لقراءة رواية "الطانفا" للروائي الجزائري (المغاربيّ/ الأفريقيّ) الصدّيق حاج أحمد، لا بدّ من معرفة شيء من معالم ذلك العالَم المغاربيّ، تاريخه وثقافته ولغته، بل لغاته ولهجاته، وحضارته ورموزها الغامضة. وهو ما تأخذنا إليه الرواية من خلال عوالم شخصية روائيّة، هي شخصيّة "بوغرارة" (بطل الرواية الأول، بعد السارد الأوّل لها) متعدّدة الأبعاد، شخصيّة تتنقّل بين عالم التجارة والنجاحات التجارية في استيراد وتوزيع قماش "الطانفا"، وأنواع من أشهر التمور الجزائرية، وبين مساهمته في دعم الثورة الجزائرية ضد المستعمِر الفرنسيّ، حتى نيل الاستقلال، وإلى عالمه النسائيّ، في رواية تحضر فيها شخصيات كثيرة، عربية وأفريقية، كما تحضر اللغة العربية مطعّمة بلهجات محلية، لتصنع رواية ذات هوية وانتماء متميّزَين. هنا وقفة مع أبرز ملامح الرواية.
ابتداءً، نحن أمام طالب شاب، سيكون هو بطل السرد والمتحكم به، يقرأ الشاب إعلانًا عن ورشة للتدرّب على كتابة الرواية، ورغم سخريته من الفكرة، إلّا إنه يتقدم للمشاركة في الورشة، فتلقى دروسًا نظرية حول العالم الروائي؛ من أهمية القراءة، واستثمار الخبرة الحياتية واللغة وغير ذلك، ثمّ مهارة نحت الشخصيّات، ولعبة الزمن، وعالم المكان، وحياكة خيوط الحبكة، وصناعة الخيال الروائيّ. وفي التمارين العملية على السرد، اختار شخصية شاب جزائري صحراويّ تخصّص في الذكاء الاصطناعي، وفكّر "بتوريط" الروبوت بكتابة سيناريو سينمائي يستشرف فيه عودة "قصور توات" إلى طينها القديم المحدّث بمواد مقاوِمة ومدروسة مع مراعاة السياقات... وهكذا نال رضى المشرف على الورشة وتشجيعه، وقرر كتابة نصّ بعنوان "أغمّو"، وهو ما يظهر في رواية "الطانفا" تحت عنوان "بروفا: أغمّو"، وهو اسم نوع من أجود أنواع التمر الجزائريّ.
في عتبة أولى لرواية "الطّانفا" هذه، يبدأ المؤلّف بمقولة قد تكون من أطلقتها زوجته الثانية ميناتو التي اشتُهرت بطبخ الملوخية والأرز حيث "تقول أوراق البامية (الملوخية): أنا امرأة أفريقية حكيمة، أنقذت الكثير". ثمّ تبدأ الرواية برحلة طالب جزائري في منحة إلى جامعة كيب تاون، جنوب أفريقيا، حاملًا بعض الكتب، أحدُها كتيّب "الحصن الحصين"، و"شروط النهضة" لمالك بن نبي، ورواية "اللاز" للطاهر وطار، ورواية "لا تبكِ يا ولدي" للكيني جيمس (نغوغي) وا ثيونغو، وإلى ذلك يصطحب قفلًا صغيرًا رافقه سنوات، وسوف يحتاجه لاحقًا.
زمن السرد الروائيّ قريب وحديث، ولكنه غير متسلسل تمامًا، فالطالب يقف في مطار كيب تاون في كانون الأول/ ديسمبر 2017، يطلب تاكسي أوبر فيأتيه التاكسي تقوده امرأة ستينية، ومع وصوله "بيت الشباب"، محطة ما قبل وصول المعسكر المخصص لإقامته، يلتقي مع خمسة ألوان من البشر، وفي بيت الشباب هذا يروح يتذكّر أهل صحراء الطين وفوبيا المطر، ويقف عند الابتسامة الملونة لموظفة الاستقبال، ويبحث عن مقهى وطعام، وحين يتسلم سريره في غرفة في المعسكر، يضع القفل الذي اصطحبه في باب الخزانة، يستغرب رفاق الغرفة وهم اثنان من سيراليون وثالث من النيجر، فتبدو له الغرفة صورة مصغرة للعالم، وهو حيال ثقافات خماسية، وبين لغتين إنكليزية وفرنسية، يسمّيها لغات معطوبة ومذبوحة مثلًا.
يختار هذا الطالب دراسة موضوع "الثقافات المجاورة"، دراسة تضعنا، روائيًّا، حيال ثقافات الدول التي يتجوّل فيها محمّد البركة المدعو (بوغرارة- البطل)، بدءًا من مدينته توات/ ولاية أدرارا/ وما حولها، وصولًا إلى هافانا/ كوبا وما يربطها بثورة الجزائر، مرورًا بعواصم أفريقية عدّة، يجمع فيها بوغرارة بين مصالحه التجاريّة وبين مساهمته في دعم الثورة في بلده ضد الفرنسيين، كما يحرص في تجارته على منافسة الشركات الإسرائيلية. وما بين هذين العالمين، التجارة والثورة، ثمّة عالَم جدير بالالتفات في حياة بوغرارة، هو عالم النساء، بدءًا من زوجته الأولى لالّاهُم، وابنهما السّيموح وابنتهما البتول، ثمّ زوجته الثانية (ميناتو) وابنتهما (قمَرَتو)، وصولًا إلى زواجه السريّ من العاهرة الساحرة (...).
