ماذا لو كانت المرأة مجرد "سلك نحاسي" في دائرة كهربائية يتحكم بها المجتمع الذكوري؟ هل تُحترق لتضيء الطريق للآخرين، أم لتُستهلك وتُنسى؟
فهنالك بطولات سلبية يرتضيها المرء في سيناريو ممتلئ بالتشوهات، قصص مُركّبة، تتكاثف من أجل أن يعيش أحدهم بطلًا والآخرون من حوله مجرد أشكال تدعم بطولته الفردية.
وحين يتعلق الأمر بالمرأة تصبح الحكاية أكثر تعقيدًا، وتحمل تأويلات لا يمكن المرور عنها بسهولة.
في رواية "السلك النحاسي" للكاتب الفلسطيني الشهيد نضال عبد العال، الصادرة مشتركة عن دار الفارابي وأكاديمية دار الثقافة (2025)، نجد تفكيكًا لتلك الأدوار، صوت المرأة، خصيصًا في قصصها المختلفة مع المجتمع الذكوري، كيف تنبع المعطيات، كيف تتشكل، وإلام تؤول النتائج للشخصيات المشاركة في ذلك السياق؟
ترى عن أي سياق يتحدث عبد العال؟
إنه يرمي للخليط غير المتجانس في طريقة المجتمع الذكوري، ومواصفات تعامله مع المرأة. يغوص في تحليلات نفسية عميقة، وتفسيرات ومشاعر، تسرد قصص المرأة في المجتمعات الذكورية بهدف إنصافها، أو على الأقل منحها المساحة الحرة في تجريب صوتها.
في الرواية، هنالك نوع من الصراخ الصامت، وفتح لنوافذ بستائر مشتعلة تجاه المجتمع الذكوري، تلك التي تفتح العقل لا العين، على مساحة واسعة من جدليات اجتماعية مسكوت عنها في البلاد العربية.
يقدم عبد العال قصصًا متعددة لنساء عشن في نفس الوتيرة من الضغط الاجتماعي، لكل منهن هويتها الخاصة، واختلافاتها الذاتية، لكنهن جميعًا تعرضن للقمع والإهمال والتهميش، صرن محبوسات في فقاعات تم صناعتها ليكون الذكوريون في المقدمة، راضين عن النظام الاجتماعي بكُلّيته، ومتحكمين بطريقته وأصوله.
هوية واغتراب
تبدو ميساء، راوية العمل، وبطلته، أقواهن بالرغم من الكسر الذي تحمله داخلها. إنه كسر غائر في منتصف الجسد، لا يراه الناس، لكنها لا تتوقف عن التعثر به.
تتمتع ميساء بمشاعر نبيلة، وحب يخطف القلب لصالح، منذ الطفولة، وفي الشباب يغترب العشيق ليدرس الطب، بدون أي إشارة للنهاية أو العودة. يتزوج في بلاد الغربة، لكن عشرين عامًا كانت كافية ليعود نادمًا، حانًّا للذكريات.
صوت ميساء أنثوي صارخ، رافض لكل التعالي الذكوري، يكسر الجبل من قاعدته، ويضع النهاية التي لا تكسرها مرة أخرى.
ولأنها عرفت ذاتها اختارت رفض سطوته الذكورية، وتنحت جانبًا مفسحة له الطريق لإكمالها وحده، واختارت طريقها الخاص، فهل كان ذلك كافيًا لعقابه، وتهميشه هذه المرة كما فعل من قبل؟
يكتب عبد العال: "لقد كبرنا يا صالح، الواحد بمعزلٍ عن الآخر، كبرنا، واعتدنا البُعد، ذبلت المشتركات بيننا، وصغرت، ثم صغرت، وتقلصت، ثم تلاشت".
وتظهر في شخصية صالح الرغبة والهوية الذكورية الذاهبة لسحق الطرف الآخر، وإنهاكه، ودفعه للهاوية. فكان نمطًا لنظام اجتماعي منحه حق الهروب والعودة، واستعادة المفقودات كما لو أنها أملاك، حتى لو كانت المرأة. إنها مسابقة من أجل الحصول على كل شيء من دون التضحية بأي شيء، لذا كانت ميساء أخيرًا المتحكمة الأخيرة في سباقها، وجعلته خارج الماراثون الذاتي.
ضحايا
في نفس السياق كانت وداد، طليقة الشيخ حليم، ترفض المزيد من الأسى في ظل بحثه عن شكل اجتماعي، يسحقها ويضعها في دور المذنبة المشوهة، حينما تأخرا عن الإنجاب، فيما كانت تتستر على عيبه الخلقي مع الإنجاب.
خارج هيمنته الذكورية، سعت وداد لتجميل عيوب النساء وجراحهن. افتتحت مركزًا لتزيين النساء وتجميلهن، وكأنها أرادت إبعاد البشاعة من حياتها للأبد، وحياة كل النساء. فكانت متقاطعة مع الجمال، تمنح الشباب عبر صبغات الشعر، لمن نبت الحزن في رؤوسهن أبيضَ دون مواربة.
