}
عروض

"هند أو أجمل امرأة في العالم": ثنائية الحياة والموت

ميشلين مبارك

6 مايو 2025



ليس بالأمر اليسير أن تغوص في رواية من روايات هدى بركات من دون أن تكون مستعدًا للمناخ الذي تدخلك فيه أية رواية لها، كأنك تعيش مع أبطالها في غربتهم وأحزانهم، تتنهد مع انفراجاتهم النفسية وأفراحهم البسيطة وتترقب يومياتهم وخواتيمها التي ربما تعكس يوميات كل قارئ في أية بقعة على هذا الكوكب، فالإبحار في رواية "هند أو أجمل امرأة في العالم" (دار الآداب، 2024) ليس سهلًا من دون أن نتأمل في ثيمات الجمال والقبح، الحياة والموت، بدءًا من أبسط الأمور إلى أكثرها تعقيدًا، من المرآة الخارجية للإنسان، إلى العلاقات العائلية، ومن مرآتنا الذاتية إلى جراحات وطننا وأشواك المنفى، مع كل ما تحمله شخصيات الرواية من استدلالات أدبية وما تقدّمه للقارئ من إشارات فلسفية في الحبّ والجمال والمرض والأمومة وغيرها الكثير من المعاني المدهشة التي تجذب القارئ مع كل طية صفحة من صفحات هذه الرواية بأسلوب جذاب ولغة كلاسيكية مشوقة مطعمة بنكهة لبنانية مميزة، كل ذلك في بنية سردية متينة ترفع المعنى إلى أعلى مستوياته.

تبدأ الرواية بصيغة المتكلم، ولعلّها الصيغة الأقرب إلى قلب القارئ وعقله، وتجعله يشعر باحتكاك حياة الراوية نفسها مع روايتها. بدءًا بعودة الراوية إلى حضن الوطن، إلى رمل شاطئه وضفة النهر الأحب على قلب هنادي بطلة الحكاية التي غالبًا ما تجلس تحت صفصافة غريبة وارفة الأغصان كأن تكون هذه الشجرة هي الأم والأغصان هي هوياتنا المتناقضة. ولهنادي قبل أن تولد أختٌ اسمها هند. وكانت أمها تقول: "ليس هناك في الدنيا التي خلقها الله أجمل من بنتي، ليس هناك أحلى من هنِد. من هنادي؟" (ص:8). وعندما رآها طبيب الأطفال الشهير صرخ قائلًا: "ما شاء الله، ما شاء الله، لم يسبق أن رأت عيناي طفلة بمثل حلاها" (ص:10). والناس تشهق عندما ترى جمالها. وبين هند وهنادي أو بين هنادي ذاتها قبل المرض وبعده، تروي الابنة حكايات الأم والذكريات التي تخرج من فوضى ذاكرة الفتاة. تأخذنا بركات إلى حيّ بيروتي موازٍ للنهر، لنتعرّف على حضور أم ميتة في النص، على روح أمّ كانت تتخبط في سردياتها الكثيرة: الخوف من الغرباء والخوف من صبية العين، تمييزها للنبات ما هو خبيث ولئيم، وأيضًا شعور الأم بالحبّ. حبها لبلادها، حبها لابنتها أو نفورها منها.

في الواقع، رسمت الكاتبة شخصية الأم بدقة متناهية وهي من أصعب الشخصيات في النص لما تحمله من تناقضات في هويتها المبعثرة تمامًا كتناقض بلادنا. وفي طباع الأم رموز عديدة، على القارئ أن يفككها بتأنٍ من عشق المرء لوطنه وعدم الرؤية سوى أنه "أجمل وطن في العالم"، تقول الابنة في الصفحة 21: "أنا أتساءل إن كانت أمي أحبّت أحدًا، شخصًا، رجلًا في حياتها كحبّها للوطن. فهي تخلص إلى أن الأرزة هي سدرة المنتهى، مارّةً بسِير كافّة الأشجار التي تنافس الأرزة، وبخاصة تلك التي توصف بالمقدسة".

