يحتل لبنان في ذلك الوقت، مهمة إخراج منظمة التحرير نهائيًا من لبنان، وترحيل مقاتليها إلى دول الشتات، وعنى ذلك انتهاء الكفاح المسلح الفلسطيني من الخارج، الذي اتخذ شكله "اللادولتي" في الحالة الفلسطينية. وجاءت الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 في سياق مختلف عن أسلوب الكفاح المسلح الذي اعتمد على العمليات الفدائية العسكرية، لتوجه صفعة قوية للاحتلال الإسرائيلي، وكانت سلمية، وأنجزت الكثير للشعب الفلسطيني، حيث انتقلت الحركة الفلسطينية إلى الداخل، لكن اليأس من التزام إسرائيل بفكرة التسوية وضربها لاتفاقات أوسلو دفع الأمور إلى الانفجار، فاندلعت الانتفاضة في نسختها الثانية في عام 2000، التي استغلتها الفصائل لاستئناف الكفاح المسلح، من خلال القيام بعمليات انتحارية، تبعتها مرحلة إطلاق الصواريخ، تبنتها حركة حماس في قطاع غزة، بعد انقسام الكيان الفلسطيني إلى سلطتين في الضفة الغربية وقطاع غزة، ثم وصل الأمر إلى عملية طوفان الأقصى التي استغلتها إسرائيل، لتشن حربَ إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وما تزال تمعن في قتلهم وتدمير ما تبقى من أماكن للعيش في القطاع.

يجادل ماجد كيالي بأن الساحة الفلسطينية بحاجة إلى عقلية نقدية تغييرية، عنوانها التجديد والتطوير، بالنظر إلى أن الوضع بات يتطلّب التخلي النهائي عن عقلية الفصائل الضيقة، بخطاباتها وأشكال عملها، التي تميزت بغلبة الروح الشعاراتية، الحماسية والرغبوية، فضلًا عن العفوية والتجريبية، وسادت في الساحة الفلسطينية في المرحلة الماضية على الرغم من تراجع دور الفصائل، واضمحلال حضورها في المجتمع، وفي مجال الصراع ضدّ إسرائيل. ولا يعني توجيه النقد للتجربة الفلسطينية التخلي عن الخبرة الوطنية المكتسبة، ولا عن الإنجازات التي تحققت، التي يجب الحفاظ عليها، والبناء على على ما حققته. ويلتقي هذا الطرح مع الواقع الذي يكشف أن الحركة الوطنية الفلسطينية حقّقت إنجازات في سنوات انطلاقها، خاصة في منتصف سبعينيات القرن الماضي، لكنها تراجعت، وأصابها الجمود فيما بعد، حيث يكشف مسار التجربة الفلسطينية التي اعتمدت على الكفاح المسلح أن الفصائل الفلسطينية لم تقم بجردة حساب أو نقد لما قامت به على المستويين السياسي والعسكري، ولم تراجع عملياتها بدءًا من عملية "نفق عيلبون" وصولًا إلى عملية "طوفان الأقصى"، مرورًا بمختلف العمليات الفدائية والهجمات الصاروخية والتفجيرية، فضلًا عن النهج السياسي الذي تعرض لإخفاقات شديدة، وانعكس ذلك على العمل المقاوم والحركة الوطنية الفلسطينية، التي شابتها نواقص وثغرات يحددها كيالي في عدم تكافؤ المعطيات والإمكانيات وموازين القوى بين الحركة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل، وافتقادها لحيزها وإقليمها الاجتماعي والجغرافي المستقل والخاص، وتأخرها عن مشاريع الوطنيات العربية، الأمر الذي وضعها في تعارض معها مثلما حصل في الأردن ولبنان وسورية. إضافة إلى ضعف إمكانيات الشعب الفلسطيني المادية، وتآكل الشرعية الثورية، وكثرة عدد الفصائل.

نفق عيلبون  


يعتبر كيالي أن المشكلة الكبرى للحركة الوطنية الفلسطينية ما زالت تتجسد في التناقض بين شعاراتها المطروحة والأدوات والوسائل المعتمدة لديها، إضافة إلى الفارق الواسع بين إمكانياتها الذاتية وشروط العمل المسموح به عربيًا ودوليًا، وعليه فإن النقاش يطاول الكفاح المسلح الذي تحول إلى عمل بديهي لدى الفصائل الفلسطينية، مع العلم أنه نشأ خارج الأراضي الفلسطينية، أي في بلدان اللجوء والشتات، فيما لم تظهر أي جماعة سياسية بين فلسطينيي 48، تطالب بانتهاج العمل المسلح، بل اعتمدت قواهم الفاعلة في نضالها ضد إسرائيل الأسلوب المدني السلمي، وانخرطت في المؤسسات مستثمرة هامش الديمقراطية، وخاض مناضلو الداخل معارك سياسية كثيرة ضد الاحتلال الصهيوني، لكن تجاربهم لم تدرس بشكل جيد. كما أن تبني الحركة الوطنية الكفاح المسلح وغياب ثقافة النضال السلمي المدني ساهما في الحدّ من اندماج فلسطيني 48 فيها. أما فلسطينيو 67، فمن الطبيعي أن تكون تجاربهم مختلفة عن تجارب فلسطينيي 48، لكنهم لم يتبنوا الكفاح المسلح كخيار وحيد، إنما اختلفت أساليب مقاومتهم ضد الاحتلال من العصيان المدني إلى الانتفاضات والهبات وسوى ذلك.

