في كتابه الجديد، يشتغلُ الشاعرُ والمترجمُ حسين نهابة على ثنائيةِ الرسائلِ والشِّعر، لإنتاجِ نصوصٍ نثريةٍ لها ارتباطٌ مباشرٌ بالنصِّ الأدبيّ الذي يُوجَّهُ بقصديةٍ مُعيَّنةٍ إلى جهةٍ أُخرى مُخاطَبة.
فهذا الكتابُ الذي عُنونَ بــ"إلّا عَيْنَيْكِ وأحزاني"، حَمَلَ أكثرَ من اتجاهٍ وإزاحةٍ وارتباط؛ فهو عنوانٌ مُستلٌّ من قصيدةٍ لنزار قباني معنونةٍ بـ"نهر الأحزان" (ذكر المؤلف ذلك في الصفحة الثانية من الكتاب)، والتي جاءت في منتصفِ القصيدة:
"أأقول أحبّكِ يا قمري؟ آهٍ لـو كانَ بإمكاني
فأنا لا أملكُ في الدنيا إلّا عَيْنَيْكِ وأحزاني
سفني في المرفأ باكيـةٌ تَتمزّقُ فوقَ الخلجـانِ".
وكأنَّ المُنتِجَ هنا أرادَ ربطَ سياقِ القصديةِ بلحظةِ عشقٍ وهيامٍ عُرفتْ بها القصيدةُ القَبّانية، ليُعطيَ الدليلَ الذي يبغيهِ مدلولُ الاتجاهِ في التنظيمِ النَّصيِّ للمتلقي، مثلما هو مُتجهٌ إلى المعنى الذي يُراد الوصولُ إليه، كونه ـ أي العنوان ـ جاءَ بصيغةِ مخاطَبٍ (عَيْنَيْكِ).
ولأنَّ الكتابَ قد تمَّ تجنيسُهُ على أنَّه (رسائل)، فإنَّ الاشتغالَ بعد التأطيرِ سيكونُ أقلَّ حدَّةً من ظاهريةِ التلقّي، وانتباهًا تلقائيًا إلى ظاهرةِ الغايةِ والاِستمكانِ من القبضِ على جمرةِ اللغةِ وتفجّرها، وتصاعدِ دخانها الأبيض، ليكونَ علامةً دالّةً على غايةِ الكتابةِ من جهة، ومسؤوليةِ التناوبِ في الاتجاهِ المقصودِ من جهةٍ ثانية.
فالرسائلُ في هذا الكتابِ لم تكنْ وليدةَ التجنيسِ الآنيّ، فقد بدأها بشكلٍ أدبيٍّ منظمٍ القاصُّ العراقيُّ الراحلُ عبد الستار ناصر في "أوراق رجل عاشق"، وأيضًا لدينا كتابٌ نثريٌّ على شكلِ رسائلَ نَصّيةٍ حَملَ عنوانَ "رسائل إلى قند".
أمّا في الأدبِ العربيّ، فإنَّ أشهرَها رسائلُ مي زيادة وجبران خليل جبران، بما عُرِفَ بكتاب "رسائل جبران إلى مي"، وكذلك كتاب مي زيادة "رسائل مي". وكانت لطه حسين أيضًا رسائلُ جُمعت بعد رحيله، وأيضًا الرافعي في كتاب "رسائل الأحزان"، و"أوراق الورد".
وفي الأدبِ الغربيّ، هنالك فرانز كافكا في "رسائل إلى ميلينا"، وسيمون دي بوفوار وجان بول سارتر في رسائلهما التي تحوّلت إلى كُتب. وهنالك كتبٌ فلسفيةٌ على شكلِ رسائل، مثل رسائلِ الكندي، وغيرها كثير من هذه الكتب التي أُنتِجَت على شكلِ رسائل، والتي هدفت إلى تجنيحِ النَّصّ، وانطلاقِ اللغة إلى مدياتٍ أوسع لا تمنحُها اللغةُ الشعريةُ، أو النثريةُ، أو السردية.
وهذا لا يعني أنَّ الرسائلَ سهلةٌ في كتابتِها، لكونها خاليةً من تبعيةِ المطابقةِ الزمانيةِ والمكانية، بقدرِ ما هي تحميلٌ لكلِّ ما يُذكَر في الشِّعرِ والنثرِ من عملياتِ تبويبٍ غائيّةٍ لها رصيدٌ من الاِستمكانِ اللغويّ، والتحررِ من التجنيس.
