في عالم تتكاثر فيه وصفات السعادة وتتزاحم على الرفوف والشاشات كتب تنمية الذات، يأتي الروائي الأميركي ناثان هيل ليقتحم هذا المشهد بروايته "الرفاهية" التي شكلت ظاهرة أدبية لافتة في أميركا، وحصدت الجائزة الكبرى للرواية الأميركية عام 2024، وتربعت لفترة طويلة على قائمة الأكثر مبيعًا وفق تصنيف "نيويورك تايمز"، التي وصفتها بأنها "من روائع العمارة السردية".
تدعونا الرواية في مستهلها إلى الدخول إلى شقة متواضعة في أحد الأحياء المهمشة من مدينة شيكاغو، حيث يعيش جاك، المصور الفوتوغرافي الشاب، وحيدًا في عمارة بائسة لم تكن مخصصة للسكن أصلًا. في ليلة من الليالي، ينبعث ضوء خافت من النافذة المقابلة لنافذته عبر الزقاق، ليكتشف وجود امرأة شابة تعيش وحيدة مثله في الجهة المقابلة. يراقبها بفضول وهي تقرأ بنهم كتبًا في علم النفس والأعصاب، بدون أن يدري أنها تراقبه أيضًا. إنهما جاك وإليزابيث، اللذان سيلتقيان صدفة ويقعان في ما يسميانه "الحب من أول نظرة".
يحدث هذا في تسعينيات القرن الماضي، قبل انتشار الإنترنت والهواتف الذكية، ليقفز بنا الكاتب في الفصل الثاني إلى عام 2015، حيث نجد الزوجين بعد مرور عشرين عامًا على زواجهما، وقد تحولا إلى زوجين برجوازيين، يعيشان أزمة منتصف العمر. أصبح جاك أستاذًا جامعيًا يدرّس فن التصوير، بينما تدير إليزابيث شركة "ويلنس" المختصة بالأبحاث النفسية وتجريب الأدوية التي تجلب "الرفاهية" أو السعادة المزعومة. تعمل الشركة في مجال خداع الناس ليعيشوا حياة أكثر سعادة من خلال نشر الأدوية الوهمية أو "بلاسيبو".
وفقًا لنقاد أدبيين، تكمن قوة الرواية في قدرة هيل على تجسيد التناقضات الحادة في المجتمع الأميركي من خلال قصة زوجين فقدا بوصلة السعادة الحقيقية في خضم سعيهما المحموم وراء صورة للرفاهية رسمتها لهما وسائل الإعلام والثقافة الاستهلاكية. كما أشارت مجلة "ذا أتلانتك" إلى أن هيل نجح في تقديم سردية مقنعة تشرّح علاقة الإنسان المعاصر بالتكنولوجيا والشبكات الاجتماعية وتأثيرها المدمر على العلاقات الإنسانية.
يقول الكاتب على لسان شخصياته: "إن كلّ ما كانا يريدانه في ذلك الوقت، هو إزالة المسافة التي تفصل بينهما. وها هما الآن، بعد عشرين سنة، يعيدان تصميم تلك المسافة من جديد". عبارة تختزل المسافة الشاسعة بين وهم الحب الأول وواقع الحياة المشتركة بعد انقشاع سحابة الرومانسية.
تتعمق الرواية في جذور شخصياتها، فإليزابيث تنحدر من سلالة عائلية "ناجحة بشكل إجرامي"، كما تصف نفسها، عائلة بنت ثروتها على الاحتيال والرشوة منذ أجيال. أما جاك، فينتمي إلى أصول فلاحية متواضعة في ولاية أركنساس، ولد لأم أنجبته في سن متأخرة وبلا حب، وظلت تردد على مسامعه طوال طفولته أنه "لم يكن من المفترض أن يولد أصلًا"، ما جعله يعاني من علل وأمراض مزمنة.
على مدى 600 صفحة، يتنقل هيل بمهارة بين الماضي والحاضر، مستخدمًا بنية سردية مجزأة ومفتتة، ليشرح تصدعات المجتمع الأميركي وأزماته القيمية. وكما أشارت صحيفة "الغارديان" البريطانية في مراجعتها للرواية، فإن هيل ينجح في تحويل قصة زوجين عاديين إلى ملحمة معاصرة تكشف عن الفراغ الروحي الذي تعاني منه المجتمعات الغربية المعاصرة، حيث تحولت السعادة إلى سلعة تباع وتشترى.
