}
عروض

"السفر إلى كعكة القمر": خيال علمي للوصول إلى فلسطين

حسام معروف

22 يونيو 2025

يقدم الكاتب الفلسطيني زياد خداش شغبًا أدبيًا جديدًا، يمارس خلاله قفزات زمنية غير معتادة في الأدب الفلسطيني، عبر نوفيلا "السفر إلى كعكة القمر" الصادرة عن دار مرفأ، 2025.
يحاكي الكاتب واقع الثورة الفلسطينية في الحاضر، وألم البدايات، مع تجربة النكبة، وبدايات انهيار حجارة الدومينو المصفوفة في الماضي الفلسطيني، لعوامل كثيرة، أهمها الاحتلال.
تمزج نوفيلا خداش ما بين الخيال العلمي والواقعية المأساوية للتاريخ الفلسطيني، من خلال تسعين صفحة، تحمل عقودًا طويلة من التهجير والتعذيب والقتل للفلسطينيين، عبر الاحتلال الإسرائيلي.
في طياتها هنالك حنين للمكان ومنشأ الأجداد، وصراع نفسي يمكن استدراكه في تكوين الشخصيات وتركيبتها الاستثنائية.
فيمكن مشاهدة صورة الماضي الذي لا يمكن تغييره، أو إيقافه، مهما حاول الإنسان ملامسته. وصورة أخرى للواقع، الذي لم يجف الدم فيه، لتبقى مأساة فلسطين مستمرة بدون توقف.
هناك، أمام الحاجز غير القابل للكسر ما بين الذاكرة والخيال، وما بين الماضي والمستقبل، تقف تفاصيل صغيرة، لتشكل سردا مثيرا للأفكار حول أعقد قصص الاحتلال في التاريخ.

صراع

ولا يمكن إغفال وجود صراع نفسي واضح في تركيبة شخصية البطولة في النوفيلا، زياد، ينسحب على وعي رجل في عقده الستيني، حيث الحنين إلى قريته بيت نبالا، وما بين براءة طفولته ومعاصرته عبء النكبة الفلسطينية على الأرض.
فمن يستطيع العودة بالزمن لملامسة أحزانه، ونكبته، وليرى كيف يتم عجن مكونات الألم الجماعي الفلسطيني، من المؤكد أنه يعيش أزمة وجود أمام حاضره في 2024.
تلك الاستحالة في تركيب صورة التاريخ، وسرد تفاصيله لا يمكن أن تتم بسهولة عبر العبث بحتمية سير الزمن للأمام، واستخلاق مشاعر جديدة من مشهد في الماضي. ومن يقدم على ذلك، عليه أن يتحمل مفاجآت العبث بالأزمنة وتراكيبها الخفية.
بطل خداش، "زياد" في حاضره، وهايل، في الماضي، يقدم أزمة الفلسطيني في العيش وتقبل الواقع كما هو، بل وتقبل الماضي. ففي تلك العودة للوراء، رغبة لا يمكن تهميشها، بالتدخل لجعل تاريخه بدون تهجير وفقد ونفي، ووضع أعمدة أخرى للحياة في وطنه، غير تلك التي انهارت على شعبها.
يرجع هايل بالزمن عبر بوابات زمنية ليعيش غريبًا وسط أهله، بجسدين، ليكون شاهدًا على آثار النكبة، من جانب، وعلى طريقة تشكلها من جانب آخر، ليكون مثل شريط "موبيوس" الذي لا ينتهي، وكأنه جمع التاريخ كله في جيوبه ومضى منفيًا للأبد.

من السرد: "كبرت أنا وصرت في السبعين، كبر أبي الذي تخرج من المدرسة الهاشمية بالبيرة وحصل على شهادة (المتركشن). كنت أشعر بسعادة بالغة وأنا أرى أبي يكبر أمامي، كان طويلا وخجولا ببشرة سمراء وعينين عميقتين بريئتين، كنت أطلب من عمي مدير المدرسة مصطفى سليمان أن أجلس في مكتب الإدارة، لأشاهد أبي وهو يمشي مع زملائه، أثناء الاستراحة، يضحك ويقرأ تحت الشجرة، ويصطف في الطابور، علاقتي مع عمي مصطفى لم تتوقف، حين سكنت المخيم، كنت أزوره باستمرار في رام الله".

منع

ومثلما تكثر الحواجز في حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية، هنالك حاجز آخر في السرد، يمنع زياد "هايل" من العودة للحاضر، ويبقى هنالك في نكبة أخرى، مهجرًا حزينًا يشاهد كيف عاش أجداده المحرقة والإبادة منذ طرفها الأول.
ذلك الاحتجاز هو رمز ألم الفلسطيني، فلا يمكن عبور الحياة ولا السير بالزمن كما يسير به الآخرون، وكأنه يحمل الزمن بعربة من دون عجلات، فهناك توقف الفلسطيني، يوم حدثت نكبته، ولم يعد يستطيع اللحاق بالطبيعي والاعتيادي.
يمكن اعتبار لغة خداش في السرد طريقة لتسهيل السفر معه نحو قريته بيت نبالا، مثل دولة تُهيِّئ مختبرًا علميًا كامل الأدوات لعلمائها، للوصول لأفضل نتيجة.
فجاءت لغته سهلة مسترسلة، ممتلئة بالرموز والإيحاءات، ومشحونة بعاطفة من صودرت حريته ظلمًا.
أما حبكة العمل التي لا أريد فضح تفاصيلها، فلا يمكن اختصارها بكلمة، بل بتاريخ طويل من التسلل الفلسطيني نحو الأرض الممنوعة عنه، والذاكرة التي تفيض داخله.
فلم يكن من خداش تجاوز المعقول في السرد، إلا لأن الواقع على نفس الشاكلة، غير مستساغ ولا يمت للعقل بأي قرابة.
تمضي النوفيلا بوتيرة هادئة تتصاعد تدريجيًا مع الوقت، معتمدة على حوار ذاتي للكاتب، وتأملات للمشاهد المنتقاة من الماضي والحاضر، بحيث تبقي عناصر الجذب في الأحداث حاضرة، حيث لا يمكن الشعور بانتهاء المجال المغناطيسي للأحداث، إلا عند توقف السرد عند آخر كلمة.