الباطن والظاهر
انتهجت هذه الرسائل ذاتَ الأسلوب والاشتغال، في الانطلاق المباشر من داخل المُنتِج إلى الخارج، بهدف الوصول إلى المستلَم (هي)، أو (هو). فكلّ رسالة لها عنوانٌ يأتي بالتزامن مع غاية الرسائل وقصديّتها وفكرتها، ولذا نراها عناوينَ تأخذ من الشعر إلى ضفّة النثر، وتأخذ من ضفّة النهر وتسبح في فضاء الشعر. وهو عنوانٌ يحمل الدلالة السيكولوجيّة التي غلّفت أغلب النصوص/ الرسائل، التي بدأت ببِكر التوجّه وأوّل الهذيان مع النفس، وكأنّه ـ في الرسالة الأولى ـ قرعٌ مستمرٌّ لطبول المناجاة والمناداة:
"إليكِ... رسالتي البِكر".
وهي رسالةٌ أولى تكشف عن البواطن الأولى، عمّا ظهر من جبل الجليد، من أجل الكشف عمّا هو غاطس من المدلول الإنتاجي لهذه الرسائل:
"إليكِ، زينةَ العُمر، أكتبُ رسالتي الأولى، وربّما الأخيرة، مَن يدري؟".
لكنه يدري أنّها البدايةُ التي تنطلق في كتابة رسائلَ أوصلها المُنتِج/ نهابة إلى سبعة عشر نصًّا نثريًّا. لكنها لم تكن رسائلَ عشقٍ مجرّدة، ولا رسائلَ هيامٍ لحبٍّ فاشل، أو كلماتٍ تُؤدَّى لإنتاج النصّ الشعري، بل هي الكشفُ عن المخزون الذي لا يُقال: عن الحبّ، والوطن، واليأس، والحرمان الذي لا يمكن البوحُ به إلى الأُخرى صاحبةِ العينَين، حيث يُسكب فيها أحزانه، خاصّةً وأنّ العنوان الرئيس لم يكن عنوانَ رسالة، بل هو جمعٌ لما يمكن أن تصل إليه القصدية في انتهاج أسلوب الرسالة، بدلًا من النصّ الشعري الذي برع فيه المُنتِج.
فهذه الرسائل تبدو ذاتَ طابعٍ وِجدانيّ/ رومانسيّ، تتقاطع مع اليوميّات والسرد القصير، لكنها أيضًا ذات طابعٍ سيكولوجيّ/ فلسفيّ، اتّخذت من المستوى الإخباريّ المباشر طريقةً للتدوين، وحملت المستوى القَصديّ ليكون محمولًا أوّل للمستوى التأويلي المراد الوصولُ إليه. فما يجمع هذه الرسائل أنّها خطابٌ موجَّه إلى شخصية، لكنه خطابٌ مفتوح من أُنثى غائبة/ غالية، وحبيبةٍ مستحيلة/ غامضة، هي الأقرب والأبعد. الأقربُ في الاستمكان النثري، والأبعدُ في الصراخ التدويني. تسكن القلب، لكنه لا يستطيع البوحَ المباشرَ الهامس. لذا، فالزمن يتحدّد في الرسائل بنماءٍ على زمنية الكتابة، سواءٌ كانت حربًا، أو جائحةَ كورونا، أو سفرًا، أو تقلّبًا في المزاج.
فهو يصرخ، ليس لتسمعه أو تقرأَ حروفَه هي ـ المعنيّة الغائيّة ـ، بل لِيَصل من خلال (الصراخ) والصدى، ممّا يمكن أن يكون سببًا في هذا الإنتاج:
"قدمتُ أحملُ بين طيّات دفاتري خطابًا عن عيد المرأة في يومها، ولم أكن أعرف أنّي سأحتفظ بكلمات الخطاب بسبب (كورونا) التي أملَتْ شروطَها على برلمانكم العتيد (العريق) بإلغاء النشاطات كافّة".
فهنا، في هذا المقطع مثلًا، نرى الزمنَ قد تحدّد، والاتجاهَ قد تحدّد، والسياسةَ قد تحدّدت، والقَصديّة كذلك، وهي ذاتُ الاشتغال القَصديّ.
الاشتغال التدويني
ما يُميِّز الرسائل أنها ذاتُ اشتغالٍ تدوينيٍّ بدا وكأنه اشتغالٌ مُبرمَج، يحمل عددًا من السمات الأسلوبية الفنية:
أوّلًا: تنطلق من صيغة ضمير المخاطبة "إليكِ"، حتى إنه يتكرّر كثيرًا، ما يعكس هذا الاشتغال وكأنه موجَّه من الخاص إلى الخاص، ومنها إلى العام، فيتحوّل من كونه نداءً مباشرًا إلى نداءٍ عام/ افتتاحي، بهدف إعطاء التماسك للنصوص وتوحيدها لتكون موجَّهة إلى الآخر، المُراد كشفُ الحسابِ معه للواقع والافتراض والمُخيلة، كما في رسالة:
"إليه... رسالة مُغمَّسة بالحرائق، إلى أخي وصديقي المترجم والشاعر عبد الهادي السعدون، الذي وُلد قبل يومين".
أو من الحبيب إلى الحبيبة:
"وأدعو في سرّي أن يحفظكِ وأسرتكِ. وأنتِ... غارقةٌ بين وسائل التواصل الاجتماعي، تُمازحين هذا، وتُشيرين إلى ذاك ببراءةِ غزالٍ".
ثانيًا: ولأن المُنتِج شاعرٌ ومترجم، فإن اللغة قد ميّزت الاشتغال وأخرجته من الشعر إلى النثر، والعكسُ صحيح. ولهذا نرى أن اللغة قد احتشدت فيها شعريةٌ حارّة، مليئة بالتشابيه، غنائيةٌ في بعض المواضع، متداخلةٌ مع وقائع حياتية وفيروسية وسياسية. وهي لغة قد تكون مباشرة، حيث يكشف عن اسمها، أو أنها دليلٌ آخر:
"واحدٌ وخمسون فجرًا مضى، يا غادتي الأنيقة، منذ أن تثاءبتُ آخرَ نسمةٍ من نسماتِ مدينتكِ الهانئة".
ثالثًا: الزمن في هذه الرسائل لا يكون متواليًا، أو متصاعدًا، بل غير خطّيّ؛ يتحرّك بين لحظة السفر، والحجر، والعودة، ويشتبك مع التذكّر، والحلم، والافتراض. مع الواقع الذي وُجدت فيه الرسالة، لحظةَ حملِها وكِبرِها، سواء أكان الزمن آنيًا، أو ماضويًّا، أو مرتبطًا بالأسطورة، بهدف إنتاج التعالُق بين الألم واليأس والارتباط الجذري:
"تضعين الفرشاة بين طرفي شفاهكِ وتقطّبين جبينكِ مثل ملكات بابل حين ينزلن في المناسبات إلى شارع الموكب، ولا تروق لهنّ رائحةُ القار".
رابعًا: المكان معروفٌ ومُسمّى، وله دلالةٌ سيميائية، كأنْ يكون مدينة/ مطار/ فندق/ حانة/ حقيبة/ جبل:
"سأستقلّ القطار القديم من العاصمة (بوخارست) إلى قلب الطبيعة المُزدهرة (سينايا)، وسأحجزُ غرفتين متجاورتين، ذات شرفة واحدة، في النُّزُل الهادئ، القريب من قصرِ الملكِ الصيفي، في أعلى الجبل".
خامسًا: استنطاقُ المتن بلغة الشعر والنثر، من أجل صياغة لحظة تأمّل داخلية، محمّلة بالأسى والانكسار والمساءلة الذاتية، خصوصًا في رسالتي: "وجع الهزيمة" ، و"رسائل محرومة"، حيث نجد هذا الاستنطاق واضحًا، كاشفًا عن طريقة الاشتغال في تبويب الرسائل:
"لا تقلقي.
هل حقًّا، تقلقين لأجلي مثلما تخيّلت؟
أو أنّ النومَ اختطفكِ بفرح، بعد أن تعبت أناملُكِ من رسمِ لوحةٍ مُنتظرة؟".
الموجّهات الكبرى
يُمكن تلخيص منهجية هذه الرسائل بين التفاعل القصدي والاشتغال النثري، إذ تحمل موضوعات جوهرية، أهمّها:
الحبّ العابر للأمكنة والزمن، القَدَر، الفقد، الاضطرار إلى المغادرة قسرًا من دون وداع، العزلة، الحنين، التعبير عن الشوق من خلال "الصراخ التدويني"، التوثيق للحالات التي عانى منها المجتمع، سواء من الواقع السياسي، أو ما حصل في جائحة "كورونا"، التي دمّرت حتى أبسط أشكال التواصل، وفرضت على الناس الوداعَ المؤجّل، أو المستحيل. وهي رسائل أيضًا تكشف هشاشةَ الإنسانية، وكيفيةَ تأثيرها على الحياة والحب والعشق. كما تكشف أن الرسائل جاءت كردّة فعلٍ، لتكون وسيلةً للبقاء، رغم أن بدايتها أوحت بأنها قد تكون الأخيرة. لكنّه في كل مرّة يتجدّد ويتجدّد. ويمكن تلخيص أهميّة الرسائل بثلاثة موجّهات:
1 ــ الرسالة موجّهة إلى آخر معنِيّ، لكن يُراد لصدَاها أن يكون عابرًا للآذان الأخرى، من أجل الاستماع، ومعرفة خبايا/ خفايا الذات والمجموع.
2 ــ بدايات كلّ رسالة، للكشف عن الانبهار، والخيبة، والانكسار.
3 ــ التوجّه بــ (إليكِ) يُعطي الرسالةَ صدقيّتها، ومصادقتها، ومحاولةً للخلاص.