يرتبط مفهوم الإذعان بالخضوع والامتثال والتسليم والانقياد والموافقة والرضوخ لأمر ما والانصياع والطاعة الإكراهية، ويتضمن الاستسلام والإخضاع والخضوع لنظام تسلطي أو لسلطة مهيمنة أو قوة متسلطة. وفي المعاجم اللغوية، يُعرَّف الإذعان بأنه الاستكانة والانقياد والطاعة والموافقة على رأي أو أمر أو قرار، حيث يطيع الإنسان مكرهًا من قِبل من يمتلك السلطة القاهرة أو يحمل سلاحًا، أو يمتلك قدرة على التحكّم بالوظيفة والمصير، وقد يصل هذا التحكم إلى الحياة والموت. ويبدأ من إطاعة ربّ العمل ورئيس العمال والمدير الإداري والرئيس وسواهم، وهو يعني أن المُذعن سجين تتحكم به علاقة قوة تُخضعه وتُرضخه وتستلب إرادته. ويميل المفكرون إلى اعتبار الإذعان طاعة إكراهية صرفة، يعبر عنها بعلاقة ترغم الإنسان على التصرف وفقًا لإرادة الآخر، فتجعله مُسيَّرًا ومُسيطَرًا عليه ومحكومًا ومأمورًا. وقد تبنت الأنظمة السياسية، وخاصة الاستبدادية، استراتيجيات سعت من خلالها إلى مأسسة ثقافة الإذعان، والخضوع المطلق، والطاعة العمياء، واستخدمت من أجل نشرها وتعميمها في المجتمعات عن طريق استغلال المناهج التربوية، وتزوير التاريخ، وتوظيف الدين الإسلامي عبر تسويق مقولة طاعة أولي الأمر.
لا ينحصر الإذعان في جانب معين، وتمتد أشكاله من السياسي إلى الديني إلى الاجتماعي، ويشمل ذلك الإذعان لسلطة مستبدة، ولأوامر الموروث الديني، وللعادات والتقاليد، وعلاقات القرابة وسواها. وفي هذا السياق، يتناول الكاتب السوري حسن إبراهيم أحمد في كتابه "ثقافة الإذعان" (دمشق، دار كنعان، 2024)، الإذعان بوصفه ظاهرة اجتماعية، وليس سلوكًا فرديًا فقط. ويرجع وجوده إلى طبيعة المجتمعات والعلاقات السائدة بين أفرادها، وتنوع ثقافتها وطرق وأساليب عيشها، والتي تلعب دورًا في تحديد وجهاته وأشكاله ودرجاته أيضًا، حيث تظهر حالات أو ظواهر أو وقائع يُذعن لها الإنسان، لأسباب تتعلق بضعفه في مواجهتها، نتيجة ضعف في قوته النفسية أو الجسدية أو الثقافية.
تتحدد أشكال الإذعان في هذا الكتاب بالإذعان القهري للواقع، والإذعان للعادات والتقاليد، وللمخترعات الحديثة، للبطولات الشعبية، وإذعان التصاغر والمحاباة والمسايرة، والإذعان للطبيعة، للطبقات المتناحرة، وللتقاليد، والقبيلة، والحزب وسواه. ويمكن التمييز بين إذعان سلبي وإذعان إيجابي. كما يمكن الحديث عن الإذعان الاجتماعي الذي يشمل الإذعان لعلاقات القرابة، وإذعان البسطاء لأخبار الجن والأحداث الغريبة أو كل خبر بدون تحليل أو تفكير. وهناك الإذعان للحاجات الجسدية، كالجوع، والعطش، والمرض، وإذعان الخدم والعبيد للأسياد، وإذعان المحب لحبيبته حسبما عكسه الشعر العذري.
منذ البداية يلاحظ عدم قدرة المؤلف على ضبط المفهوم، الأمر الذي جعله سائبًا ومختلطًا، ويمكنه أن يطاول كل شيء، ليصل إلى ثقافة الترادف والتقليد، وتربية الأطفال بطرق تؤكد الإذعان وتنميه، وإذعان الزوجة للزوج أو العكس، والإذعان للتخلف ومعاداة كل جديد، والإذعان للسوق والتسوق، وحتى إذعان الفلسفة العربية للفلسفة اليونانية عبر الترجمة، والإذعان لعمود الشعر، والإذعان للعلم ونظرياته. وفي كل هذا محاولة لقول كل شيء عبر حشر الظواهر والمقولات، إضافة إلى تعميم شديد يغيب في زحمته مفهوم الإذعان، وتغيب مركباته التي تكمن في الإخضاع والخوف من التبعات، وخاصة في حالة الإذعان السياسي الذي تعمل على نشرها السلطات القمعية، ويجري التهرب منها إلى الحديث عن الإذعان للعواطف الراقية والخيال الجميل والتعبير، والإذعان للمصطلحات الثقافية الغربية، والإذعان العقدي الذي يجري تناوله من جهة كونه إيجابيًا، عندما يكون الإيمان بالإله صادقًا ينبع من الالتزام بالقيم الرفيعة، وسلبيًا حين يدفع بعض رجال الدين باتجاه تغذية الفتنة والتحريض على سفك الدماء والتخريب والتدمير. ولعل السؤال الذي يطرح على كل هذا الكم من الإذعانات يطاول مدى تطابق مفهوم الإذعان مع كل منها، والذي يحدد الإذعان بالتصرّف الإكراهي وفقًا لإرادة الآخر، أي إن المُذعن يبدو عديم الحيلة حين يتصرف. هل ينطبق ذلك على الإذعان لعمود الشعر مثلًا أو الإذعان للمُحب، أو الإذعانات الفكرية؟
كان الأجدى عدم التعميم الشديد، والبحث في مركبات ثقافة الإذعان، وتحليل أسباب طاعة المُذعن أو بالأحرى خضوعه، وعما إذا كان باستطاعته فعل شيء آخر، فهو شخص قليل القوة وقليل الاقتدار، ويطيع لأنه لا يستطيع العصيان، الذي تقف وراءه عبثية القمع التي تمارس العنف الأعمى، بالإضافة إلى اختلالات علاقات القوة.