رؤية العالم للفلسطيني

إننا كثيرًا ما سألنا في أحاديثنا حول ما إذا رأى أهل الماضي هاتفنا النقال، فماذا ستكون ردة فعلهم؟
بهذه الحيلة أيضًا، دلل خداش على أزمة الوعي والتقاط الأفكار، ورؤية العالم، إذا ما تعلق الأمر بالفلسطيني.
فأن تأتي للعالم من المستقبل أو من الماضي، فإنك مدان، لا يمكن تصديق سرديتك ولا يمكن التعامل معها. هكذا كان هاتف هايل، الذي يحمل الصورة والتوثيق وعقل العالم الكبير، سببًا في منعه من دخول الواقع من جديد.
حتى البوابة الكونية، التي أعطت زياد فرصة الشغب مع القوانين الكونية، وبعثرة المكونات من أجل استعادة الأشياء كما يصورها خياله، يمكن تأويلها في لحظة بأنها فرصته الأخيرة للهرب من ثقل العيش تحت وطأة احتلال يسعى دومًا لمحو الكينونة الفلسطينية.
وكما أن النوفيلا في جوهرها سفر عبر الزمن، فإنها سفر تجاه الاستحالة. ففي المخيلة الفلسطينية، القرية المهجورة، البيت الأول، النشأة، كلها مقدسات لا يمكن عبورها بأي حال. ويجسد خداش هذه الاستحالة بأن يجعل حتى التكنولوجيا، البوابات، الهواتف، وقراءة المستقبل، عاجزة عن إنقاذ الفلسطيني من رحلة الإغراق القسري منذ البداية.
فالجنود البريطانيون يظلون عميانًا، أهل القرية يظلون سجناء خوفهم، البطل يُقتل بيد عائلته. النكبة تقع كما وقعت. اللاجئون ينصبون خيامهم كما فعلوا في التاريخ. لا شيء يتغير.
يكتب خداش: "وحدي الآن في فجر بيت نبالا الهادئ، لا أثر للهجان، كانت الدقائق العشر دهرًا كاملًا، وتذكرت بطاقة المعلم؛ أثناء الطيران على شكل صوت آلي، قبل السقوط بلحظات: تذكر مستر زياد، موعدنا فجر 4-7-1947 في تمام الرابعة وعشر دقائق تمامًا كما هي الساعة الآن، أرجو ألا تتأخر، معنا هامش انتظار مدته فقط دقيقتان.
إلهي أنا قرب قريتي الآن، قرب المدرسة التي أراها أمامي، المدرسة التي درس فيها أبي، أول حاسة اشتغلت في جسمي هي حاسة الشم، كان الجو كله مملوءًا بروائح طوابين تقي في هذا الوقت. تشتعل طوابين البيوت.
الطوابين التي اختفت في 2024، طالما كنت أقول لأصدقائي في القرى المجاورة: مشتاق لرغيف طابون حقيقي، وذكرت لهم طابون ستي مريم في قرية أبو شخيدم التي لجأت إليها مع أهلي بعد الـ48؛ كانت جدتي يا شباب تعطيني رغيف الطابون ساخنًا، أتقاذف وأنا ألتهمه، أين أجد طابونًا حقيقيًا".
بهذا تقف النوفيلا ضد خيال الخلاص الغربي، حيث يغير البطل مسار الزمن. هنا يسحق الزمن بطل السرد. حتى قفزة الخيال العلمي لا تنقذ الفلسطيني من الاحتلال والنكبة والمنفى. فتتجلى الرسالة السياسية صادمة وعميقة: لا عودة إلى ما قبل 1948. لا خلاص في الزمن، ولا في الحنين، ولا حتى في الحيلة.
تذكرنا النوفيلا برواية "Kindred"، لأوكتافيا بتلر، حين عادت بطلتها سفرًا عبر الزمن لما قبل الحرب الأهلية الأميركية، لتلتقي أجدادها، وتصطدم بطريقة العيش ومفاصل مهمة في طريقها، جعلتها تفكر في معنى العبودية والتمييز اللوني كجرح لا يمكن التئامه. الشيء ذاته عايشه هايل خداش فحمل ألم الجرح، بطريقة مختلفة، بحيث لا يمكن أن يشفى منه، ما يعني أن العودة إلى مكان الجريمة، يحفز الجرح، ولا ينهيه أبدًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.