في هذا السياق، وفي ندوة حضرتها للكاتبة هدى بركات عن الرواية نفسها في الجامعة الأميركية في بيروت، تقول: "نحن في حالة مأزق بالنسبة لجمال لبنان، فوعينا تشكّل على حبنا لهذا البلد ووصفه بطريقة فولكلورية، في الوقت نفسه هو بلد جميل، فنحن نصاب بالحيرة في علاقتنا مع هذا المكان، أضف إلى ذلك، أننا في بلادنا لا نملك كتاب تاريخ موحد، وأكثر ما يشكل وعينا هي الخرافات والأساطير..."؛ وبالتالي عدم اقتران ذلك بالعِبَر حتى انفجار مرفأ بيروت الذي يظهر تأثر الكاتبة به في أكثر من موقع في الرواية، إذ تقول في الصفحة 19 على سبيل المثال: "الانفجار الكبير الذي أتى من البحر وتحدثت عنه أساطيل العالم أجمع، ما زال يطلق لغطًا من أنتينات خفيّة تصفّر في رؤوس الناس اللاهين عن استخلاص العِبر، منشغلين بكنس الزجاج وإضاءة الشموع للبحث تحت الركام عن ألبومات الصور". توازيًا، شكلت الأم في علاقتها مع الوطن مرآةً لعلاقتها مع ابنتها. وقد تقصدت الكاتبة ألا تكون واضحة، نظرًا لتفجع الأم بإصابة ابنتها بمرض تضخم الأطراف، فنحن شعوب لا نتقبّل الخسارات ونبالغ بالانحياز إلى الوطن حتى نصنعه على مقاساتنا المختلفة المنقسمة، بل والمتحاربة.

إذًا، ثنائية العلاقة بين الوطن والغربة انعكست أيضًا برمزيتها على ثنائية القبح والجمال. فالأم الذكية الجميلة التي كان الجدّ يخبئها في المطبخ حين يأتي زوّار إلى بيتهم، قرر تعليم الصبي وسحب البنت من المدرسة. هي نفسها تلك الأم الصعبة المزاج التي خبأت ابنتها في العلّية لعدم تقبلها لتشخيص الطبيب لمرض هنادي "أكروميغاليا"، أي مرض التضخم والنمو السريع لأطرافها. ومضت الليالي ومن دون قياس الوقت، غابت الأم، والابنة محجوزة في عليّة المطبخ، حتى قررت الهرب من هذه العليّة، ومن ثم لفظها عصف المرفأ البحري. وقد وجدتها الجارة "أم منصور" في المستشفى، هذه الجارة اللطيفة الحنونة (السورية أو الفلسطينية والتي لم تسأل يومًا عن هويتها)، وبلسمت جراح الفتاة الوحيدة.


تمتلك هنادي على خلاف شكلها الخارجي النافر، وعيّا فائقًا إذ تحاول على مدار النص إيجاد الأعذار لأمها: "خيبة أمي، جرحها النازف، كانت لأنّها بمرضي هذا لم تعد قادرة نهائيًا على استعادة هند. هند ابنتها" (ص: 94). ويتلمس القارئ في الابنة المريضة شخصية إنسانية ذكية ومتسامحة كعلاقتها مع شاب الحارة نبيل، أو عطفها على هرّتها زكية أو زاكو، فنعاين في مفترقات حياتها العديد من الروئ الفلسفية، كأن تقول في الصفحة 99 على سبيل المثال:"الآن نعرف أنّ حيواتنا تغرق في مياه حملونا إليها، بالقوّة أو بفعل الصدف، وهي غير مياهنا. كأنهم أخرجونا من الرّحم مرةً أخرى وغير ضرورية، غير حيوية، أي أخرجونا لا للحياة من جديد، بل لموتٍ أول. كيف تفسد الأرواح حين نفقد المكان الأوّل وتتخثّر الخُضرة؟ وكيف تهترئ الأطراف من ذلك الموت الأوّل قبل تكفينها ودفنها في التراب الستّار الرحيم؟".

