والمعروف أنه في أعقاب هزيمة حزيران/ يونيو 1967، قام جيش الاحتلال الإسرائيلي بتهجير سكان حارة المغاربة في القدس وهدمها، لفسح المجال أمام إقامة ساحة واسعة تمتد اليوم إلى موقع حائط البراق أو "المبكى"، كما يطلق عليه الإسرائيليون، ولكن الجديد في هذا الكتاب أن لومير يروي هذه العملية المخطط لها، ورحلة نزوح السكان، وكذلك تاريخ هذه الحارة التي أسسها صلاح الدين الأيوبي عام 1187 للميلاد، لاستقبال الزوار القادمين من المغرب العربي، وجلّهم حجّاج إلى الحرم القدسي، قدموا إلى المدينة المقدسة، وطاب لهم المُقام فيها.
ولإعادة إحياء ذكرى "حارة المغاربة" التي تعرضت للمحو، ينطلق المؤلف في رحلة البحث عن وثائق مبعثرة، بدءاً بأرشيف المؤسسات الإسلامية في القدس، وصولاً إلى أرشيف الصليب الأحمر في جنيف، مرورًا بالأرشيف العثماني في إسطنبول، وشهادات السكّان، والحفريات الأثرية التي كشفت عن القطع والأواني المنزلية التي دُفنت خلال عملية الهدم، بحيث يقدم في الوقت الذي عادت فيه المدينة المقدسة إلى قلب التوترات الجيوسياسية التي تهز المنطقة، إطلالة غير مسبوقة تقدم بانوراما خاصة تعزز إدراك القارئ فيما يخص القدس عامة، والحارة محور البحث على وجه الخصوص.
في انهيار مفاجئ تحت وطأة الثلوج وهزة أرضية متوسطة الشدة تكشفت في القدس، وتحديدًا في 14 شباط/ فبراير 2004، جُرفت شوارع، وسقطت كتل كبيرة من الحجارة، ما فسح المجال لرؤية العديد من مخلفات الماضي، وأجزاء من جدران، وأساسات، وقناطر، وعِمادات قديمة، بحيث تواكب انزلاق الأرض مع انزلاق في الزمن، فعندما انزلقت الأرض على نفسها، ظهرت طبقات زمنية مُخفاة أمام أعين الجميع، لينكشف للعيان تاريخ حارة المغاربة التي كان يعيش فيها، منذ القرون الوسطى، عدة مئات من السكان ذوي الأصول المغاربية، من المغرب الأقصى والجزائر وتونس، وهي حي تاريخي من أحياء القدس تعرّض للهدم في ظرف ساعات قليلة من حزيران/ يونيو 1967، إثر احتلال قوات الاحتلال الإسرائيلي للقدس.
لم يتأخر هذا النبش في مخلفات الماضي بإعادة الحياة إلى الذاكرة المطمورة للحارة المختفية، كما تظهر مقتطفات من التقرير الأولي الذي نشرته "اليونسكو" في 12 آذار/ مارس 2007، أرسلته لجنة التراث العالمي إلى موقع الانزلاق لتقييم عواقبه، مشيرة إلى أن "انهيار المُنحدر وصل إلى ساحة الحائط الغربي بباب المغاربة، المؤدي إلى الحرم الشريف، وهو كل ما تبقى من حارة المغاربة، التي دمرتها إسرائيل في أعقاب حرب الأيام الستة، وفي مطلع سبعينيات القرن الماضي، بعد إزالة حارة المغاربة، جرى تشييد جدران ساندة على الجانبين الشمالي والجنوبي للمنحدر، وشُيّد بنيان من الأسمنت فوق ذلك، فسحاً لمد طريق ووضع سقيفة حماية، ومنذ ذلك الحين، يشكل هذا المُنحَدر الطريق الرئيس الذي يسلكه الزوار والشرطة الإسرائيلية، وكذلك، منذ 2004، اليهود المتدينون المتجهون، رفقة عناصر من الشرطة الإسرائيلية، إلى باحات الحرم الشريف... في شباط/ فبراير 2004، انهار الجدار الساند للمنحدر، بعد أن أعطبته الأمطار والثلوج التي انهمرت بغزارة، ما جعل العبور عبر هذه الطريق مخاطرة، وكشف انهيار هذا الجدار عن قناطر الأبنية التي كانت قائمة تحته".