غير أنه من الطبيعي أن تختلف التجارب النضالية ما بين الفلسطينيين في دول اللجوء وفلسطينيي 48، وفلسطينيي 67، بحكم الواقع الذي يعيشونه والظروف التي تتحكم بهم، حيث إنه بعد إعلان دولة إسرائيل عام 1948، فرضت سلطاتها الاحتلالية حكمًا عسكريًا على الفلسطينيين داخل الخط الاخضر، واقتضى ذلك التعامل بشكل أمني وعسكري معهم، ووضعهم في موضع الشك والتهديد الدائم، والتعامل معه بقسوة وقمع شديدين. كما ارتبط التعامل الإسرائيلي مع فلسطينيي 48 بسياسة التخويف وسياسة "الجدار الحديدي" التي قضت بملاحقة ومعاقبة كل من ينادي بالقضية الفلسطينية، وتخويفهم وإبعادهم عن امتدادهم الهوياتي. أدرك فلسطينيو الداخل هذه السياسة، إضافة إلى وعيهم لمحدودية إمكانياتهم وقدراتهم، الأمر الذي دفعهم إلى اعتماد نهج الخيار السلمي، وعدم الجنوح إلى اعتماد الكفاح المسلح في مواجهة إسرائيل. واتبعت إسرائيل بعد منتصف ستينيات القرن الماضي سياسة تقوم على الضبط والسيطرة، بغية التحكم بوتيرة الحدود التي تسمح بها سياسيًا للفلسطينيين عبر ربطه بالأهداف والأجندة الإسرائيلية، الرامية إلى تعزيز الاستيطان ومصادرة ما تبقى من أراضي الفلسطينيين. أما الفلسطينيون في الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، فقد شاركوا في العمليات الفدائية التي كانت تقوم بها الفصائل، ثم منحت اتفاقيات أوسلو السلطة الفلسطينية إدارة شؤونهم، وحفظت إسرائيل لنفسها الأمن من خلال التنسيق الأمني مع السلطات الفلسطينية، ونبذ الأخيرة العمل المسلّح في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. وأحدثت أوسلو شرخًا في الحركة الوطنية الفلسطينية وطبيعة المقاومة الفلسطينية، وتجسد في اختلاف نهجين، أحدهما نهج يرضى بعملية سلام وشروطها، وآخر رافض لها، مما أثر على وحدة العمل الفلسطيني، وتجسدت تداعيات ذلك في الانقسام الحاصل بين سلطتي الضفة وغزة.

يعتبر كثيرون أن تجربة النضال الفلسطيني انطلقت من عملية عيلبون عام 1965، وقد جرت مياه كثيرة بعد هذه العملية في نهر الحركة الوطنية الفلسطينية، خاصة وأن صراع الدول العربية مع إسرائيل انتهى عمليًا مع حرب عام 1973، وأنهى ما تبعها من تسويات عربية مع إسرائيل مقولة مركزية القضية الفلسطينية في العالم العربي. وكان الأجدى بالقيادات الفلسطينية عدم التسليم ببديهية الكفاح المسلح والتسويق لها، كونه يمثل أحد أشكال النضال وليس جميعها، وليس ينقص من مكانة القضية الفلسطينية اللجوء إلى النضال السلمي، حيث سلكته شعوب أخرى في نضالها من أجل الاستقلال ونيل الحرية، وأثبت نجاعته في تجارب نضالية عديدة.

القضية المحورية المطروحة للنقاش هي مسألة الكفاح المسلح، أو بالأحرى الخيار العسكري للحركة الفلسطينية، حيث شكلت الحروب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، مناسبة لطرح أسئلة عليها، تطاول مدى جدوى الاستمرار بها، خاصة بعد حرب الإبادة الجماعية التي بدأت بشنها إسرائيل في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى التي قامت بها حركة حماس، على مناطق في غلاف غزة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وما زالت مستمرة إلى يومنا هذا، ويدفع الشعب الفلسطيني أثمانها الباهظة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.