في كتاب صدر مؤخرًا عن دار التكوين للترجمة والنشر في دمشق، يترجم الشاعر والمترجم السوري المقيم في اليابان، محمد عُضيمة، ويقدم، لمختارات من الهايكو الياباني لكاتبها الأصل، إيسّا ـ كوباياشي، حملت عنوان: "بريد الهايكو الياباني".
يفتتح الكتاب بمقدمة تعرِّف بتاريخ الشعر الياباني، حيث مرت عشرة قرون على صيغ وأشكال عدة، فمن الأغنية ذات المقطع الواحد، كاتا أوتا، إلى القصيدة اليابانية، واكا، التي ستحل محلها في العصور اللاحقة القصيدة القصيرة، تانكا، وهما شيء واحد، ومن الواكا إلى القصيدة المتسلسلة/ المترابطة، الرينغا، ثم من الهايكاي إلى الهايكو، كما نعرفه اليوم.
ثم تتبع المقدمة تفاصيل حول كوباياشي- إيسّا (المولود في عام 1763) وعائلته ومسيرة حياته، وظهور أول قصيدة باسمه المستعار "إيسّا"، وملامح من شخصيته الفوضوية، وقصة خروج كتابه هذا إلى النور.
ويقارن المترجم بين فروق ترجمة الهايكو بين اللغتين الإنكليزية والفرنسية، ومن ثم النقل إلى العربية، والجهود التي بذلها هو في سبيل ذلك.
أما القسم الأكبر من الكتاب فيتسع لمختارات من الهايكو للياباني الشهير كوباياشي.
ومما يذكره إيسّا أن أول ظهور لكلمة هايكاي يعود إلى بداية القرن العاشر الميلادي (905)، حيث وردت في مختارات "كوكين واكا شو" (ديوان أشعار الأمس والآن). وهي تشير إلى حوالي ستين قصيدة ذات طابع فكاهي وساخر. وكانت في حينها نوعًا من الاستراحة للشعراء بعد ساعات من العمل المضني على نظم قصائد حول مواضيع جدية، كالموت، والفراق، والحب، والطبيعة.
ويلفت إيسّا الانتباه إلى أن أشكالًا شعرية عدة مثل التانكا (القصيدة القصيرة)، أو تشوكا (القصيدة الطويلة)، أو سيدوكا (القصيدة المدورة)، تنطوي بشكل أو بآخر تحت المفهوم الواسع للواكا (القصيدة اليابانية). ولذلك، فإن الحديث عن انتشار الواكا منذ القرن الثامن هو حديث عن سيطرة هذه الأشكال المكتوبة باللغة اليابانية، أي الـ"ياماتو"، مقابل الكانشي، أي الشعر المكتوب باللغة الصينية.
وفي سياق حديثه عن قصيدة الهايكو، عمومًا، يؤكد كوباياشي أنه (يميل إلى تذكير لفظة هايكو). أما الواكا فهي في الأساس قصيدة فردية، أي يكتبها شاعر واحد أثناء مباراة شعرية، وهي مؤلفة من واحد وثلاثين مقطعًا صوتيًا. ثم تطورت وراح يلتقي فيها شاعران اثنان للتجاذب الشعري، ثم تطور الأمر حين صار يلتقي أكثر من شاعر لوضع قصائد متسلسلة، رينغا، تترابط فيما بينها دلاليًا بشكل أو بآخر، وتحافظ على قواعد الواكا الصوتية. وغالبًا ما يكون النظم ارتجاليًا يقوم على المهارة وردة الفعل السريعة والذكية. وهي بهذا أشبه ما تكون بالزجل الشعبي المعروف في بلاد الشام.
وشهدت قصيدة الرينغا ازدهارًا واسعًا في البلاط الإمبراطوري خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر، قبل أن تصبح شعبية وواحدًا من الأشكال الشعرية الأساسية في القرنين الثالث والرابع عشر، غير أنها، كأي فن آخر، تراجعت وأمست أسيرة قواعدها الكثيرة المعقدة، والصارمة.
