}
عروض

"أسلاك كهرباء مكشوفة للريح والمطر": كتابة تؤثث فضاءها وترسمه

راسم المدهون

26 يونيو 2025


تختار ياسمين كنعان الشعر بدون أن تسمّي ما كتبته شعرًا رغم كثافة حضور الشعر في سطور وحتى خلايا كتابها "أسلاك كهرباء مكشوفة للريح والمطر... دفتر ليليات" وفيه "نصوصٌ شعرية حارَة ومشبعة برؤى مخيلتها ومداد فكرها":


"البنت عائدة من المدرسة
صعودًا إلى البيت
تختصر المسافات الطويلة بين زمن وزمن؛
تركل الوقت والأمل والألم والحزن
والغضب وعلب الكولا الفارغة بحذائها الأبيض،
تفتش عن ظلها لتدوسه،
تشتري كيس عصير مثلّج لتروي عطش المسافات
ما بين عطش وعطش؛
المدرسة عطش الأسئلة
والبيت عطش الأجوبة
وما بينهما مسافات لا تُقطع إلا بركل الملل.
دائمًا في منامي
هناك بنت وطريق وشوارع ضيقة
والكثير من الأسئلة والعطش".

هي نصوص شعرية تتجول في الروح الداخلية لمبدعتها من دون الانفصال عن المحيط والحياة الواقعية وحتى الشأن العام وما تحيل عليه وقائعه من مشاعر فردية لها علاقتها الوشيجة بروح أنثوية ترى العالم بحدقة الألم. هنا نتأمل بالذات لغة ياسمين كنعان التي تأتي من رغبة في البقاء في حيّز الواقعي ولكن من حدقة المخيلة وجموحها المسكون بنبض الحلم وتجواله في شقوق الوجع اليومي. لغة نصوص كنعان تشبه بوحًا فرديًا فيه توحّد مع الأفكار والموضوعات من خلال أشكال تعبير تعتمد البساطة العميقة التي تذهب نحو غاياتها ببنائيات فنية عالية وفيها الكثير من عذوبة "السرد الشعري" وبلاغته. نرى في "أسلاك كهرباء مكشوفة للريح والمطر" شغف الرغبة في استدراج الحلم والفكرة معًا على نحو يتيح رسم مشاهد حيوية تنتسب للشعر من خلال انتسابها للذات الفردية وتعبيريتها واحتدام تفاعلها مع الصياغة الشعرية كحامل فني يحقق حضوره بأناقة الجملة وأناقة النص معًا:

"قاوم إن استطعت حضورها الضوء في ليل منافيك البعيدة،
قاوم أناملها تجعد خصلة الوقت على وجه الغياب،
قاوم رياح الحنين تأتيك من وراء النوافذ الموصدة ومن وراء الباب،
قاوم جنون الحب يشعل الطرقات شوقًا،
يدخل النفق الأخير ذهابًا إلى المجهول ولا يفكر في إياب".



هي تجربة تنتمي لفضاءات أدبية وروحية مشبعة بالحس الإنساني وبرغبة لا تحد في إطلاق المخيلة لترسم خطوط الحلم على ورق الكتابة وإطلاقها في مدى واسع من الجموح بلا صخب عارم، ولا ادّعاء يزدهي. فاللغة التي كتبت بها ياسمين كنعان تأخذ مشروعيتها وانتماءها من ولع باجتراح مشاهد شعرية لها خصوصيات تتجاور مع العاطفة الإنسانية، ومع المخيلة الحرة من أية قيود أو اشتراطات فنية تنتمي لرتابة الفكرة أكثر من انتمائها لحيوية التجربة الأدبية التي تؤسس ذاتها في سياق تعبيريتها الصادقة، المباشرة، والمفتوحة على طلاقة الرسم وطلاقة الفكرة.

إنها قصائد أو نصوص تمتحن فنياتها في بلاغة تعبيرها عن دراما الحياة وتراجيديا بوح تكتبه امرأة من هناك، من "جنين" المثقلة بالحروب اليومية والحصارات التي لا تتوقف. نبع هذه النصوص الشعرية يسكن تمامًا في مساحات الوجع اليومي الذي لا يتوقف، بل يزداد ضراوة تدفع الكتابة للإصغاء أكثر لتأمل صور الحياة اليومية في مرايا الروح الإنسانية:

"تبًا لجسدي؛ هذا الذي يقيدني،
تبًا له حين أمد ذراعي ولا أصل بهما إلى ما أريد
ولا أقطف بهما ما أشتهي،
لماذا لا تكون يدي من مطاط،
لماذا لا أصل بهما إلى ما أشتهي،
لماذا لا أقطف بهما التفاحة المحرمة أو البرتقالة المحرمة لا فرق،
لماذا يكبلني جسدي اللعين مثل قفص أو وتد في الأرض،
لماذا لا أستطيع أن أرافق خيالي في نزهاته الطويلة،
لماذا لا أكون حيث يكون...؟".

هنا ثمة ما يدفع الروح إلى مساحات الأسئلة التي لا تبتغي إجابات قدر رغبتها في إطلاق حضورها على نحو مختلف كأسئلة تأتي من تلك الحياة المريرة والمفتوحة على شجن خاص فيه الكثير الكثير من تدفق السرد الشعري وتدرّج لوحاته على نحو لا يكتمل إلا كي يأخذنا معه لارتياد رحلة القراءة، والتحديق في مساحاتها الغزيرة بقطاف الوعي والمخيلة معًا. هي تنتمي للسرد الذي يحاور الشعر ويستفيد من وهجه وجمالياته، ويذهب في الوقت ذاته نحو تخوم تجربة أدبية لها ملامحها الخاصة كما تعبيريتها الفردية. تجربة تعثر على ذاتها في تخوم اللغو المزدانة بالصورة الشعرية والمشهد الذي تذهب نحوه ونذهب معها في لقاء عذب ومضمخ بعطرها:

ويحق لي أن أحذف بعض المفردات البالية من حياتي،
صرت هاوية حذف على ما يبدو،
ربما مهووسة حذف،
أستطيع أن أجمع في كتيّب جيب صغير
الكثير من المفردات والمصطلحات المهترئة التي حذفتها،
وأستطيع أن أمنح هذا الكتيب الصغير عناوين كثيرة،
كأن أكتب بخط عريض "ما لا يصلح للحياة"،
أو "مفردات الهباء".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.