}
عروض

"الشعر العربي الحديث: القصيدة العصريّة": في تفتّح قصيدة الحداثة

محمود شريح

4 يونيو 2025


د. شربل داغر في جديده الصادر في بيروت عن مُنتدى المعارف "الشعر العربي الحديث: القصيدة العصريّة"، في 608 صفحات، ينطلقُ من ثابتيْن: أوّلهما هو أنّ الحداثة وافدةٌ من مُعطى أوروبي، مصدره فرنسي، وثانيهما هو أنّ الحداثة باتتْ حجرَ الزاوية الفلسفي الذي يحدّدُ في الغرب المدوّنة الفلسفيّة، فيمسي طلبُ التناسب بين الذّات والتاريخ معيارَ النظر والتفلسف، فيرى الباحث أن درسَ حال الحداثة في الثقافة العربيّة يتّسم بأنّها لم تصدر عربيًّا، إذ لم يرافقها تعبير فلسفيّ، وهذا ما أفصحَ عنه بادىء ذي بدء إبراهيم اليازجي ومحمد رشيد رضا مطلعَ القرن العشرين، ويرى أنّه من اللافت وعلى سبيل المثال كيف قَطعَ أدونيس سلفًا مع الزمنيّة والعابر منذ مقالته النقديّة الأولى في مجلّة شعر (صيف 1959): "محاولة في تعريف الشعر الحديث"، على الرغم من تأثّره الجليّ بأفكار بودلير خصوصًا، فيرى داغر أنّ ذلك يندرج تحت خانة (التبيئة) وأنّه من الطريف اللافت أيضًا، في السنوات عينها، عند ترجمة قصائد لإليوت في شعر، أنّ عددًا من الشعراء والنقّاد العرب "استغربوا" نزعة إليوت الملكيّة المحافظة المعروفة: هل يعقل أن يكون "حديثًا" من هو "ملكي" في قناعاته!؟ وقد عُدَّ هذا الأمر بمثابة مفارقة أو طرفة ليس إلا، هي من المعين الطبيعي لغرابات "الحداثة" نفسها. فقد كان يصعب عليهم، من دون شك، الفصل بين "الحداثة الحاليّة" و"الحداثة الطليعيّة"، بسبب انهماك غير واحد منهم في النضال الحزبي المباشر، وفي حقل أيديولوجي كان يُعيِّن المثقّف (مثل "الضّابط الحرّ" في التجربة الناصريّة، أو المناضل "الطّليعي" في أدبيّات البعث، أو المثقّف التقدّمي "المنحاز" إلى قضيّة الطبقة العاملة في أدبيّات الشيوعيّة العربيّة، أو "الرّائد" في أدبيّات القوميين السّوريين) بوصفه "قيدوم" الجماعة، أو ضميرها الجمعي. المثال الآخر عن هذه "التبيئة": تنظر الأسطورة الرومانسية إلى الكاتب على أنّه "الرائي" (كما عند رامبو)، أو "العبقري الخارق"، وقد أخذتْ بها الأدبيّات العربية، وعزّزتها ووجدت مرتعًا خصبًا لها، بل أصبحت بابَ تحدٍ وتمايز عن السّلطة العربيّة، في بعدَيها الكتابي والمرجعي. ويمكن أن نجدَ هذا الأنموذج في صُوَر عديدة روَّج لها بدر شاكر السّياب وغيره، ولا سيّما مجموعة "الشعراء التّموزيّين" (الخال، أدونيس، حاوي، جبرا، السّياب)، وهي صُوَر "الرائي" و"العرّاف". 