وغير بعيد، يفيد كوباياشي، أن الهايكاي نفسها وصلت حوالي نهاية القرن السابع عشر إلى استنفاد نفسها، والوقوع في فوضى الحرية والتخبط، والسوقية (على حد تعبيره)، إلى حد أن نيشي ياما ـ سوئين تخلى عنها، وعاد إلى الرينغا التقليدية.
ووصولًا إلى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، ونتيجة لوقوعها في مطب الشعبوية والسوقية، واجهت الهايكاي معارضة شديدة، ما دفعها إلى العودة من جديد إلى قوانين وقواعد باشو.
عندما يعجز المترجم
من ناحيته، يعترف المترجم عُضيمة بما أسماه "شعور المترجم بمرارة العجز عن نقل كل شيء"، وتزداد هذه المرارة أكثر عند الترجمة عن اليابانية، أو الصينية، مثالًا، حيث تنتمي الدلالات إلى حقول معرفية بعيدة من الثقافة التوحيدية والفلسفة اليونانية اللتين تشكلان طريقة تفكيرنا وفهمنا للوجود.
ويستدرك عُضيمة أنه بعد ترجمته ونشره لكتاب "الهايكو الياباني"، وأعمال الشاعر تاكوبوكو الكاملة، بالتعاون مع المستعرب كوتا ـ كاريا، وبعد ترجمته ونشره أيضًا لكتاب "البابا الطائر في السماء" (هايكو معاصر)، بالتعاون مع صاحب الكتاب نفسه الشاعر بانيا ـ ناتسوإيشي، عادت به الذاكرة إلى كتاب المختارات "في قرية البؤساء" للمترجم الفرنسي جان تشولي (تضمن 800 هايكو للشاعر إيسّا ـ كوباياشي مترجمة عن اليابانية)، وهنا تحديدًا يستعيد عُضيمة العلاقة الخفية التي نشأت بين شاعرها إيسّا وبينه: "يكفي أن تقرأ له مجموعة قصائد هايكو حتى تتعلق به، ولا تكف عن ملاحقته، وإعادة قراءته".
ويعتقد عُضيمة أننا، في فضاء اللغة العربية، كانت وما زالت مقاربتنا لليابان والثقافة اليابانية، ترجمةً لـ... أو كلامًا على... أو حديثًا حول...، من خلال اللغتين الفرنسية والإنكليزية بالدرجة الأولى. غير أنه يدلي بشهادة من واقع احتكاكه المباشر بالثقافة اليابانية، يذهب فيها إلى القول إن ذلك أتاح له هامشًا كبيرًا من الاستغناء عن التصورات العربية لليابان وثقافاتها، للهايكو والتانكا.
وفي سياق متصل، يشدد على أن هنالك ولا شك فوارق، كبيرة، أو صغيرة، كثيرة، أو قليلة، بين الترجمة عن لغة ثانية، وبين الترجمة عن اللغة الأم، أو الاحتكاك بها وبناسها، فلكل لغة منطقها الخاص في تقديم العالم وأشيائه، والفوارق لا تعني، في هذه الحالة التفاضل، بل هي فوارق وليست أكثر، وهي وجهات نظر في الترجمة وفهم النص، هي اختلافات متأنية في طبيعة كل لغة.
ولكي يصل إلى أقرب صيغة ترجمية ممكنة، يتثبت عُضيمة من الفروق عندما يُترجَم هايكو عن الفرنسية، أو عن الإنكليزية، بعد أن سبقت الترجمة عن اليابانية مباشرة إلى الفرنسية والإنكليزية. وهنا يخلص إلى القول، إن من يترجم عن الإنكليزية، سيرى الهايكو بمنظار اللغة الإنكليزية، ومن يترجم عن الفرنسية، أو غيرها، سيرى الهايكو بمنظار اللغة الفرنسية، أو غيرها، وسيكون هنالك مناخان من الهايكو. ويأتي بأمثلة لتأكيد ما يذهب إليه، من خلال استعانته ببعض أصدقائه الشعراء، ممن لديهم خلفية معرفية بالهايكو، للتثبت من قصائد منقولة من اليابانية إلى الفرنسية والإنكليزية، مدفوعًا بفضول معرفة ماذا يبقى من النص الأصلي، ماذا ينتقل، وماذا لا ينتقل، "وهي فكرة لإرواء فضول ما لا أكثر، وليست لإثبات المثبت من أن الترجمة عن اللغة الأم أقرب وأسلم". غير أن ما يشدد عليه المترجم هو أن الاحتكاك البسيط والمباشر بهذه اللغة الأم (اليابانية)، (كما هي حاله هو نفسه كشاعر ومترجم عربي مقيم في اليابان منذ مدة كافية، حيث أضحى قريبًا من لغة الأمة اليابانية أكثر وأفضل مما لو كان يترجم هايكو وهو بعيد عن هذا البلد، ولا يتحدث إلى ناسه وشعرائه عن قرب ومعايشة)؛ سيوسع مجال الخيارات، وسيصنع فارقًا بشكل أو بآخر: وهي فكرة قابلة للتطبيق أكثر في إطار نص قصير كالهايكو.