ضحية أخرى لحليم، كانت نادرة، صديقة ميساء المقربة منذ الطفولة. فجأة تضحي نادرة بشخصيتها وهويتها، من أجل لا شيء، زواجًا تقليديًا من الشيخ، ومنعًا من العمل، حجابًا واكتفاء بحياة عادية داخل المنزل.
تنتهي نادرة عند هذا الحد، وتبيع صوتها فقط لأن وضعها الاجتماعي يدفعها للزواج، بعد وفاة أبيها.
أما الشيخ حليم فهو يأتي كمثال للسيطرة الذكورية الناعمة، باسم الدين والمكانة الاجتماعية، لكنه يرسب في أول اختبار إنساني، يظلم ويفجر ويكذب، ويتقدم أمام المجتمع شامخًا، وهو يدهس كيان زوجته، بالكذب والتضليل.
كان حليم دائم الاستغلال لظروف النساء، يضرب على أوجاعهن، ليحقق مراده، ويشبع رغباته وشبقه للهيمنة والتملك.
من الرواية: "لم يتحدث الشيخ حليم بصوته، كان يخاطبنا الصدى يتردد غريبًا، تسمع كما كثيرًا من الصراخ والضجيج بين الكلمات، عبارات وجملًا تسمعها صباح مساء، ليس فقط في المساجد وعلى المنابر بل على معظم الفضائيات في المدارس والجامعات والصالونات في الشوارع والمدن. مع ذلك، كنتُ أشعر دائمًا أنهُ يجهد لكي يُخفي شخصًا هشًا وضعيفًا، إنهُ وحيدٌ وباردٌ في الداخل! إنها هيَ قوة مستعارة من استكانة الآخرين وجبنهم. لذلك لا تستمر طويلًا والمسألة بحاجةٍ للصبرِ والأناة".
سلب من الحلم
لكن آمنة ترد في السرد بقصة أشد قسوة، فسُحبت من مقعد الدراسة لمسلك الزواج والإنجاب.
وبعد سبع سنوات من الزواج كانت تلد طفلها السابع، حيث تحولت لوعاء للشهوة والإنجاب، وعاشت حياة شاقة مع آلام المخاض والعمل المنزلي، في وقت مخصص للدراسة والحلم والغناء والرسم.
تلك الصفعة الذكورية من رجل لا يرى في الأنثى سوى تلك الصفة، ويحتكرها لرغباته، ولتزيين المكانة الاجتماعية، هي لب الحكاية في سرد عبد العال.
يكتب: "لم يفهم من اتخذ القرار أنّه يعبث بعالَم آمنة، يُقدِّم ما يجب أن يكون متأخّرًا، ويُؤخِّر ما يجب أن يكون متقدِّمًا، ويُقحِمها في ما لا تستطيع. أن تعيش الحياة دفعة واحدة، أو تضغطها لتندمج في تداخل مُربِك: براءةُ طفلة، ومشاعرُ مراهقة، والتزامُ أُمّ، وحكمةُ عجوز".
دوائر
تضع لغة الرواية القارئ أمام مشاهد متقنة، وتنقلات مدروسة بين القصص المختلفة، مع توظيف توصيف ذكي وسلاسة في السرد بدون إسهاب، مما يمنح لغة عبد العال قوامًا محفزًا على الإكمال.
أما تكنيك السرد، فجاء تقليديًا، من دون مواربة أو اقتطاع، ومن دون حذف بهدف تفعيل الغموض. فالراوية تقف على بنيان قوي، سردًا ومضمونًا، كما كان الكاتب منصفًا في توزيع ثقل الشخصيات، بحيث كان لكل صوت مساحته الخاصة التي يريد القارئ ملامسة حدودها، والتعمق فيها، وذلك عبر 72 صفحة من القطع المتوسط.
في سرده ثمة قصص مختلفة، وأصوات نساء تصرخ من كل زاوية، لكن لا يسمعهن أحد، وتستمر دائرة الرحى في طحن المزيد منهن في مجتمعات تقيّدت بالقالب واختبأت خلفه.
الشخصيات لم تكن مختلفة بالقدر الكافي، لا بالعقل ولا بالهوية، ولا حتى بطريقة السرد، فالراوية كانت ميساء، ومن منظورها تم توصيف كل قصة، وكل شخصية، وكأن الأخريات كنّ مارات أمام شاشة ميساء، بكل جروحهن وأحزانهن. هذا ما دفع الرواية الى مسار هادئ غير ممتلئ بالتقلبات والنقاط الفارقة، فمشى السرد على إيقاع ثابت منذ البداية حتى النهاية.
لم تكتمل الرواية، لأن إسرائيل اغتالت كاتبها، كما كانت سببًا رئيسيًا في اغتيال حياة وطموحات الكثير من النساء. ففي حرب الإبادة وحدها، أكثر من 12 ألف امرأة استشهدت بفعل الطغيان الإسرائيلي.
لا تطرح الرواية خطة نجاة واضحة للنساء، لكنها تضع قنوات خاصة، لربما تختلف من امرأة إلى أخرى، فكما فعلت وداد، وميساء، يمكن للأخريات أن يفعلن، ويذهبن إلى ذواتهن، للخروج من قفص خانق، يهدر هوية المرأة ويمحوها.