ولمّا كان من الصعب الإلمام بعوالم الكتاب الجديد بالتفصيل، بذكرياته ومشاهداته وتأمّلاته، ومن الصعب تصنيفه إن كان قصصًا أم نصوصًا سرديّة- سِيريّة، فإننا هنا نقدّم أبرز مكوّناته وملامحه، بعيدًا عن تناول النصوص بتفاصيلها، ولعلّ الثيمة الأبرز فيه، والمفردة الأكثر تكرارًا، في عناوينه كما في متونه، هي مفردة "الموت" التي تتردّد بصورتها المباشرة أربع مرّات في العناوين، رغم وجود الموت، في صورة ما، في ثنايا عدد من العناوين. يظهر لنا الموت في عنوان القصة الأولى "لو أن الناس لا يموتون، بل يسافرون فقط"، و "أولاد صغار وموت كبير"، و "موتى صغار"، و "يوم مات جمال عبد الناصر". وفي المتون، ليس من نصّ يخلو من صورة ما من صور الموت. والموت ليس واحدًا، فلكلّ موت صورته وآثاره المختلفة عن أيّ موت آخر.
ملامح أساسية
منذ عنوان المجموعة، وكما سيظهر في القصة التي تحمل العنوان نفسه، نقف على صورة من صور الفانتازيا الطفولية، ورؤيتها للأشياء في ارتباطها بالواقع. الواقع الذي وقع حقيقة، فنحن أمام ديك "سرياليّ" مرسوم على جدار، لكنه يسافر مسرعًا بعجلات كما لو كان صورة درّاجة، من دون أن ندري من رسم هذا الديك الذي يشاهده الطفل مرّتين يوميًّا، أي في ذهابه وإيابه، صورة الديك معجزة فنيّة مدهشة للطفل السارد، يظل الديك مسافرًا ثم تأخذ صورته في البهوت، وبعد هزيمة حزيران/ يونيو 67 وهجرة الناس، يختفي الديك، فيقدّر الطفل أنّ أحد المهاجرين هو الرسّام، وإلّا لمَ يختفي هذا الديك، بل يموت، مع الهزيمة والهجرة؟!
القصة منذ بدايتها، منذ اندهاش الطفل السارد بعبارة زميله الطفل "الطمع ضرّ وما نفع"، تحتمل، مثل غيرها من القصص، الكثير من التأويلات، وهذه هي حال نصوص/ قصص المجموعة كلّها، حال عوالم الطفولة التي يُفجّرها الطفل السارد الذي يتولّى سرد الحكايات وتأليف الشخوص والوقائع، أو استعادتها من ذاكرته حين صار كبيرًا، حيث يدرك القارئ، حين ينتهي من قراءة المجموعة، أن ثمة ساردَين يتولّيان السرد، الأول هو الطفل الذي عايش الوقائع والحوادث وعانى مشاعر التلقّي والالتحام بها، والسارد الثاني هو الذي يكتب "الآن" ما عاشه ذلك الطفل... ولكن بروح ذلك الطفل ورؤيته وفهمه للأشياء. والساردان هما شخص واحد، الأول هو الطفل الذي عاش الوقائع، والثاني هو الذي يسردها الآن كتابة، في تأمّلات هي التي تصنع النصّ الذي هو بين أيدينا.
هكذا يراوح أبو هشهش ويتنقل بين ذلك الطفل كما كان، وبين الطفل كما يراه الآن من موقعه ككاتب. وما بين الطفل قاتل الفراشة النادم لقتلها، لأنّ لها روحًا مثله، وبين الشابّ الذي يتجوّل في أحياء مدينة عمّان، ويرى أسرابًا من الفراشات الميّتة. نحن حيال الشخصية ذاتها وقد نضج الوعي، وكبرت الأسئلة، لكنها جميعًا تصدر من روح طفليّة لا تهرم أبدًا، وتظل تنظر إلى العالم والأشياء تلك النظرة المقيمة في البراءة، والطالعة منها. ولكن حضور هذه الذكريات وسردها على النحو الذي نتلقّاه، لا يأتي في صورة حنين إلى ذلك الماضي وتلك الذكريات، بل هو الشعور بالفجيعة والألم لما جرى.