ولا بد أنها كانت مهمة ترجمية غير سهلة للغاية، ومحفوفة بمزالق وتباينات لولا مضاعفة الجهد البحثي وإعمال المقارنة، وبالتالي الجهد الترجمي المباشر عن اليابانية. وقبل ذلك القراءة المتأنية والمتأملة لآلاف مقاطع الهايكو التي كتبها إيسّا، والتي من بينها، تم اختيار ما يقرب من ألف وخمسمائة قصيدة هايكو، تضمنها كتاب عُضيمة هذا، وهي "ما يمكن أن يصل إلى ذهن القارئ العربي"، لا سيما القارئ المعني بالهايكو، وما لا يحتاج إلى هوامش بالنسبة للقارئ غير الياباني. لأن هناك قصائد هايكو جميلة، لكنها ذات مرجعية محلية، دينية أو تاريخية، ولن تُفهم قيمتها إلا بفهم تلك المرجعية.
وينشغل عُضيمة كثيرًا بالقراءة والبحث والتمحيص والمفاضلة، ومن ثم الاستعانة بأصدقاء شعراء، في سبيل كشف الفروق بين أن يُترجَم هايكو إلى الفرنسية، أو إلى الإنكليزية. وهنا يلاحظ عُضيمة أنه إذا كان "النصان"، الفرنسي والإنكليزي، يحترمان التسلسل الزمني لكتابة القصائد، الوارد في الأصل الياباني، بحيث يمكن التعرف إلى تطور إيسّا الشعري من سنة إلى أخرى، ويحترمان كلّ حسب إمكانياته، تسلسل كلمات قصيدة الهايكو باليابانية، فإنهما يختلفان في أشياء كثيرة: منها مثلًا أن الترجمة الفرنسية، الأسبق زمنيًا، هي أكثر التصاقًا بالنص الياباني وبنيته النحوية إلى حد التقعير والإبهام، كحذف الفاعل والتعرف عليه من خلال تصريف الفعل المستخدم، الأمر الذي يجعل الفرنسية غير واضحة دائمًا. ويستدرك عُضيمة، هنا تحديدًا، أنه لم ينتبه إلى هذه الطريقة في إخفاء الفاعل إلا بعد أن قطع مسافة لا بأس بها في ترجمة النصوص. كما أنه لم يقع على ترجمة فرنسية للهايكو تشبه هذه الترجمة التي بين يديه. فأغلب الترجمات التي يعرفها تعتمد إظهار الفاعل، الملتبس أصلًا بسبب طبيعة اللغة اليابانية، وتتسم بكثير من الحرية، ولكن ليس على حساب النص الأم. كما أن المترجم الفرنسي، وفقًا لعُضيمة، لم يشر إلى أية مراجع مساعدة له في إنجاز الترجمة، سواء كانوا أشخاصًا، أو ترجمات سابقة. ولكن كان على المترجم الفرنسي أن يقدم للقارئ بعض الأسباب التي دعته إلى اعتماد هذه الطريقة في الترجمة وتحويل الفرنسية إلى ما يشبه أحجية: فرنسية في الحد الأدنى من استخدام الضمائر، تقديم وتأخير غير واضحين في ترتيب المفردات. إنها (وما يزال التعقيب هنا لعُضيمة) ولا شك طريقة ممكنة لمقاربة نص الهايكو بنيويًا، واقتراح ليس مستحيلًا في اللغة الفرنسية، لكن على حساب الجانب الجمالي، كما يشير المترجم نفسه (أي الفرنسي) بعبارة واضحة إلى هذا مفضلًا الترجمة الأمينة على الترجمة الجميلة. وهو الأمر الذي لا يتفق معه محمد عُضيمة، إذ يرى العكس من ذلك تمامًا.