اللبناني الفينيقي في أفريقيا
في فضاء متعدد الثقافات والأصوات، ومن دون دخول في تفاصيلها، يختار مؤلّف "الطانفا" شخصيّات قادرة على التعبير عن هذا التعدد في الهويّات والثقافات، وعن إمكانية التشارُك والتداخل وحتى التعاون بينها. ففي أثناء بحثه عن طعام، يعثر في أحد الأزقة على مطعم لبناني، وصاحبه (جورج) من المهاجرين الأوائل، من عائلة شلالا، واللقاء بشخص عربي هنا فرصة للبوح والمزيد من التعارف، حيث يحدّثه صاحب المطعم، بعربية "مذبوحة" وبقايا لهجة لبنانية، ونستمع إلى "ضحكات أعطاب الإنكليزية، وقهقهات مذابح العربية"، عن الترحال بوصفه نزوعًا لدى الفينيقيين، ومنهم اللبنانيون، وقد هاجر جده إلى إحدى المقاطعات الأفريقية المستعمَرة فرنسيًّا في عام 1870، وعاشت أجيال من العائلة تتنقّل بين دول أفريقية عدة حتى استقرّت في كيب تاون. ومع معرفته بالتخصص الذي جاء يعمل عليه هذا الجزائري، يُبدي جورج اهتمامًا بالموضوع، ويبدأ الحديث عن تداعيات الشتات على الذات والهوية. وفي نهاية اللقاء يصرّ اللبناني على أن عشاء الجزائري "ضيافة" منه، ويقوم بتوصيله إلى مكان سكنه.
بطولة اللغة وبعض اللهجات
رواية "الطانفا" ليست مجرّد حكاية تُحكى، وليست شخصية بوغرارة هي كلّ شيء في الرواية، فنحن حيال عناصر وشخصيّات روائية عدة، أساسُها اللغة. اللغة العربية الفصيحة المتينة، بما تحتوي من استناد إلى القرآن والأحاديث النبويّة، وهي لغة مطعّمة بلهجات أفريقية عدة (الطارقية والحسّانية في الأساس)، بما فيها من أمثال وحِكم معبّرة. كما أنّها لا تخلو من العبارات الفرنسية والإنكليزية. فنحن حيال ثقافات متجاورة، وبعضها متحاورة أو متداخلة أو متصارعة أو متصادمة. وذلك يبدو منذ رحلة الطالب من بلده الجزائر، ومحاولاته التواصل مع العالم الجديد، من خلال لغته الإنكليزية "المعطوبة"، ودخوله ورشة لكتابة الرواية، متجاوزًا رؤيته ورأيه في هذا النوع من الورشات، وخصوصًا تهكّمه على ما يسمّى "نظرية الفستق"، وموافقته رغم ذلك على هذه الورشة وكتابة هذه الرواية.
يكتب الصدّيق أحمد روايته ما بين التاريخ وبين الخيال، في عالَم غرائبيّ، عالَم يجمع الوطن والاغتراب، بدءًا من اغتراب الطالب عن وطنه، مرورًا باغتراب (البطل) التاجر/ الثائر في رحلته بطائرته الخاصة، وامتلاك القصور والسيارات والشاحنات، ورغبته في العيش مستمتعًا بالنساء، وصولًا إلى رحلة العودة إلى الوطن مفتقرًا إلى كلّ شيء... مستندًا إلى كونه ترك ابنه خليفة على إمبراطورية تجارية متينة. ونحن خلال ذلك كلّه نتوقّف على تأمّلات الروائي/ السارد في قضايا وهموم الإنسان الجزائري، والإنسان عمومًا، قضايا تتعلّق بالثقافة والهوية والغربة والاغتراب، والفرق بين الوطن والمَوطن. ويأتي ذلك من خلال شخصيّات روائية تروي تجاربها وحكاياتها التي يسجّلها المؤلّف. وتتعدد أساليب السرد والكتابة ما بين المحكي والحوارات والتأمّلات، ما يمنح الكتابة ثراء وحيويّة وتشويقًا للآتي.
ولعلّ من بين القضايا الأبرز في الرواية، قضية "الاستعمارات"؛ الفرنسي والبريطاني والهولندي، في أفريقيا عمومًا، وفي الجزائر على وجه الخصوص، وهو يحتل حيّزًا ومساحة لا بأس بها، وإن يكن الاهتمام موزّعًا بين ثنايا الرواية، وليس مركزيًّا فيها. ففي أحاديث عابرة مع زملاء السكن يجري الحديث عمّا عاشته أفريقيا من ويلات في ظلّ نظام الحكم العنصري (الأبارتهايد)، وكذلك عن المقاومة الفلسطينية، ولكن زميله الهنديّ أيان يخبره بأنه لم يشهد ما شهدته الجزائر من ويلات الاستعمار. ويتوسّع الحديث/ السرد ليطاول قضايا الأنثروبولوجيا ومقولات الأميركي الألماني فرانز بواس، وأفكار الأميركي الألماني ألفريد لويس كوبر، حول ربط الآثار بالثقافات لدى شعوب أميركا اللاتينية، وكذلك مقولة كلود ليفي ستروس حول تعايش الثقافات، وينتهي بالحديث عن الثقافة المجاورة بين شعوب شمال الصحراء الكبرى وجنوبها.
يبقى من الرواية الكثير ممّا هو جدير بالتناول، ولعلّه يلقى اهتمام النقّاد المتخصصين لتقديم قراءات أعمق وربما أوسع.