}
عروض

الليبرالية بين النزعات المحلية والكونية

عمر كوش

7 مايو 2025

 

احتلت إشكالية التراث والحداثة مساحات واسعة في النقاشات الثقافية التي دارت في الأوساط الفكرية في العديد من الدول الغربية، وكذلك الأمر في المجال الثقافي العربي، الذي انشغل طويلًا بها، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم، حيث شهدت بلداننا العربية إخفاقات عديدة منيت بها الحداثة، واختلفت المقاربات الفكرية التي تناولت أسباب الفشل، واختلفت معها وجهات النظر، والحلول المقترحة لإشكالية التراث والحداثة، حيث طغت ثنائية الخصوصية والكونية على معظم المشاريع الثقافية التي تناولت مسائل الحداثة والتراث. وفي هذا السياق، يعود مارك ميتشل، في كتابه "حدود الليبرالية: التراث، والنزعة الفردية، وأزمة الحرية" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ترجمة محمد عبده أبو العلا، الدوحة، 2024)، إلى تناول هذه الإشكالية من جديد، وذلك في ظل عودة جديدة إلى الواقع العالمي الحالي بمنظور جديد ومختلف عن التقليدي الذي انتهت فعاليته، خاصة مع وصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة في يناير/ كانون الثاني 2017، حيث يعتبر أن الموضوع لم يعد كما السابق بين ليبراليين ومحافظين، بل بين مناصري التراث ومناصري النزعة الكونية. ويحاول البرهنة على تصوراته ودراساته من خلال ما ينتشر في جميع أنحاء العالم من توتُّرات بين حركات الحكم الذاتي المحلي من ناحية، والدولة القومية من ناحية أخرى، وكذلك بين الدول القومية من ناحية، والكيانات السياسية العابرة للحدود الوطنية من ناحية أخرى.

يحاول المؤلف اعتماد مقاربة جديدة للإشكالية التي يتناولها، باعتبارها إشكالية عامة في جميع المجتمعات الحديثة، لكنها مقاربة وسطية، يحاول تصويرها وكأنها بديل ثالث لكل من "النزعة القَبَلية التراثية المتحجرة لسياسات الهوية"، و"النزعة الكونية الليبرالية" في صيغتها الثقافية والسياسية، المعادية للخصوصيات ولكل ما يمت إلى التراث بصلة، ويسمي النزعة المقترحة "النزعة المحلية الإنسانية"، التي تتفادى مزالق وعيوب النزعتين السابقتين، اللتين ينظر إليهما بوصفهما مظهرا مختلفا من مظاهر العدوان على الحرية الفردية والمساواة على حد سواء، فيما يقدم نزعته المطروحة كبديل لهما، لكن في حقيقة الأمر هي نزعة تجمع ما بين النزعتين المرفوضتين بالنسبة إليه. ويصف النزعة القبَلية المتحجّرة لسياسات الهوية، بالمحرضة على العنف، فضلًا عن اتسامها بالشك في الآخر وكراهيته. أما النزعة الكونية السياسية والثقافية المعادية للخصوصيات والتراث والماضي، فيعتبرها عدوانًا على الحرية الفردية والمساواة، في حين أن النزعة التي يقترحها تقدّر التنوع الثقافي وتراثه، وتقاوم التجانس في الليبراليات الحديثة، وليست مدفوعة بخوف الآخر وكراهيته، بل تدرك الاختلافات الحتمية في الطبيعة الإنسانية التي يتقاسمها بنو البشر.

يسعى المؤلف إلى تقديم منظور جديد لتفسير الواقع العالمي بعد وصول دونالد ترامب إلى سُدَّة الحكم في الولايات المتحدة للمرة الأولى، الذي مثّل تحديًا سافرًا للأجندة الكونية الليبرالية، التي تناصر سياسة التعاون الدولي في وجه النزعة المحلية الوطنية، وتروِّج لمجتمع عالمي مجرد، عوضًا من الانتماءات المحلية الملموسة. وبات العالم يشهد صراعًا وانقسامًا على المستويين السياسي والاجتماعي، ليس بين اليسار واليمين أو حتى بين الليبراليين والمحافظين، بل بين أولئك الذين يدافعون عن النزعة الكونية الليبرالية، إلى جانب سياسات الهُويَّة التي أفرزتها هذه النزعة، وبين أولئك الذين ينحازون إلى التراث وما يتضمنه من حدود وأُطر اجتماعية، وأخلاقية، ومعرفية، وأدى إلى انتشار توترات في مختلف أنحاء العالم بين حركات تطالب بالحكم الذاتي المحلي من جهة، والدولة القومية من جهة أخرى، وكذلك بين الدول القومية، والكيانات السياسية العابرة للحدود الوطنية. ولعل التصويت الذي جرى في بريطانيا في صيف 2016، وأفضى إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي هو خير مثال على الصراع بين أولئك الذين يؤكدون على أهمية الحفاظ على الخصوصيات المحلية أو الوطنية، وأولئك الذين يحلمون بدولة كونية عالمية. إضافة إلى التوتر القائم بين المتفائلين بالتكنولوجيا، الذين يعتقدون أن التقدم التكنولوجي سينقذ العالم من الأزمات، والمتشككين في إمكانية تحقيقه ذلك، فضلًا عن الانقسام حول مسائل الزواج، والعلاقات الجنسية، والهوية الجنسية وسواها.

