يُقال "لا دخول أدبي بدون إيميلي نوتومب" لأنها منذ نشرت أول كتاب لها وهي وفية لقرائها بكتاب كل عام. وهي روايات جميلة وخفيفة، بلغة يهضمها الجميع، بالرغم من كثافتها من خلال ما تطرحه من موضوعات.
رواية "المناطيد" نموذج من أدب إيميلي نوتومب Amélie Nothomb، صدرت طبعتها الفرنسية عام 2020، وها هو النص العربي بترجمة إنانة الصّالح يصدر مؤخرًا عن دار الرافدين، بغداد.
لن نفهم سريعًا لماذا اختارت نوتومب "المناطيد" (Les aérostats) لروايتها، إذ تترك لنا حريّة التأويل عند إنهاء قراءتها. لهذا تضعنا أمام حقيقة مهمة مختصرها أنّك إن لم تملك فضاءك الخاص بك فأنت لست حرًّا، من خلال تذكيرنا بمقولة فيرجينيا وولف الشهيرة: "لا شيء يوازي أهمية امتلاك غرفتك الخاصة". وهذا معطىً جيد وخطير لفهم خطّة بناء الرواية.
في مجتمعات مثل مجتمعاتنا كل الأمكنة فضاءات مشتركة، فلطالما كانت عملية الإنجاب سريعة الإيقاع عندنا ما جعلنا نحشر الذكور في غرفة، والإناث في غرفة إذا حالفنا الحظ وكنا من طبقة لديها مدخول كاف لتعيش بكرامتها. وفي أسوأ الحالات قد يُحصر الجميع في خيمة، وفي أفخمها على الإطلاق قد يتبعثرون في قصر غرفه مكشوفة ومستباحة للجميع.
بطلنا "بي" من هذا النوع، هو ابن أحد الأثرياء، يسرح ويمرح في بيت فخم ولديه غرفة خاصة، ولكنّه مراقب من طرف والده بشكل مبالغ فيه.
"بي" الذي يكره القراءة ويعشق الأسلحة والمناطيد والرياضيات، تدخل حياته "آنج"، طالبة شغوفة بفقه اللغة تبحث عن عمل كمدرسة للغة الفرنسية. بترتيب من والده تلتقي "آنج" بالمراهق ذي الستة عشر عامًا لمساعدته على تجاوز عقدة عسر القراءة للحصول على شهادة البكالوريا.
لترويض هذا المراهق المتمرد النّاقم على والديه وعلى كل شيء حوله، تستدرجه المعلّمة الصغيرة ذات التسعة عشر عامًا لعالم الكتب بطريقتها. البوّابة المُشرّعة أمامها كانت هواياته وميولاته، ومع هذا بدأت باقتراح رواية ستندال "الأحمر والأسود" كأول اختبار له في القراءة.
حوار طويل يجري بين "بي" و "آنج" يخلُص بنا إلى نتيجة مدهشة: "كل قراءة هي بصمة خاصة يتركها القارئ على النص" لا تشابه بين قراءة المراهق، والمعلّمة الصغيرة، لكن ذلك الخلاف يجرُّ كليهما إلى قراءة كتاب آخر وهو "الإلياذة" في تحدٍّ واضح بين الإثنين الغاية منه إثبات الذات، ليس فقط بالنسبة لـ "بي" بل لـ "آنج" أيضا، فهي طالبة لا يلحظ الطلاب وجودها، بدون أصدقاء، وغير مرئية تقريبًا بالنسبة لنفسها ولهذا تقضي معظم وقتها في قراءة الكتب أو حضور بعض الأفلام أحيانا في دور السينما.
يستهوي هوميروس مراهقنا، ويَحْلُل عقدة لسانه، يدخل في نقاش مع معلمته، وهنا تكمن براعة نوتومب في حبك حواراتها الطويلة غير المملة. نموذج ذلك نقرأه في الصفحتين 34 و35. وهي تختصر وجهًا آخر من أوجه قراءة "الإلياذة"، الذي لا أعتقد أن أحدًا تناوله في البرامج الجامعية.
لا شك في أن إيميلي نوتومب كاتبة ذكية، ومثقفة جدًا، وغريبة الأطوار في إطلالاتها الإعلامية، وهذا جزء من نجاحها الكبير. لقد تُرجمت هذه الرواية منذ صدورها عام 2020 إلى عشر لغات، فيما أدب نوتومب عمومًا يُقرأ اليوم بأربعين لغة حول العالم. ربما بسبب انتقائها الحسّاس لشخصياتها. وربما بسبب نهايات غير متوقعة مثل نهاية روايتها هذه.
نهاية صادمة، لا توافق التفاصيل الجميلة التي امتعتنا بها عن أبطال/ شخصيات الكتب التي خرجت من الكتب لتصبح شخصيات جوهرية في الرواية.
لا يمكن لأي نص أن يبقى على جموده بعد قراءته، فقد يثير سخطنا وغضبنا أو حبنا وتعاطفنا، من خلال شخصياته وهنا طبعًا تكمن خطورة القراءة. فماذا نقرأ ولماذا؟ وهل يمكن لكتاب أن يغيّر حياتنا نحو الأفضل أو نحو الأسوأ؟
في "المناطيد" لا نعرف إن كانت القراءة سببًا في إثارة السخط داخل "بي" أو تعرية والده له، أم أن سُبُل التعبير خانته حين نمت له أجنحة بسبب تلك القراءات، فتوهّم أن تلك الخفّة سلطة لا يمكن قمعها وتبيح له ممارسة كل ما يريد.
النهاية غير المتوقّعة للرواية صفعة تفوق الـ 126 صفحة، وقد تقودنا إلى حقيقة صادمة... "مصير النّاقد مأساوي، لأن المجتمع يكره النقد"، تقول نوتومب ذلك بطريقة تثير دهشة القارئ حتمًا: "كان هناك ناقد اسمه زوئيل، صرّح أن هوميروس كان يكتب مثل عامل متواضع، في النهاية قام العامّة بأسره وشنقه".
في الرواية رسالة مهمّة من رسائل العصر الذي نعيش فيه، فالمناطيد الجميلة المحلّقة في السماء، قد تكون جميلة ومبهجة ولكنها أبدًا لا تصلح كسلاح أو كأداة لنقل المسافرين، ما دامت مكلفة جدًا وسريعة الاشتعال.
وهذه إحدى التأويلات لعنوان قد يبدو ملفقًا لرواية جميلة جدًا كهذه الرواية، لكن الأجمل أنها إن لم تقدك إلى مكتبة قريبة لاقتناء كتاب، فهي ستطلق سراح عقلك الذي وُضِع بشكل ما في سجن لطالما اعتقدت أن مفاتيحه ليست في يدك.