لكنّ د. داغر لا يقف موقف الدّارس فحسب، بل إنّه يتقصّى جذور الحداثة العربيّة ليوجّه إليها النّقد باللكمات ليصل إلى مداها الممكن، فيرى أنّ الحديث عن "الحداثة" (أو "الحديث")، والتمسّك بها، مثل إطار ناظم لتعيين مجريات التاريخ والمجتمع والأدب وغيرها، لا يعدو كونه، في أحيان، تهرّبًا من البحث، أو تلطّيًا وراء شعارات جذّابة. وقد لا يكون، في أحيان أخرى، سوى استقراض لمفاهيم، لها مصداقيّة راجحة في بيئاتها المنتجة لها، فيتمُّ استحضارها وإسقاطها على بيئات أخرى، بحجّة "العالميّة النظريّة المتّسقة" (أي أنّ للعالم تاريخًا واحدًا ولازمًا)، أو بحجّة "العالميّة النظريّة المتّسقة" (أي أنّ للنظريّة قانونها المُلزم لتجارب العالم كلّها). ولقد أبانتْ مراجعة المدونة عن "الحداثة" (أو "الحديث") أنّها ليست سوى "خطاب عن..."، ولا ترقى إلى أن تكون "خطابًا في ..."؛ أي إنّها خطاب صادر عن نزعة تثاقفيّة، تهدف إلى الانفتاح والتواصل والتشبّه؛ وتستند إلى القراءة، لا إلى المعاينات والمكابدات والإحصائيات والخلاصات، المتبلورة عن إشغال الفكر في مسائله، أي في الحراك التاريخي بأوجهه المختلفة. هكذا ما اختلف خطاب "الحداثيين" اليوم عن خطاب "النهضويين"  بالأمس؛ أي إنه خطاب تعريفي وتبشيري في آن. فيما يرى د. شربل داغر في مقولة سليمان البستاني في تعريف الشعر موقفًا حداثويًا، إذ يتوقّف سليمان البستاني في مادّة "الشّعر"، التي قام بكتابتها لـ "دائرة المعارف" بإدارة بطرس البستاني، في عام 1898، باستعراض الشّعر من نواحٍ مختلفة، منها تعريفه وتاريخه وأسس بنائه وغيرها، وفق منظور تاريخي وفنّي مستجدّ، على ما يمكن التحقّق. فالبستاني لا يقرّ، بداية، بما كان قد راج في كتابات عربيّة قديمة حول "أقدميّة" الشعر العربي، وعن أن آدم كتب شعرًا بالعربية (وهو رثاء ابنه هابيل القتيل)، ما اعتبره من "الخرافات": "قيل فهذه أوّل أشعار قيلت في الأرض، وما ذلك إلّا خرافة"، بل ينصرف البستاني، في مجمل المادّة، إلى ما هو أبعد مرمى من هذا التصويب، وهو إدراج الشّعر العربي مع أشعار العبرانيين واليونان والفرس والأتراك وغيرهم، ومع شعر الإفرنج المتأخّر، مثل الفرنسي والألماني والإنكليزي والإسباني. ويستعرض، لهذا الغرض، أحوال شعر الإفرنج المتأخّرة، فيتحدّث عن أنّ "السائد في إنكلترا الشّعر الوصفي والدّيني والفلسفي، وفي فرنسا التشكيكي والمادّي، وفي ألمانيا الحلولي".

 


ومن هذا المنطلق يشير د. داغر إلى أنّ أيّ جهد تاريخي وفنّي في درس القصيدة العربيّة المتأخّرة، له أن ينتبهَ إلى التقطّعات، أو التباينات، بين تجربة وأخرى، وأحيانًا بين شاعر وآخر، ما يجعل مهمّة كتابة تاريخ شعري واحد أو جامع إشكاليّة في حدّ ذاتها. لهذا فإنّ رسم الحدود بين التجارب والبيئات والشعراء لم يكن بالميسر، عدا عن أنّه يُظهر، كما ظهر في هذا الكتاب، وجود تداخلات بين الخطوط، بما يبلبلُ الحدودَ نفسَها أحيانًا. هذا ما بدا جليًّا في التجربة التونسية، بعد قابادو، والتي تبدو، بمعنى ما، تجديدًا يرتبط بـ "سابق" الشعر العصري، من جهة، ويتعاطى مع تجديدات "المهجريين"، من جهة ثانية. وهو ما يَظهر كذلك، ولكن في صورة مغايرة، في تجربة خليل مطران، إذ تحمل بداياته بعض ملامح الشّعر الذي سبق، وترسمُ بقوّة معالمَ الشّعرِ الذي يبدأ به.

