}
عروض

"سيرة سكان مدينة ر": المكان الفلسطيني كاستعارة

بشير البكر

3 مايو 2025


يتشكل ديوان الشاعرة داليا طه "سيرة سكان مدينة ر"، الصادر مؤخرًا عن الدار "الأهلية" في عمان، من عدد من الحوارات مع الذات، ومع موجودات المحيط اليومي، من بشر وأشياء وتفاصيل مكانية، تواجه الكائن المشغول بمشاركة الحياة مع الآخرين، وتتيح لذلك مساحة مفتوحة من الخيال غير المشوش، ليظل كل تفصيل على سجيته، يتحدث ويعبر ويوحي وينعكس في مرآة الشاعرة المشغولة بالتقاط التفاصيل وتأليفها مع بعضها على نحو كيميائي بارع، يمزج المكونات من أجل تكوين سيرة، لتبدو كل قصيدة سيرة لأحد سكان تلك المدينة، التي يقترب الظن من أنها مدينة رام الله الفلسطينية في الضفة الغربية، حيث تعيش الشاعرة، وترى العالم من فضائها الخاص، وتعمل على تحويله إلى قدر كبير من اللوحات والصور والرموز.

لأول وهلة يحس قارئ الديوان أنه يطالع نصوصا ذهنية، تعتمد على اللعب مع اللغة في تجريب لا يتضمن عناصر، ذات إحالات وجدانية عميقة، أو هموم ذات خصوصية معاشية، تشكلت بفعل خصوصية ولادة الشاعرة وحياتها في فلسطين، البلد الذي لا يخفي فيه الشعر صوته، ولا يتنازل عن حرارته وروايته الصريحة في بعديها المباشر والمضمر. لكنه سرعان ما تأخذنا الشاعرة إلى بعض التفاصيل والرموز التي تقول إنها تكتب سيرة مكان محدد، له ماض مستمر، وحاضر متحرك بقوة، ومستقبل يقف على ناصية الوقت. رؤى متكاملة العناصر، في تبدل كل يوم، ولكن لكل منها لونه وطعمه وكيانه المتماسك، الذي تشكل البيئة الخارجية القوية إطاره العام، وتحدد له الفضاء الذي يتحرك فيه، ولا يمكن أن يخرج منه، حتى لو أرد ذلك، فهي من القوة التي تجعل المتأمل والباحث عن تفسير للألغاز، أن يحس بأنه متحرك في فضاء عصي على مغادرة صيرورته التي تشكل وعاش بها الشعر، بوصفه خيال المكان الذي لا ينفصل عنه، ويتشارك به كل تفصيل ذاتي من سير شخصيات المدينة المتخيلة في العمل الذي يمتد على 160 صفحة.




بعد قراءة قصيدة أو أكثر يمشي القارئ مع الشاعرة، التي تعاين، وتراقب ما حولها بفضول من رأى، واكتشف وترك للعين أن تتنزه أو تتحشر بالجديد والقديم، بما هو ثابت، ومتغير في كل يوم في مدينة، تعيش حياة يومية على إيقاع زمنين، خاص وعام، تنام وتصحو وتبدل ألبستها، بعض موجوداتها وأهلها لا يتزحزحون من المشهد، كما لو أن مصورا ثبتهم في لوحة، في حين يتبدل الزوار والعابرون الذي يأتون المدينة من أماكن مختلفة، لدى كل منهم صورته عنها، وعن نفسه، فيها ومن دونها.
نقرأ الديون بفضول من يبحث عن مفاتيح للدخول إلى عالم الكائن في المكان المتخيل، نبحث، كما في مشاعر مسبقة، ونحن نظن أن الاستعارة في العمل، سوف تهبط علينا من مكان جمالي مبتكر، كما هي حال أغلب الشعر الدارج في هذه الأيام، الذي لا يصرح بهوية أو يتبنى رواية، لكن الشاعرة تأخذنا نحو صيغة أخرى، تزاوج فيها بين مشهد الذات، حياة يومية تعيشها، مع ما يحفل به عالمها الإنساني، ومكانها الفلسطيني، يتقاطع الفردي مع العام، إلى حد لا يمكن فيه رؤية أحدهما بمعزل عن الآخر، ويتم ذلك من دون تكلف، يسعفها الشعر المكتوب بدراية، ووعي، وحب للصنعة التي لا تستجدي، ولا تغادر أرض الشعر.
الشعر يدون الحياة، التي يعيشها، ويشهد تحولاتها، في كل الأوقات، ويبحث عن أرض الإقامة الخاصة، وسط العالم الذي يحيط به، من دون أن يقصد ذلك بالضبط، لكن إذا أخذنا الكلام في مساراته المتعرجة، وحركته بين الذاتي والعام، نقف على نظرة بانورامية، ترسم صورة مسجلة، تدل على براعة في التعاطي مع اللغة بألفة وحب شديدين، ينمان عن عين تغرف بقوة، وذاكرة تعمل على مدار الوقت، كأن الشاعرة تحلم بالشعر فقط، لترى منه، ما يذهب ويأتي، ما يمكث ويبقى منه في حياة الجبال وعازف الربابة والأسير والجدة التي تقشر التين لزوجها العجوز وأحفادها غير القادرين على الحب.
الشعر يستدرج الأسئلة حول الأمل، وعما يمكث في المدينة والأرض ومعنى مشاركة الحياة مع الآخرين، وهل يراه الآخرون، كما يراهم في كل يوم في صورهم، التي لا تتبدل حينا، او تلك التي تتغير من تلقاء ذاتها، كلما عبرت المدينة موجة جديدة. يبقى الشعر هو العزاء في لحظة يطغى فيها القبح، ويتحول إلى الحق الأخير للدفاع عن الذات والوجود، حينما تصبح كل الأسلحة الأخرى عاطلة عن حماية الأرض والذاكرة وحياة الكائن في دياره.
تبقى هناك نقطة مهمة، وهي تتعلق بالجملة الشعرية في هذا الديوان. هي على قدر كبير من الخصوصية، لا تشبه الشاعرة أحدا من شعراء بلادها، ولا بلاد غيرها. مشغولة بعناية شديدة، ذات طاقة تخييليه عالية، من دون أن تنحدر نحو الانشاء الذي استشرى في أغلب النصوص العربية. ومن حسنات هذا العمل أيضا، أن الشاعرة لا تكرر ذاتها بين القصائد، ولا يعود ذلك إلى اختلاف المضامين، بل إلى متانة الأدوات ووعي ما تذهب إليه الكاتبة في منظورها الذاتي.   

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.