وأشار خبراء "اليونسكو"، في التقرير المشار إليه أعلاه، إلى كون "مسؤولي الأوقاف الأردنيين هم الذين طلبوا من لجنة التراث العالمي تولي ملف القضية، وذلك لأنهم يعتبرون أن الحفريات التي قامت بها السلطات الإسرائيلية في أسفل المنطقة المنهارة، هي حفريات غير شرعية وفق القانون الدولي"، وكانت الأردن أعلنت بصراحة أن "مجمل مساحة حارة المغاربة القديمة ومنحدر العبور ملك للأوقاف، وأنه منذ 1967، قامت الأوقاف بالمطالبة باستعادة مفاتيح باب المغاربة، لكن دون جدوى"، وفي ختام التقرير عبّر الخبراء عن قلقهم، مطالبين الحكومة الإسرائيلية بـ"الوقف الفوري للحفريات الأركيولوجية".
وشكلت هذه الحادثة علامة مثيرة "لعودة المكبوت"، فقد أدى منحدر المغاربة دور "حافظ الذاكرة"، الذي فسح المجال، نتيجة هذا الانهيار العرضي، لانبعاث ذكرى، بعد خمسين عامًا على الحدث، فثمة ما كان موجودًا من قبل في مكان وموقع ما يعرف بـ"ساحة الحائط الغربي"، بحيث كانت تلك المنطقة الأثر الأخير لتاريخ اختفى، أو بمعنى أدق أُخفي، أطيح به، وأغرق في بحر النسيان عن قصد.
ووصف لومير الحدث بأنه "ثقب في الذاكرة"، فقد بقي فصل التدمير عام 1967 مجهولًا، بحيث لم يتم نشر أي تاريخ شامل لحارة المغاربة، التي كانت تجد لنفسها موقعًا في قلب المدينة المقدسة، وفي وسط الأماكن الأكثر قداسة للأديان التوحيدية، لافتًا إلى أن تاريخ الحارة طُمس في إنتاج المؤرخين الإسرائيليين، وهو أمر متوقع، لكنه أيضًا لم يجد له مكانًا في إنتاج المؤرخين الفلسطينيين كذلك، مشددًا على أن "حارة المغاربة المقدسية تتجاوز كثيرًا الإطار الضيق للهويات القومية، وبقيت حتى يومنا إحدى النقاط المُعتمة في كتابة تاريخ المنطقة، بما في ذلك المؤلفات المكرسة بالكامل لحرب 1967".
وبدأ تاريخ الحارة التي أزيلت في ليلة 10-11 حزيران/ يونيو 1967، في عام 1187، عندما اندفع صلاح الدين، فاتح القدس المنتصر، في "سياسة طموحة لإعادة الإسكان، وإعادة التنظيم الحضري للمدينة المقدسة، وخصوصاً لأطرافها التي أهملت إلى حد كبير في زمن الصليبيين"، بحيث عمل صلاح الدين، في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، من خلال أحد مساعديه الأقرب، سيدي أبو مِدين، الصوفي الروحاني من أصول أندلسية، وبمبادرة من ابن صلاح الدين البكر الأمير الأفضل، على إنشاء جملة من الجمعيات الخيرية الهادفة إلى إيواء ورعاية الحجّاج الآتين من بلاد المغرب، مترافقة مع بناء منبر جديد خاص بالحجّاج المغاربة في الحرم الشريف، وأيضاً بناء مدرسة قرآنية مكرسة لتعليم الفقه المالكي، المدرسة الفقهية السائدة في بلاد المغرب، واللافت أن جل الجمعيات الإسلامية الخيرية بقيت تعمل طوال الفترة العثمانية، وفترة الاحتلال أو الانتداب البريطاني، ومرحلة الحكم الأردنية، حتى لحظة تدمير الحارة.
