}
عروض

"عام المتاحف الصغيرة": عن "متاحف" الفقد والحزن والموت

حسام معروف

31 مايو 2025
لا وجود لبنية معمارية للحزن، حتى يشيدها أحد. وفي كتابها "عام المتاحف الصغيرة: مذكرات ابنة"، الصادر مؤخرًا عن دار روايات، تبني الشاعرة والكاتبة الفلسطينية أسماء عزايزة متحفها من الصمت، من الذاكرة، من ثقل لمسة ابنة تراقب والدها ينزلق بهدوء خارج العالم. تكتب: "فأنا كلما رافقت أبي لعلاج قدمه الزاحفة أو حتى أمي، لعلاج ظهرها المائل، لا أفكر إلا بالموت". إنها ليست مجرد ملاحظة عابرة، بل فتح جرحٍ من خلال اللغة، واقتناء لصور سوداء في الخيال.
ما يجعل نثر عزايزة متفردًا ليس فقط أنه يرثي، بل لأنه يفكك فعل الرثاء. تكتب الحزن كمَن يفحصه في مختبر، تمسك بما تبقى، تحاول تسمية ما لا يمكن الإمساك به. الموت في كتابها ليس لحظة فقط، بل حالة تغريب. "الغربة التي يرمينا فيها الموت، لا تكون خطرت لنا على بال، ونحن نتنفس ونمشي وننام ونبول". هذا ما يقلب الحياة اليومية إلى ساحة عري، حيث كل ما هو جسدي يصبح هشًا، وكل ما هو روتيني يتحول إلى غبار، طيلة 184 صفحة من القطع المتوسط، قسمتها إلى 25 فصلًا قصيرًا.

إنها تنقل القارئ إلى منطقة تقع ما بين البكاء والسؤال الفلسفي. في لحظة تمس فيها الماء البارد، تقول: "أتذكر الجثث التي غسلتها كلما لمست ماءً باردًا، وقد أفكر بموتي الشخصي أحيانًا إن شعرت كفي ببرودةٍ عالية". إنها جملة تحفز فعل الإرباك بقدر ما هي بسيطة. الماء، ذلك الرمز العتيق للحياة، يتحول إلى زناد للموت. غسل اليد يصبح طقسًا جنائزيًا. اللغة هنا لا توصف فقط، بل تستدعي الأشباح.

فلسفة وانغماس بمعنى الموت

لكن أسماء لا تكتفي بالحكاية الشخصية. تقفز عبر الجدران إلى الفلسفة، إلى الميثولوجيا، إلى الجسد الأنثوي بوصفه مشتلًا للموت، تمامًا كما هو رحمٌ للولادة. تقول: "كما يرتبط الخلق والولادة بالأنثى، يرتبط بها الموت أيضًا. وهنا يسهل علينا أن نتتبع الروابط الفيسيولوجية التي تشد أحدهما إلى الآخر، تلك الروابط التي كلما ازدادت متانتها، اشتد ألم الانفصال". وهنا، تذهب إلى أبعد من المقارنة. إن انفصال الجنين عن أمه – بالنسبة لهما – ما هو إلا شكل من أشكال الموت.
"يبكي الطفل، وتتألم الأم، فيختلط الموت بالولادة في لحظة لا تتكرر إلا عند الموت ذاته". إنها ليست استعارة بل توأمة حقيقية بين لحظتين وجوديتين. ثم تقول ما يربك المنطق ويثير الاهتزاز: "أنا لم أَلِد أبي، لكن قدرتي الطبيعية على الولادة تُضفي على علاقتنا هذه المعادلة. كأنني، بطريقة ما، ولدته من رحمي". في هذا المشهد تنقلب الأزمنة. الابنة تصبح الأم، والرّحم يُستخدم كمساحة للحفظ لا للإنتاج. كأنها تحاول أن تنقذ الأب من الموت بأن تُعيده إلى رحمها، إلى بدايته، إلى ظلامٍ آمن.

ميعاد لا يمكننا ملامسته

إن أحد أكثر جوانب الكتاب تأثيرًا هو بساطة موت والدها، تلك البساطة التي تزيده رعبًا. تكتب: "مات ميتة يتمناها أي إنسان". بمعنى لم يمت وهو ممدد مريضًا، بل لم يكن يعاني من شيء خطير يستدعي الموت. لكن ما يبدو بسيطًا، يكشف هشاشة كل ما حوله. الموت لم يأتِ تمهيدًا، لم يترك فرصة للتفاوض، بل انقض فجأة، مثل باب ينغلق إلى الأبد. "صار الباب، وما يزال، ضرفتين خشبيتين مرعبتين".




