في نيسان/ أبريل 2023، أطلق المترجم والكاتب الأردني الفلسطيني تحسين الخطيب مجلة "دفاتر الشعر" الإلكترونية (السنوية)، وهي مجلة متخصصة في الشعر والفنون. صدر منها حتى الآن أربعة أعداد، صدر العدد الرابع منها في شهر أيار/ مايو 2025.
تقوم فكرة المجلة على ترجمة الشعر العالمي، وقد تولّى الخطيب بنفسه، وبجهد فردي، مهمة الترجمة والتحرير.
وشملت الترجمات حتى الآن قصائد لشعراء من السويد، إسبانيا، فرنسا، اليونان، إيطاليا، الولايات المتّحدة، الأرجنتين، المكسيك، تشيلي، كوريا الجنوبية، تركيا، وغيرها من الدول. كما تتضمن المجلة قصائد غير مترجمة لشعراء من العالم العربي.
*****
أجمل ما يشدّ في لعبة التنس هو هذا الجهد المشترك بين لاعبيْن كي لا تضيع الكرة، ولن ينجح اللاهثون ركضًا على تماس الملعب في التقاطها.
يسعى الاثنان إلى ألا يضيع معنى المباراة، ومن هنا تتضح أهمية التركيز على الكرة الطائرة في الهواء عبر الشباك. الشباك حدود الجهد بين الطرفين، وهو الأجدر بتحديد المعنى بينهما. لكلٍّ منهما ثقافته الخاصة في التعامل مع هذا الفضاء الضيق، ولكلٍّ منهما طريقته في المحافظة عليه كملعب للمعنى، وإعطائه دلالات أعمق لجهد كليهما.
وهنا تكمن أهمية التأويل، تأويل ثقافة الآخر من خلال تحركاته في الملعب، ومن خلال أساليب استعماله للغة في الأدب عمومًا، والشعر بالأخص. أو هكذا أرى تفاعلي مع سؤال الترجمة، كما يطرحه الشاعر المترجم تحسين الخطيب. إنه سؤال المعنى الطائش بين رياح تنهض من الوعي الثقافي الكوني.
تقوم فكرة تحسين الخطيب أساسًا على التفاعل الثقافي قبل البحث عن الإبداع المتسامي، بل عن الإبداع باعتباره خلقًا لمعنى، ينجرُّ عنه أساسًا وعيٌ مختلفٌ بالعالم، بما يُحدث تحولات في التعامل مع الواقع.
أعتقد أن الأمور في الترجمة تسير بهذا الشكل: تفاعل ثقافي يؤدي إلى تلقٍّ لمعنى ينجرُّ عنه انبثاق وعي. من غير الضروري العودة إلى الدروس الأكاديمية في الترجمة بجميع أشكالها، لكن من المهم التسليم بأهمية قابلية تحوّل الذوق، والاستئناس بحدس الذئب في اختيار مكامن راحته قبل البحث عن أساليب مطارداته.
في هذا الكراس، الذي يندرج ضمن مشروع أكبر يشتغل عليه تحسين الخطيب "دفاتر الشعر"، يلفت الخطيب الانتباه إلى جماليات الترجمة، ليس فقط من خلال إتقانه لفعل التنافذ الثقافي مع جوهر النصوص التي يتعامل معها، ولكن من خلال سياقات أخرى أهم، لعل موجة الترجمة الحديثة في العالم العربي تناستها أو تتعمد نسيانها، لما تفترضه من حسٍّ جمالي مختلف، وتمكّن بالغ من أدوات العمل، وإدراك عميق لخطورة المهمة.
لا يتوقف تحسين الخطيب عن الترحّل عبر التضاريس الوعرة للجغرافيا الثقافية الكونية، يستكشف أسرار الإبداع عند شعوب العالم؛ يتوغّل نحو الأبعد في الجرح الإنساني الأبدي، ويقرأ أبجدياته الأولى من خلال التنافذ مع تلك الروح الشعرية التي تسكن الإنسان منذ الأزل.
تنهض القصيدة عنده من رماد الاشتعال الأول، لتتقد بروقًا في سماء أخفتها غيوم رماد قديم. براعة لاعب لا أحد غيره يدرك أسلوبه، يدخل صاحب الكراريس متاهات شعرية من الصعب ولوجها، بل لم يحدث أن تم استكشافها عربيًّا، ليزيل ستارًا عن سماء بلا سقوف.
لا يكتفي الخطيب فقط بالكشف عن هذه الكنوز المخفية، بل يعمل على تقديمها بأسلوبه المتفرد. وهو ما نبّه إليه دولوز خلال حديثه عن تميّز لاعب التنس الشهير في سنوات السبعينيات من القرن الماضي، السويدي بيورن بورغ، منوهًا بأهمية الأسلوب وضرورة تفرّده لبلوغ قمة الإبداع وتربية الجماهير عليه.
هذا ما ميّز تحسين الخطيب في اشتغالاته الترجمية، منذ دفاتره الأولى وصولًا إلى الكراس الأخير، ودفاتر الشعر الأخيرة التي اهتمت بالشعر الكوري الحديث.
فعل الترجمة ليس لعبًا، ولكنه أيضًا ليس درسًا، ولعله في جوهره رياضة ثقافية، باعتبارها فعل محاورة مع الآخر في جوهر إبداعه الجمالي المتأتي من مخزون حضاري، بكل ما يختزنه من فولكلور وموروثات شعبية وأعراف وتقاليد وعادات وتاريخ معلن وسرّي. غير أنها ليست بمحاورة تقوم على السؤال والجواب، بقدر ما هي تنافذ لتعميق سؤال الوجود الأخطر: سؤال تفاعل الحضارات مع الكينونة.
من هنا تتحول الترجمة إلى فعل إبداعي، وهو ما يكشف عنه كراس الشعر التركي الحديث، الذي لا يعرف عنه العرب الكثير، في ظل هيمنة الشعر الغربي (الأوروبي والقارة الأميركية كاملة).
وليس من هنا فقط تبدو القيمة المائزة لاشتغالات تحسين الخطيب، فكما سبقت الإشارة إلى أهمية اكتشافاته وفرادة أسلوبه، هناك أيضًا ما يلفت الانتباه في عمله، وهو تحصين عمله من ألا يتحول إلى مجرد فعل أنطولوجي، بقدر ما هو عمل أركيولوجي. ويظهر ذلك من خلال نوعية اختياراته للشعراء الذين اشتغل عليهم؛ فهو لم يعمل على تكديس الأسماء كما لو أنه في عمل موسوعي، بل ذهب لانتقاء أهم الأعمال، متجنبًا التصنيف الجيلي والأيديولوجي. وهذا ما جعل من كراسه هذا مشروعًا إبداعيًّا وليس تأريخيًّا.
فتحسين الخطيب هو في حقيقته رحالة الأبجديات، وما دفاتره إلا استكشاف لطقوس التجلي عند الشعوب، والبحث في منابع الحضارة عندهم.
يبقى أن هذا العمل الذي يقوم به تحسين الخطيب هو جهد فردي تمامًا، يقوم به لوحده، ويوزعه إلكترونيًّا على نخبة من الكتّاب المعنيين بالترجمة والإبداع، وقد نالني حظ أن تصلني منه هذه الدفاتر والكراريس.