ويحدث أن تهاجر "أم منصور"، لتذهب هنادي عمتها الصغرى الحنون التي بدورها تهاجر إلى أستراليا، لكنها تقتطع لهنادي تذكرة سفر إلى فرنسا ليس فقط للمعالجة، بل للبقاء عند عمتها الكبرى، وتنتقل هنادي من لبنان إلى المطار الفرنسي حيث كان من المفترض أن تنتظرها عمتها الكبيرة غير أنّ الرياح تجري بما لا تشتهيه الفتاة. في المطار تتعرف هنادي على غلوريا الشخصية المنفصلة جندريًا التي تحنو على هنادي وتحاول مساعدتها في المبيت وفي ايجاد العمل لها. ثم تواجه الفتاة مجددًا مرضها وعزلتها وهذا ما يتجلى في استخدام الكاتبة انعكاس ثنائية الوطن والغربة على المرء، ليس في حياة هنادي فحسب، بل في حياة من عرفتهم في فرنسا. فتظهر هنا شخصية فرنسوا أو رشيد الذي أحبته لكنّ قصة هذا الحبّ كانت "كحكاية شوكة القديسة ريتا شفيعتي، شفيعة الأمور المستعصية جدًا، تلك التي لا حلّ لها إلاّ بالمعجزات، وكشوكة ريتا بدأت تنزُّ قيحًا ودمًا في قلبي وتصدر روائح الموت الكريهة" (ص: 165). وما إبراز الكاتبة لحياة فرنسوا المتناقضة بين شخصيته العربية وشخصيته الفرنسية سوى انعكاس لهُوياتنا المتناقضة بين الوطن والمنفى، فتقول بلغة هنادي المتكلمة: "هنا أو هناك، لست الأول ولن تكون الأخير. هذا اسمه الغربة، أي أن تكون لك حياتان شقيّتان، تسيران في خطين متوازيين أبدًا، وأن تقبل بنسيانهما معًا لكي تعيش معهما، أي برفقتهما، الحياتين، كنمرين مدجّنين صارا قطّتين تأكلان معك في الصحن، أو تأكلان ما في الصحن" (ص:169). هي عليّة أخرى تقرر بطلة الرواية أن تنزل عنها.

لا بدّ من الإشارة إلى أنّ في النص استدلالات دينية من حياة بعض القديسين إلى قصة النبي إبراهيم وسلالتي إسحاق وإسماعيل، ثم قصة أحمد الباكستاني الذي يساعدها في فتح حساب لها عبر الإنترنت؛ ناهيك عن استدلالات سياسية كاختفاء الأب في حياة هنادي، ثم اكتشاف هروبه إلى إسرائيل وزواجه من أميركية، ثم لقاء هنادي مع أخيها عبر وسائل التواصل الإجتماعي... ولعلّ الكاتبة أرادت من كلّ هذه التدخلات في الرواية تسليط الضوء على التناقضات الإنسانية في الحرب وفي السلم مع ما تحمله من أثقال على كاهل الإنسان، وأن السماء واحدة للجميع.

في المحصلة، تعود هنادي إلى الوطن لتواجه عزلتها، ولتتصالح مع حالها، مع موت أمها "ماتت أمي وحيدة كما عاشت مثلي" (ص: 232)، "إنّ خرف أمي كان رحمة، إذ وفّر لها عبورًا مسالمًا وملائمًا، خاصة في غيابي عنها. فالغياب يساعد على النسيان" (ص: 258). تعود إلى حافة النهر تجلس تحت الصفصافة التي "لم تَعُد تشبه الصفصاف في شيء، صورة في الذاكرة البعيدة للأشجار، كأنّها دخلت عالم المتحوّلين، فانفصلت نهائيًا عن الغابة وعن النهر" (ص: 272). في هذا السياق وردًا على سؤال عن مدى معرفتها لبيروت في كل مرة تأتي فيها إلى لبنان، تجيب هدى بركات في الندوة التي أشرنا إليها سابقًا: "لستُ أنا من لا يعرف بيروت، لكنّ بيروت لم تعد تعرفني، ربما ذلك يعكس فشلي في القيام بتسوية عاطفية مع هذا المكان الذي أحبّه. الحقيقة أن لحظة انفجار المرفأ شكلّت مفصلًا أساسيًا في عاطفتي وذاكرتي وفيما بعد في قلمي".

رواية "هند أو أجمل إمرأة في العالم" الفائزة حديثًا بجائزة الشيخ زايد للآداب في دورتها الـ 19، حققت هدى بركات من خلالها في سردها العاطفي الممزوج بالرؤية الوجدانية تكثيفًا لغويًا وعمقًا بنيويًا إنسانيًا، فقرّبت القارئ إلى شخصياتها للإصغاء إلى وجعهم الداخلي، إلى نفسياتهم المعطوبة. وهي في الواقع، لا تبرّر أي تصرف قد يقوم به أبطال حكاياتها، بل تدخلنا إلى عوالمهم الممزقة أو المشوهة، فلا مناص من أنّ كلًّا منّا يحمل تشوهًا ما في حياته. ثم ليس على القارئ أن يعرف كل شيء، فهناك جوانب كثيرة تبقى وبقيت بالفعل في هذه الرواية غامضة، إنما عليه أن يصغي ليفتح آفاق فكره على الخيال الرحب، وليعيد التفكير في اقتباس الكاتبة في بداية الرواية للفيلسوف أوغست كونت: "الموتى هم من يحكمون الأحياء".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.