ومقابل ذلك، يكتشف عُضيمة أن المترجم الإنكليزي يكاد يعود في ترجمة كل هايكو إلى ما سبقه من ترجمات، إنكليزية، فرنسية، إسبانية، إيطالية، وإلى الشروحات الواردة في كتب بعض الدارسين. وإضافة إلى القواميس: ياباني ـ ياباني، وياباني ـ إنكليزي، فإنه يعتمد على شريك ياباني في كل خطوة يخطوها، كما لو أنه يريد ألا يُخطئ في الترجمة، أو أن يصل إلى أفضل ما يمكن باللغة الإنكليزية. وكلما يحتاج إلى هامش، يضعه مفصلًا إلى جوار الترجمة مباشرةً.
ويؤكد، أيضًا، أن القارئ المهتم بالهايكو، وترجمته إلى العربية، سيلاحظ من خلال الأمثلة والمقارنات التي تضمنها الكتاب الذي بين أيدينا كم يغيب وكم يحضر من النص الأم. ويمكن للمقارنة أن تتناول الهايكو الواحد في أكثر من ثلاث أو أربع لغات ــ لأن أغلب أعلام الهايكو الياباني مترجمون إلى أغلب لغات العالم ــ، وسوف نصل إلى نتائج متشابهة: اختلافات بالجملة والتفاصيل، كبيرة، أو صغيرة، تعود إلى طريقة فهم الهايكو وثقافته، بحيث لو أعدنا ترجمة هذه القصائد من جميع اللغات إلى لغتها الأم لكانت لدينا نصوص جديدة، مختلفة ومدهشة تمامًا قد لا تكون لها علاقة بمنطق وثقافة اللغة الأصلية، وبالتالي بالهايكو نفسه. وهذا لا يعني أن الترجمات خطأ، بل هي وجهات نظر، هي مقاربات لهذا الفن، هي نصوص أخرى لها جماليتها الخاصة في لغتها، هي نتاج تلاقح مع لغة وثقافة أخريين.
وشخصيًا، وعلى صعيد الشعر، يؤكد عُضيمة، أنه ليس مع الترجمة الأمينة على حساب الجميلة، لأننا (في رأيه) نقع في بعض الأحيان على نص جميل في لغته، ومن المؤسف ألا نترجمه. لكن ترجمته كما هو ستكون تشويهًا له، لذلك إما أن نتركه، أو أن نتخذه حجة، أي نستلهمه، نهتدي به، لكتابة نص آخر في مستواه، ومن المناخ نفسه.
وهذا ما يقودنا إلى سؤال عما كانت عليه خيارات عُضيمة ليقدم لنا كتابًا يتضمن المئات من قصيدة الهايكو التي أبدعها إيسّا؟... "لقد كانت أمامه خيارات لغوية أوسع مما لو كان يعمل على لغة واحدة، الأمر الذي حاول انتهازه للوصول إلى أفضل ما رآه ممكنًا"، يفيد عُضيمة، مراهنًا على أنه وصل إلى نصوص قريبة كثيرًا من روح النص الياباني، وبالتحديد من روح إيسّا، وأقرب بكثير مما لو كان يُترجم عن الفرنسية، أو الإنكليزية، ولا يزعم ـ في الوقت نفسه ـ أنه لم يستفد من النصين الفرنسي والإنكليزي، بل هما اللذان شجّعاه على خوض المغامرة بهذه المتعة الواضحة في مقارنة الترجمات: متعة أن تقف، إزاء نص قصير كالهايكو، أمام هذه الفوارق/ الفروق بين ثلاث لغات وأنت تعمل على فارقك الخاص في لغة رابعة هي العربية. فعندما تنطلق من اليابانية تأتيك مفردات وصيغة للترجمة، وعندما تنطلق من الفرنسية تأتيك مفردات وصيغة مختلفة للمشهد نفسه، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإنكليزية.