في مجموعة شعرية جديدة تذهب اللبنانية رنيم ضاهر لانتقاء اللقطة باعتبارها حيزًا للمعنى والمشهد معًا في لغة تجانب التركيب وتختار البسيط الواضح وإن جاء – غالبًا – وضوحًا له مذاق السوريالية وبعض ملامحها وحتى وقعها في روح القارئ ووعيه.
رنيم ضاهر في "وقت إضافي يصل فجأة" (منشورات دار النهضة العربية – بيروت – 2025) تقترح فضاءً مختلفًا يؤثث معمارًا شعريًا تقع مفرداته وحجارته في مساحة الإحساس بالمتخيل على نحو يرى علاقته بالواقع، ويتبع حضوره في الراهن باستحضار صور شعرية منسوجة من حدقة قلقة ترى وتتتبع ما تراه لا في حضوره وحسب ولكن في تحولاته التي نراها تغادر سكونها على عجل وتقترح صورتها شبه النهائية: "تمثالك تثاءب من شدة الظهور/ ولأنني لا أجيد الهرب/ بكعب عال وتنورة ضيقة، التهمك البئر قبلي".
لا لغة هنا تتوغل في المعنى لاستجلاء فضاء غامض، بل مشهد يبدو خاطفًا وإن يكن واضحًا بحضوره اللامع كالبرق، وعلى القصيدة أن تلتقطه بفطنة الصورة واشتعالات الرسم معًا. هي لغة تتبع مشهدها أو لنقل سرد يجتهد أن يرسم حدثه الذي يجول في الخاطر والمخيلة، وسنرى هذا وذاك يكتملان بحضور أسماء رجال ونساء، حضور شخصيات من الثقافة والفكر كما من عالم السياسة ويعيدان رسمهما من جديد بكيفية تمنحهما حضورًا يؤهلهما أن ينوبوا عنا، أو بالأدق عن الشاعرة ذاتها في رحلات تجوالها البصري في ذاكرتها التي تزدحم فيها كل تلك الأسماء والشخصيات.
"وقت إضافي يصل فجأة" قصائد التأمل في اللقطة الوحيدة، المفردة، والحاسرة من أية تداعيات إضافية لأنها لقطة تختصر إذ تضيء كبرق شاشة القصيدة وتمنحها خطوطها وملامحها في سياقات هادئة لا عصف فيها بل هي تترك العصف كله في خلفية تلك المشاهد الشعرية:"هل تذكر تلك "العمياء"/ كيف انتحرت/ برمي ظلها من أعلى/ بعد وهب جناحيها/ لحاويات المدينة المتنكرة/ بالملاءات السوداء؟".
في البنائية الشعرية هنا لا مكان واقعيًا لحقيقة ثابتة أو شبه ثابتة، فنحن في الحالات كلها نرقب فضاءً تسكنه لغة تتجاور مع صورها ورسومها، وتؤثث ردهات القصيدة وأفياءها بما تملك المخيلة من رغبات في تشييد مسرح شعري بحجارة القلق، وتناغم فوضى التناقضات وتآلفها على نحو يضعنا كل مرة في مواجهة جموح المشهد ولكن بالقليل القليل من المفاجأة، إذ تحافظ بنائيات القصائد – غالبًا – على الهدوء ذاته، مثلما تحافظ على "حيادية" الكلمات التي تبدو في كثير من الحالات نقلاً أمينًا لشغب المخيلة: "أغنية تتسلق ظهر أحدب/ تفتن مرآة آثمة/ غيمة تمسح الزمن عن المسرح/ بثديها التاسع/ تترك الستائر مساحات/ لأجساد تائهة".
في هذه المجموعة رهان على فضاء شعري مختلف يقترب من مغامرة فيها الكثير من الرغبة في تكوين رؤى أخرى لها فطنة المغامرة وشجاعتها مثلما لها جرأة تجاوز المألوف أو لنقل تجاوز تكرار المألوف ورتابته للذهاب إلى عوالم شعرية لها بكارة المعنى والرسم معًا، ولعل هذا الولع الحميم بالتوغل في غوايات المخيلة هو ما يمنح القصائد هنا رونقها المختلف، وحضورها الذي يخالف مألوف قصيدة النثر اللبنانية خصوصًا والعربية عمومًا، فرنيم تقترح في قصائدها تخومًا أخرى فيها الكثير من الجدة كما فيها سلاسة "السرد" الذي يقارب البنائية الدرامية ويستفيد من تقنياتها وطرائقها على نحو يعيد تشكيل القصيدة وحضورها. نعني هنا بالذات الصور والمشاهد، المعاني والأسماء وكل ما يتصل بما نعرف وما يسكن ذاكرتنا.
"وقت إضافي يصل فجأة" قراءة شعرية للواقع والحياة في تشابكهما وفي عصف اشتباكهما معًا، ويلفت النظر فيها هذا الاستحضار الحي لرموز وأسماء شخصيات لرجال ونساء يشكلون وعي القارئ ومخيلته من هذا الزمن الإنساني أو ذاك، وهو استحضار يأتي معه بمشاهد وحالات تستعيدها الشاعرة وتستنطقها بحالات الراهن كما بإحساسها الشخصي، الفردي، والذي يعيش الشعر ويذهب إليه ليلتقيه في تراث الثقافة الإنسانية وميراثها الغني والكبير الذي يظل ذاكرتنا ومثالنا الحاضر: "سرت معه على الماء/ على الرغم من الطين/ الذي قد يتحلل في أية لحظة/ أهديت رياح الخماسين/ هشاشتي/ لتخلصني من ثرثرة/ تعيق حركة الأسماك من تحتي".
تبدو اللغة خفيفة عالية الحضور إذ تلتقط صورة من هنا وصورة من هناك وتعيد تأليفهما معًا في سياقات شعرية تمنح قصائد المجموعة حضورها الحي بما فيها من برق اللغة وبرق الصور الخاطف والنابض بوهج الشعر وحيويته والمشتعل برهافة المعنى على نحو يمنح هذه المجموعة الشعرية نبضًا حقيقيًا وحضورًا جميلاً يقترب من الحياة دون أن يرسمها تمامًا ويبتعد عنها دون أن يفك ارتباطه العميق بها، بل هو في الحالات كلها يعيد السرد ليشمل الأشياء كلها والمعاني كلها.