هكذا، بتفصيلة مادية تمامًا – باب خشبي – تُدبّ الروح في ما لا حياة فيه، ويصبح الباب شاهدًا على انغلاق الحياة، فكيف يستطيع باب خشبي أن يخبئ خلفه كل تلك الأسرار عن الموت؟
ومع كل هذا، فإن الكتاب ليس تأريخًا لموت والدها فحسب، بل بحثٌ عن الموت ذاته. أين يذهب الإنسان بعد أن يتوقف؟ ماذا تبقى منه؟ ومتى يتوقف الحزن عن المطالبة بنا؟ تسأل نفسها عن أحلام الأيام الأولى بعد الموت، عن زيارات الأب في المنام، عن الأصوات التي تبدأ في الغياب، ثم تعود فجأة في لحظة غير متوقعة. هذا ما يجعل "عام المتاحف الصغيرة" نصًا غير قابل للتصنيف بسهولة. فهو لا يُقرأ كمرثية فقط، ولا كيوميات فَقْد، ولا كتحليل أنثروبولوجي للموت. إنه كل هذا في نفس الوقت. كل فقرة فيه تفتش في أحد أركان الفقد: الجسد، الصوت، الذاكرة، اللغة، العادة، الطقس، وحتى الصمت.
هناك متحفٌ داخل كل فقرة. متحفٌ للغائب، لرماده، لصوته، لمقعده في الغرفة، للمفاتيح التي نسيها على الطاولة. أسماء لا تضع معروضات من زجاج، بل تُبقيها نابضة، حارّة، تشبه ما لا يمكن حفظه. إنها تشير بالتلميح إلى أن المتحف الحقيقي هو هذا الجسد الذي يتذكر.

الموت وارتباطه بجسد الأنثى

تحاول أيضًا أن تفهم الموت من خلال جسدها الأنثوي، من خلال قابليته للولادة، للدم، للتحول. هنا، يُعاد تمثيل الفقد لا كحدث خارجي، بل كحركة داخلية، بيولوجية. وكأنّ الحزن ليس في القلب، بل في الرحم، في النخاع، في الجلد. وتتكرر ثيمة الخوف من النسيان، لا نسيان الذكرى، بل نسيان التجربة نفسها، الرعشة التي صاحبتها، الطريقة التي ارتجف فيها الصوت، كيف وقع الكأس على الأرض حين وصل الخبر. أسماء لا تخاف من موت الأب، بل من إتمام موته، ونسيانه، حين يُبتلع من الذاكرة.

لغة بلا صراخ

"عام المتاحف الصغيرة" إذًا ليس مجرّد عملية لتدوين الحزن، بل وسيلة لمقاومته، لمواجهته، بل ولبعثه أحيانًا. فالفقد هنا لا يُطمس، بل يُجرّ إلى الضوء. تُجبره على الكلام. تُخرجه من القبر وتضعه أمام القارئ.
ربما لهذا، تبدو لغتها هادئة مسترسلة، جمالية، رغم أنها مكتظة بالموت. لا صراخ، لا تكسير. بل توتر خافت، مثل الغبار بعد انهيار جدار. هذه النبرة تُشبه صوت من يحاول أن يُقنع نفسه أن ما حدث، قد حدث.
في نهاية الكتاب، تضع عزايزة صورًا حقيقية لأبيها، ولها في رفقته، وللأماكن التي زارها في حياته، وهو ما يجعل القارئ بحاجة إلى إعادة قراءة الكتاب مرة أخرى، ليرى كل لحظة بصورة سينمائية، سينما جديدة بمعرفة أكثر حسية، لمعرفة طريقة الموت في استدراجنا منذ بدء الحياة.
أسماء عزايزة لا تكتب عن والدها وحده. إنها تكتب عن هشاشة جماعية، عن استعداد جمعي للمحو، وعن المساحات الصغيرة التي نتركها خلفنا. "عام المتاحف الصغيرة" ليس عن الموت. بل عن الذين يعيشون رغم الموت. عن الذين لا يملكون إلا اللغة ليتشبثوا بما تبقى. كل سطر فيه هو محاولة للقول: كان هنا.

تكتب عزايزة: "لا أحد من عائلتي يتصرّف مع موته على هذا النحو الذي يميل إلى كونه اضطرابًا. وأنا أيضًا لا أتجرأ على الحديث مع أحد عن التقمص وعن وجود روح أبي داخل البيت وعن رقصتي في غرفته"... "سيصير البكاء يومًا فعلًا نادرًا. عندما بدأت ألحظ ذلك ازداد ارتيابي. كلما فكرت بأن التخلّي عن البكاء هو شكل من أشكال التخلّي عن أبي، أو على الأقل شكل من أشكال الخضوع أمام الموت. وهو ما حاولت مقاومته بجُهد طمع في إبقاء أبي حيًا. عبر استعادته بالكتابة، والإمعان في طائر السنونو. لكن بعد مرور عام على ارتطامه، تبيّن أن ندرة البكاء - بل وعدمه - ما هي إلا لغُم إضافي في حقل الألغام الذي زرعه الموت حولي"!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.