وينقل الكتاب عن لوي ماسينيون، عالم الإسلاميات، في مطلع خمسينيات القرن الماضي، ملاحظته أن "إسكان المجموعات المغاربية المسلمة الأولى في هذا المكان، أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، سبق بثلاثة قرون إضفاء القدس اليهودية على هذا القسم من الحائط في القرن السادس عشر الميلادي، مفترضًا أن التسمية كانت تشير في البدء إلى "حائط الغربيين" أو "حائط المغاربة"، نظراً إلى كون تعبير "مغاربة" (بالعبرية) يشير فعلًا إلى ’الغربيين’".
واستقر الحجاج المسلمون "الغربيّون" عند أسفل جدار "غربي" تعتبره الطوائف اليهودية مزارًا دينياً لها، وتم إجلاؤهم عن المكان عام 1967 نتيجة صعود قوة المشروع الصهيوني، وهذا ما جعل، حسب لومير، تاريخ الحارة "غير مسموع، غير مقروء، وبالتالي، بطريقة ما، غير مرئي"، لافتًا إلى أن "عمليات التشييد الذاكرتي لا ترتبط بالاستراتيجيات الاستدلالية أو الأيديولوجية، لكن أيضًا بإجراءات أكثر ملموسية ومحسوسية: إجراءات قضائية، استثمارات عقارية، مساعدات اجتماعية موزعة بوتيرة يومية"، بحيث "ينتمي تاريخ حارة المغاربة واستمراريتها طويلة الأمد إلى الأبواب التحليلية التي تتعلق بمجال التاريخ المعرفي".
ويذهب الكتاب إلى أن نكبة عام 1948، أدت إلى حرمان وقف أبو مدين وسكان حارة المغاربة من مصدر دخلهم الرئيسي، فقرية عين كارم التي كانت توفر، منذ قرون، عائدات للوقف ناجمة عن ملكية الأراضي، وعن الزراعة، باتت في الجانب الغربي من الخط الأخضر، أي في إسرائيل، كما يسلط الضوء، بعض الشيء، على الفصل الفرنسي من تاريخ حارة المغاربة، المتجاهل تمامًا، التي كانت ترى في الحارة، أداة "قوة ناعمة" يمكن أن تساعد في تعزيز شرعية سيطرة فرنسا على المغرب الأقصى وتونس والجزائر باعتبارها قوة حامية للأماكن المقدسة في القدس، وكون أن الحكومة العامة للجزائر، التي تتبعها، كانت تقدم العون المالي للسكان ذوي الأصول الجزائرية في القدس، وتنسق في الوقت ذاته لمحاربة المقاتلين من أجل استقلال الجزائر.
وشكل "إعادة الإحياء الاستعماري" لوقف أبو مدين، توثيقًا زخمًا، بصورة وثائق قانونية، وتقارير سياسية، واستقصاءات اجتماعية، تعطي في مجملها صورة شبه متكاملة لحارة المغاربة وسكانها قبل سنوات قليلة من تدميرها.
ويخلص الكتاب، الكاشف للكثير من المسكوت عنه بخصوص "حارة المغاربة" منذ "ولادتها" وحتى "موتها"، بعد قرون، إلى أن تاريخ الحارة في القدس، يشتمل على جملة من التواريخ، ولأن هذا التاريخ يدور على تقاطع أزمنة متعددة، وعند تقاطع عدّة أقاليم، ولأنه يلتقي مع مستويات مختلفة من الزمان والمكان، ولأنه يحتضن في داخله عدّة مسارات تاريخية، وعوالم وآفاق متعددة، فهو يقدم بالتحديد وجهة نظر فريدة من نوعها بشأن تاريخ القدس، المدينة التي ليس من السهل إدراكها في شموليتها، وعلى امتداد الأزمنة، فتاريخ "حارة المغاربة" تاريخ "متوسطي"، وتاريخ "استعماري"، وجزء من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، منذ المحاولات الأولى لشراء الحارة من مسؤولي الحركة الصهيونية حتى حرب وهزيمة 1967، مروراً باضطرابات عام 1929، وإقامة ياسر عرفات الطفل بأحد منازل الحارة، مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، ونكبة 1948، وما قبل وما بعد.