 يبدو أن السمة المميزة للعقل الحديث تكمن في سعيه الحثيث نحو اقتلاع الإنسان من جذوره التاريخية، وبيئته المحلية، تحت مسمى تحرير الإنسان، وتمكينه من تحقيق استقلاله التام، لذلك ارتبطت الحداثة بهجوم العنيف على التراث، وعملت على الحطّ من قيمته. وكانت حرية الاختيار تمثل عُمْلة العالم الحديث، ونهضت السردية المتداولة بين الناس على مقولة التقدم الثابت نحو الاستقلالية، بما تعني الخلاص من قيود التراث والتقاليد والأعراف، بل وحتى من الطبيعة والآلهة. بالمقابل، مثلت النزعة الكونية تعبيرًا عن النزوع الفردي المتطرفـ الهادف إلى إلغاء كافة الحدود، وما تنطوي عليه من قيود. ويمثل هذا النزوع جوهر الذات الليبرالية، وبالتالي فإن النزعة الكونية هي نتيجة طبيعية لليبرالية، التي قدمت سردية للتقدم السياسي والاجتماعي نحو مجتمعات خالية من الاختلافات بين المواقع المحلية، والتراث، والأفكار المعينة، وبما يقود إلى تحقيق العولمة الحتمية. وقد فشل المشروع الليبرالي في تحقيق ذلك، الأمر الذي يكشف عن جوهره غير الليبرالي، وضرورة البحث عن بديل، يجده المؤلف في "النزعة المحلية الإنسانية"، التي تراعي التراث، والأماكن الخاصة، والناس الذين يعيشون فيها، وتدرك ما وراء الاختلافات الحتمية من قواسم إنسانية مشتركة. وتقدم تفسيرًا غير ليبرالي للحرية، يعترف بالدور المعرفي للتراث كعنصر لا غنى عنه في عملية المعرفة، ويعترف بأن حرية الفرد أمر ضروري، ويتسع في الوقت نفسه لمركبات للحرية غير الموجهة بشكل مباشر للفرد، مثل حرية النقابات والاتحادات، أو الجمعيات وسواها، لكن هذه الحرية تعترف أيضًا بالدور الذي تلعبه الحدود والقيود، وترتكز على فكرة عميقة وصلبة عن التراث، التي توفِّر السياق الذي يعطي الخاصيتين السابقتين معنى.

عرفت الليبرالية بأنها الاختيار الحر وغير المقيد للفرد المستقل ذاتيًا. وشهد العالم عدة موجات ليبرالية، بدأت بموجة أولى معتدلة، تغذت من تربة غنية بعناصر غير ليبرالية موروثة من الماضي أو التراث، وتجسدت في شكل عادات وممارسات، شكلت حدود تحول إلى التحرر. وكانت التأسيس الأميركي، ينمو في بيئة كانت الحدود التي عملت على ضبطه غائبة إلى حد كبير، فقيم الحرية، والإخاء، والمساواة قد وصلت إلى مستويات متطرفة. كما أن الثورة الفرنسية لم تلد نظامًا جديدًا للحرية، بل انزلقت نحو الفوضى وإراقة الدماء، وأخذت السلطة بقوة مفرطة توّجها وصول ديكتاتور مثل نابليون. أما الموجة التالية، التي نظر لها الفيلسوف توماس هوبز في نزعته الذرية الفلسفية، فقد مثّلت إدراكًا أكثر راديكالية وشمولية لمبدأ الاستقلال الذاتي. وكانت أقرب إلى الليبرالية، لأنها بدت أكثر اتساقًا على المستوى النظري، لكنها أفضت إلى تقويض الحرية ذاتها التي كانت تسعى إليها. أما مع وصول ترامب فقد تلاشى المثل الأعلى للجمهورية التي نادى بها روسو، ومونتسكيو، وظهرت جمهوريات تمتد مؤسساتها السياسية إلى ما بعد حدود الدولة الوطنية. وباتت الذات الليبرالية مكملًا طبيعيًا لها على المستوى الأعلى الكوني، وراحت تعيش الحلم الذي يقود العولمة، وأضحى الكوني يشير إلى رفعة حضرية، وتسامح، وعالمية، لكن المحاولة المتهورة لتجاهل أو تدمير التراث بغية الوصول إلى عصر كوني جامع مهدت الطريق لخطأ فلسفي وكارثة اجتماعية.

 يبقى أن الكتاب كتب في عام 2019، أي بعد عامين من ولاية ترامب الأولى، التي رفع فيها شعار "أميركا أولًا"، من أجل إلحاق الضرر بالآخرين، وتأمين مصالح وحدود الولايات المتحدة الجغرافية، ومعاكسًا به الحلم الكوني. ولا شك في أن ترامب لم يكن مدافعًا عن التراث، ولا عن الحدود، وتمادى في ولايته الثانية التي بدأت في يناير/ كانون الثاني عام 2025، وتخلى فيها عن القيم الليبرالية محليًا ودوليًا، وقام بوضع حد لنظام السوق الحرة من خلال التشريعات الحمائية، وفرض الرسوم الجمركية، ومحاربة الهجرة الخارجية المرتبطة تاريخيًا بالنظام الاقتصادي الأميركي. ولم يكتف بإحداث تحول عميق في النسق المؤسسي الأميركي، الذي تحول إلى قوة لاأخلاقية متوحشة، أنهت الشراكة الأمنية والاقتصادية والاستراتيجية الأميركية مع أوروبا، وقامت بابتزازها. إضافة إلى سعيه إلى إنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا لصالح روسيا، بالنظر إلى العلاقة الخاصة التي تربطه بفلاديمير بوتين.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.