في كتابه ها هنا يردّ د. داغر التغيّرات الحادثة في البنية الشعريّة العربيّة إلى اهتزاز مرجعيّة الشعر ومثاله وقيمه وتطبيقاته وإجراءاته، أي "عمود" الشّعر نفسه. تعيّن هذا في انتظام علاقة جديدة لمرجعيّة الشّعر جعلته يتعاطى ويتأثّر بغيره من مرجعيّات الشّعر (أي الأوروبي ثمّ الأميركي)، وإن بدا ذلك خفيفًا في هذا العهد الباكر في التجديد الشعري، إلّا أنّ تشكّل المرجعيّة من جديد ما كان ليصبح تأسيسًا مستجدًّا للشّعر وللقصيدة لولا أنّ مقدرتَه على التميُّز تتحدّد في قدرته على التنافس ضمن "القواعد المُقرّة" في هذا العمود، وهو ما بات يختلّ في تجارب "الشّعر العصريّ"، حيث يتحققّ الدّارس من أنّ الشّاعر بات "منشىءَ" القصيدة، ومحدِّدَ تغيّراتها، أنّ الشّعر بات في عهدة الشّاعر، لا في عهدة قواعد مُرتضاة ومفروضة في آن، ومسبوقة: يستوقف في كلام كثيرين من الشعراء "العصريين" كيف أنّهم يشدّدون على ما يرونه مناسبًا لكلّ واحد منهم، حيث القاعدة في الذائقة الجماليّة والفنّية باتت خاصّة بكلّ واحد منهم.

قام جهد هذا الكتاب إذًا على الاستعادة، بل على إظهارٍ جديدٍ لما كان أكيدًا في نظر شعراء ونقّاد وصحافيين وحكّام وقرّاء وغيرهم في زمنهم، وهو "الشّعر العصري"، في أكثر من بيئة عربيّة، ابتداءً من ستّينيّات القرن التاسع عشر، وهي استعادة لم تكن ممكنة إلّا بتجديد النّظر إلى هذا الحراك الشّعري، وبما يجمع مدوّنته المتفرّقة. كما عمل الدّرس على تسييق (من سياق) هذه العمليّات في حراك أشمل منها، بعد "التّنظيمات" العثمانيّة الإصلاحيّة، وبعد تجارب انفتاحيّة في بيروت والقاهرة وتونس وغيرها. إلّا أنّ هذا الكتاب لم يكن كتابًا في التّاريخ الشّعري، وإنّما العصري، تحديدًا مع "المهجريين" ومع جماعة "الديوان" ومع معروف الرّصافي، لكن هذا لا يصحّ في غيرهم بالضرورة، حيث بقي حراك الشّعر على حاله المعهودة، من دون أن يصيبَه أيّ اهتزاز أو تغيّر.

الكتابُ إذًا بحثٌ عن جذور القصيدة العربيّة الحديثة في تجاويف التراث وأخاديده، عن نشأتها على مدى قرنين من الزمان، أي أنّه حفرٌ أركيولوجي في تضاريس الشِّعر العربي بمنهج فينومينولوجي للكشف عن تنامي شكله ومضمونه وسبر أغواره النفسيّة بموازاة انبساطه الحضاري وتأثّره بالرافد الغربي والموروث المحلّي، كشفًا عن أدوات تفجّره الداخلي بالقياس إلى تطوّر بنيته من مرحلة الإتباعيّة إلى نهضته مع خليل مطران إلى انكساره مع السيّاب وأدونيس فتشظّيه مع حاوي وتوفيق صايغ، وإن كانت ملامح خيبته بدت واضحة مع الياس أبو شبكة، في ثلاثينيات القرن العشرين، وهم جميعًا، عدا أدونيس، جماعة الرؤية الجّحيمية في الشّعر الحديث.

جديد د. داغر بحث مرجعي استند إلى مصادر أوليّة على مدى قرنين من تفتّح قصيدة الحداثة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.