وبحسب حوار أجرته مجلة "شيكاغو ريفيو أوف بوكس" مع الكاتب، يوضح هيل منهجه في خلق الشخصيات قائلًا: "أعتقد أن أي شخصية أو قصّة تثير اهتمامي تبدأ حياتها كقطعة لزجة. الشيء الجميل في ما هو لزج، أنه كلما لعبت به أكثر، كلما التقط أشياء العالم من حوله. وهو نفس الأمر مع الشخصيات أو القصص، فهي تلتقط كل تلك الأشياء، ما يمنحها الحياة فعلًا. عندها يمكنك أن تبدأ في نحت تمثال جميل، بدأ حياته كقطعة من مادة مقزّزة".
لا يقدم الكاتب في روايته حلولًا جاهزة لأزمة المعنى التي تعصف بشخصياته، بل يدخلهم في دوامات من الحلول المعاصرة التي تطرحها مختلف العلوم المستحدثة والنظريات الفلسفية، من النظرية التفكيكية عند الفيلسوف دريدا، إلى حلقات التدريب الذاتي أو الجماعي، وصولًا إلى العلاج بشتى الوسائل المتاحة. وتتحول الرواية في نصفها الآخر إلى وثيقة تكشف متاهات العصر الغربي، حيث يظهر الفرد أسيرًا لمجتمع تتحكم فيه وسائل التواصل، ونظريات المؤامرة، واستهلاك المعلومات من دون تفكير نقدي.
من المشاهد اللافتة في الرواية، قصة والد جاك المسن الذي أدمن منصة فيسبوك، ما دفع ابنه لمحاولة إقناعه "بأن الحياة التي يعيشها المرء على فيسبوك ليست حياة، وأن هناك عالمًا غريبًا ورائعًا لا تستطيع الخوارزميات الوصول إليه". مشهد يعكس معضلة معاصرة تواجه الملايين حول العالم، حيث تتحول منصات التواصل الاجتماعي إلى سجون افتراضية تختزل تجربة الوجود الإنساني في تفاعلات سطحية.
ويضع الكاتب على لسان إليزابيث تشخيصًا دقيقًا لحالة الإنسان المعاصر في تعامله مع الحقيقة، تقول: "لدى الناس حاجة قوية جدًا لتفسير العالم بطريقة تجعلهم يشعرون بتحسن أو بأمان أو بقوة أو بشعبية أو تحكّم أكبر، لكن ليس بالضرورة بطريقة تكون صادقة. للأسف، إن الحقيقة لا تهم كثيرًا من منظور نفسي".
ويذكر أن ناثان هيل، البالغ من العمر 47 عامًا، يُعد من الأصوات البارزة في المشهد الأدبي الأميركي المعاصر، وسبق له نشر روايات أخرى نالت استحسان النقاد مثل "The Nix" التي صدرت عام 2016. وأشارت صحيفة "واشنطن بوست" إلى أن هيل يعتبر واحدًا من أبرز الروائيين الأميركيين الذين يتناولون تأثير التكنولوجيا والعولمة على النفس البشرية وعلى المجتمع الأميركي بشكل خاص.
ما يميز رواية "الرفاهية" أنها تُقدَّم على ثلاثة مستويات: المستوى الأول يغوص في الحالات النفسية القصوى التي تعيشها الشخصيات، والمستوى الثاني يربط هذه الحالات بتأثير مستجدات العصر التكنولوجية والاجتماعية، أما المستوى الثالث والأكثر إشراقًا، فيتجلى في لغة شعرية راقية تتخلل الرواية كاستراحات روحية بين أزمة وأخرى، تسمو بالقارئ فوق صخب الحياة اليومية ومشكلاتها.
تمثل رواية "الرفاهية" مرآة لأزمة الإنسان المعاصر في سعيه المحموم وراء السعادة، في زمن تحولت فيه السعادة نفسها إلى وهم تسوقه الشركات والإعلانات والمنصات الرقمية. وتطرح تساؤلات عميقة حول معنى الحب والزواج والعمل والنجاح في مجتمع مادي بامتياز، حتى في لحظاته الروحانية الخاطفة، تاركة القارئ أمام تأملات جوهرية حول مفهوم الرفاهية الحقيقية في زمن العبثية.
تدعونا الرواية في مستهلها إلى الدخول إلى شقة متواضعة في أحد الأحياء المهمشة من مدينة شيكاغو، حيث يعيش جاك، المصور الفوتوغرافي الشاب، وحيدًا في عمارة بائسة لم تكن مخصصة للسكن أصلًا. في ليلة من الليالي، ينبعث ضوء خافت من النافذة المقابلة لنافذته عبر الزقاق، ليكتشف وجود امرأة شابة تعيش وحيدة مثله في الجهة المقابلة. يراقبها بفضول وهي تقرأ بنهم كتبًا في علم النفس والأعصاب، بدون أن يدري أنها تراقبه أيضًا. إنهما جاك وإليزابيث، اللذان سيلتقيان صدفة ويقعان في ما يسميانه "الحب من أول نظرة".
يحدث هذا في تسعينيات القرن الماضي، قبل انتشار الإنترنت والهواتف الذكية، ليقفز بنا الكاتب في الفصل الثاني إلى عام 2015، حيث نجد الزوجين بعد مرور عشرين عامًا على زواجهما، وقد تحولا إلى زوجين برجوازيين، يعيشان أزمة منتصف العمر. أصبح جاك أستاذًا جامعيًا يدرّس فن التصوير، بينما تدير إليزابيث شركة "ويلنس" المختصة بالأبحاث النفسية وتجريب الأدوية التي تجلب "الرفاهية" أو السعادة المزعومة. تعمل الشركة في مجال خداع الناس ليعيشوا حياة أكثر سعادة من خلال نشر الأدوية الوهمية أو "بلاسيبو".
وفقًا لنقاد أدبيين، تكمن قوة الرواية في قدرة هيل على تجسيد التناقضات الحادة في المجتمع الأميركي من خلال قصة زوجين فقدا بوصلة السعادة الحقيقية في خضم سعيهما المحموم وراء صورة للرفاهية رسمتها لهما وسائل الإعلام والثقافة الاستهلاكية. كما أشارت مجلة "ذا أتلانتك" إلى أن هيل نجح في تقديم سردية مقنعة تشرّح علاقة الإنسان المعاصر بالتكنولوجيا والشبكات الاجتماعية وتأثيرها المدمر على العلاقات الإنسانية.
يقول الكاتب على لسان شخصياته: "إن كلّ ما كانا يريدانه في ذلك الوقت، هو إزالة المسافة التي تفصل بينهما. وها هما الآن، بعد عشرين سنة، يعيدان تصميم تلك المسافة من جديد". عبارة تختزل المسافة الشاسعة بين وهم الحب الأول وواقع الحياة المشتركة بعد انقشاع سحابة الرومانسية.
تتعمق الرواية في جذور شخصياتها، فإليزابيث تنحدر من سلالة عائلية "ناجحة بشكل إجرامي"، كما تصف نفسها، عائلة بنت ثروتها على الاحتيال والرشوة منذ أجيال. أما جاك، فينتمي إلى أصول فلاحية متواضعة في ولاية أركنساس، ولد لأم أنجبته في سن متأخرة وبلا حب، وظلت تردد على مسامعه طوال طفولته أنه "لم يكن من المفترض أن يولد أصلًا"، ما جعله يعاني من علل وأمراض مزمنة.
على مدى 600 صفحة، يتنقل هيل بمهارة بين الماضي والحاضر، مستخدمًا بنية سردية مجزأة ومفتتة، ليشرح تصدعات المجتمع الأميركي وأزماته القيمية. وكما أشارت صحيفة "الغارديان" البريطانية في مراجعتها للرواية، فإن هيل ينجح في تحويل قصة زوجين عاديين إلى ملحمة معاصرة تكشف عن الفراغ الروحي الذي تعاني منه المجتمعات الغربية المعاصرة، حيث تحولت السعادة إلى سلعة تباع وتشترى.
وبحسب حوار أجرته مجلة "شيكاغو ريفيو أوف بوكس" مع الكاتب، يوضح هيل منهجه في خلق الشخصيات قائلًا: "أعتقد أن أي شخصية أو قصّة تثير اهتمامي تبدأ حياتها كقطعة لزجة. الشيء الجميل في ما هو لزج، أنه كلما لعبت به أكثر، كلما التقط أشياء العالم من حوله. وهو نفس الأمر مع الشخصيات أو القصص، فهي تلتقط كل تلك الأشياء، ما يمنحها الحياة فعلًا. عندها يمكنك أن تبدأ في نحت تمثال جميل، بدأ حياته كقطعة من مادة مقزّزة".
لا يقدم الكاتب في روايته حلولًا جاهزة لأزمة المعنى التي تعصف بشخصياته، بل يدخلهم في دوامات من الحلول المعاصرة التي تطرحها مختلف العلوم المستحدثة والنظريات الفلسفية، من النظرية التفكيكية عند الفيلسوف دريدا، إلى حلقات التدريب الذاتي أو الجماعي، وصولًا إلى العلاج بشتى الوسائل المتاحة. وتتحول الرواية في نصفها الآخر إلى وثيقة تكشف متاهات العصر الغربي، حيث يظهر الفرد أسيرًا لمجتمع تتحكم فيه وسائل التواصل، ونظريات المؤامرة، واستهلاك المعلومات من دون تفكير نقدي.
من المشاهد اللافتة في الرواية، قصة والد جاك المسن الذي أدمن منصة فيسبوك، ما دفع ابنه لمحاولة إقناعه "بأن الحياة التي يعيشها المرء على فيسبوك ليست حياة، وأن هناك عالمًا غريبًا ورائعًا لا تستطيع الخوارزميات الوصول إليه". مشهد يعكس معضلة معاصرة تواجه الملايين حول العالم، حيث تتحول منصات التواصل الاجتماعي إلى سجون افتراضية تختزل تجربة الوجود الإنساني في تفاعلات سطحية.
ويضع الكاتب على لسان إليزابيث تشخيصًا دقيقًا لحالة الإنسان المعاصر في تعامله مع الحقيقة، تقول: "لدى الناس حاجة قوية جدًا لتفسير العالم بطريقة تجعلهم يشعرون بتحسن أو بأمان أو بقوة أو بشعبية أو تحكّم أكبر، لكن ليس بالضرورة بطريقة تكون صادقة. للأسف، إن الحقيقة لا تهم كثيرًا من منظور نفسي".
ويذكر أن ناثان هيل، البالغ من العمر 47 عامًا، يُعد من الأصوات البارزة في المشهد الأدبي الأميركي المعاصر، وسبق له نشر روايات أخرى نالت استحسان النقاد مثل "The Nix" التي صدرت عام 2016. وأشارت صحيفة "واشنطن بوست" إلى أن هيل يعتبر واحدًا من أبرز الروائيين الأميركيين الذين يتناولون تأثير التكنولوجيا والعولمة على النفس البشرية وعلى المجتمع الأميركي بشكل خاص.
ما يميز رواية "الرفاهية" أنها تُقدَّم على ثلاثة مستويات: المستوى الأول يغوص في الحالات النفسية القصوى التي تعيشها الشخصيات، والمستوى الثاني يربط هذه الحالات بتأثير مستجدات العصر التكنولوجية والاجتماعية، أما المستوى الثالث والأكثر إشراقًا، فيتجلى في لغة شعرية راقية تتخلل الرواية كاستراحات روحية بين أزمة وأخرى، تسمو بالقارئ فوق صخب الحياة اليومية ومشكلاتها.
تمثل رواية "الرفاهية" مرآة لأزمة الإنسان المعاصر في سعيه المحموم وراء السعادة، في زمن تحولت فيه السعادة نفسها إلى وهم تسوقه الشركات والإعلانات والمنصات الرقمية. وتطرح تساؤلات عميقة حول معنى الحب والزواج والعمل والنجاح في مجتمع مادي بامتياز، حتى في لحظاته الروحانية الخاطفة، تاركة القارئ أمام تأملات جوهرية حول مفهوم الرفاهية الحقيقية في زمن العبثية.