لا يستوي الحفر في طبقات الإذعان مع الحديث العام عن كل أشكال الإذعان، بدءًا من الشكل السياسي، ومرورًا بالإذعان للعادات والتقاليد، ووصولًا إلى الإذعان للموروث الديني والمقدس، وبينهما تكمن أشكال أخرى من الإذعانات كالإذعان لعلاقات القرابة، وإذعانات البسطاء للأخبار وللشائعات الملفقة، وإذعان الحب، وإذعان الخدم والعبيد لسادتهم في المجتمعات الإقطاعية. وكل هذه التمظهرات للإذعان يجري فقط ذكرها من دون الغوص في تحليلها والنظر فيها. ويمكن النظر هنا في إذعان العبد للسيد، الذي جرى التعامل وفقه مع العبد بوصفه ذلك الشخص الذي يملكه شخص آخر، وكأنه سلعة حيّة، تنحصر وظيفتها الوحيدة في تنفيذ الأوامر الصادرة عن السيد. إذًا، العبد شخص لا يمتلك نفسه، وكل ما يملكه من جسد، وحركات، وقدرات، وحتى حياته هي ملك سيده. ويغدو أداة أو آلة في يد غيره، يمكن تداولها في أسواق البيع والشراء مثل أي سلعة أخرى. ومن يشتريه يمتلكه من جديد، ويتوجب عليه الإذعان لأوامره، بوصفه السيد الذي بإمكانه استخدامه بالطريقة التي تحلو له، فالعبد هو الشخص المُذعن الذي لا يملك نفسه، ويتوجب عليه اتباع الأوامر وتنفيذها بدون مبادرة منه. وقد اتخذت العبودية أشكالًا متنوعة مع الأنظمة السياسية، حيث تسعى هذه الأنظمة إلى استعباد الشعوب عبر إخضاعها لسطوتها كي تُذعن لها ومسلوبة الحرية.
عند تحليل الإذعانات لا بد من ملاحظة تنوع المجتمعات وثقافاتها وأعرافها وعاداتها، وما طرأ عليها من تغيرات عبر العصور. وعادة ما تلجأ الأنظمة القمعية إلى تهميش الثقافة، كي لا تُنتج عقولًا تتجلى بروح النقد، وتطرح تساؤلات تدعو للتفكير المتجاوز للحالة القطيعية، وتجتهد في البحث عن فرص لحياة أفضل، وتصوغ وعيًا يجعل الكائنات الإنسانيّة قادرة على الدفاع عن نفسها أكثر، كي تستمتع بالحياة بشكل أكبر، وبما ينهي معاناتها، وتقطع الطريق أمام مختلف أشكال ثقافة الإذعان، التي تحاول السلطات المهيمنة بثّها عبر مختلف الحلقات والمفاصل الاجتماعية، التي تبدأ من مقاعد الدراسة في المدارس والجامعات، وصولًا إلى مختلف تعيّنات المجال العمومي، والمؤسسات الثقافية، الحكومية منها والمدنية.
يظهر وفق منطق التعميم أن الدولة يُذعن لها، سلبًا وإيجابًا، وذلك باختلاف نظامها السياسي إن كان ديكتاتوريًا أم ديمقراطيًا، فكل منهما له آلياته، وفي كلا الحالتين يبرز السؤال: من يخضع لمن؟ الشعب للسلطة، أو السلطة للشعب، كيف ومتى؟ فالإخضاع لا يضغط الذات فحسب، بل يشكل الذات، حسبما يقول ميشيل فوكو. ويبرز سؤال المشروعية التي تقوم عليها السلطات وتجدها مبررًا لها، فهناك المشروعية التقليدية بحكم التاريخ والعادات، والشرعية الكاريزمية، التي تستند إلى قوة شخص معين يكون قادرًا ومقبولًا ورمزًا وطنيًا، والشرعية القانونية عبر الدساتير والقوانين والأنظمة الوطنية. وإن كان الاستبداد ليس أمرًا طارئًا على العصر الحديث وشعوبه، فإنه لا ينبغي تعميمه والقول إن أغلب شعوب البشرية نشأت عليه، فهو ليس نموذجًا يُحتذى أو حالة عامة، وتشهد على ذلك مجتمعات كثيرة، خاصة أوروبا المعاصرة، حيث انتشرت الديمقراطيات. كما أن الاستبداد السياسي ليس مثاله كيم إيل سونغ، فهناك عدد كبير من المستبدين في عصرنا الراهن، ولعل أبرزهم حافظ الأسد وابنه بشار؟ طبعًا يمكن تفهّم عدم إشارة المؤلف إليهما، والهرب للحديث عن العرب والإذعان، للزعم بأن الإذعان يشكل ما هو مشترك في المصالح والمبادئ للعرب في العصر الحديث، والذهاب إلى التفريق بين "إذعان دول النفط ودول اللا نفط، حيث يختلف الإذعان سواء للغنى أو للفقر، كذلك بين من يدعم الإرهاب، وبين من يحارب الإرهاب"، واعتبار سورية (ممثلة بنظام الأسد البائد) هي "من يحارب الإرهاب". وهنا يجري إقحام سياسي لا معنى له ولا مبرر، سوى إذعان المؤلف للخوف المعمم في سورية قبل سقوط نظام الأسد، وربما تنطّع المؤلف للدفاع عن نظام يواليه.