تنطوي نصوص هذا الكتاب على ثيمات مركزية عدّة، تشكّل الجسد والروح في هذه النصوص.
ثيمة الموت قد تكون هي الأبرز، فهي تحتلّ عناوين عدد من القصص كما ذكرنا، ويبدو الطفل- طفل القصص- مسكونًا بها، لكن ثيمة الحلم لا تقلّ حضورًا، وكذلك تصوير ملامح من الحياة اليومية في الريف الفلسطينيّ، تحديدًا في قرى الخليل، بل في السّموع على نحو أكثر تحديدًا. وسواء تعلّق أمر الموت بالطفلة ذات الفستان المزركش التي ترقص لترى فستانها يطير، أو تجسّد في استشهاد الطيّار الأردني موفّق السلطي ومواجهته مع طيران الاحتلال، أو حتى في موت جمال عبد الناصر وكيفية تلقّي النبأ وما رافقه من انصعاقات الفلسطينيين بموته المفاجئ ورفعهم الأعلام السوداء (من أين أتَوا بالقماش على عجل؟!)... إنها صور متعددة لموت واحد في آخر الأمر.
سيرة الذات وشخوص القرية
الحضور الأبرز في نصوص هذا الكتاب وحكاياته، هو حضور طفل يبدو هو نفسه في النصوص جميعًا، طفل يلاحق القارئ بالروح نفسها، حتى تكاد نصوص الكتاب تبدو كما لو أنها مقاطع من سيرة ذاتية و(سيرة غيريّة) للمؤلف، يروي عن نفسه، عن مشاهداته ومسموعاته من جهة، لكنه يروي، في الأساس، عن حياة الآخرين من حوله، عن أبيه ودكّانه ومن يتجمّعون حوله من أصحاب يروي كلّ منهم حكايته. طفل يروي حكايات المدارس وتلامذتها وأساتذتها، ويستوقفنا عند أستاذ شديد الغرابة والعجب، يحمل موسَ كبّاس مربوطًا إلى خاصرته، يبري أقلام تلامذته مرة واحدة على الأقلّ يوميًّا! فإن لم تكن هذه هي الغرائبية والعجائبية- بحسب المفاهيم الحديثة- في الأدب، فماذا تكونان؟!
نعم، يهدف أبو هشهش، في نصوصه/ قصصه وحكاياته هذه، إلى تسجيل "سرديّته"، سرديّة إبراهيم، الخاصة بفلسطين، من وجهة نظر طفل يشاهد ويفكر ويتساءل، لذا فهو يصوّر حياة القرويّين وعاداتهم في صور تنطلق من رؤية الطفل، لكننا في الحقيقة حيال كاتب يدرك ما ينبغي قوله في "السردية" الفلسطينية الغائبة، بل المغيّبة، كاتب يتقنّع بقناع طفل يقول عنه "كنتُه ذات يوم"، وليس بلا معنى أن يتخذ كاتب قناع طفل، برؤاه الطفولية، فهي أكثر صدقية وأعمق. ولو وقفنا على طفل هذه "السرديّات"، فهو طفل خجول، خائف، قلق، وغير ذلك من الصفات السلبيّة، من وجهة نظر المجتمع، لكنه طفل ذكي ولمّاح يرى العالم بعين شديدة الاختلاف. هو الطفل/ إبراهيم في طفولته، وربّما أمكن القول إنه الطفل في شبابه، فكثيرًا ما ترد صيغة "أتذكّر"، ما يعني أنه "سارد ذكريات"، وليس سارد وقائع راهنة.
والأهمّ، أنه يتذكّر من حياته/ طفولته في قريته شخوصًا وحوادث تصنع حكاية سحريّة، أو تنتمي إلى سحريّة واقعية، أو واقعية سحرية، لكنها تنتمي إلى فلسطين، لا إلى أميركا اللاتينية وماركيز وسواه من روائيي ذلك العالم. فمع نصوص أبو هشهش هذه، نتعرّف على روح الإنسان القرويّ البسيط، والساذج ربّما، فهو إنسان على قدْر من البدائية من حيث أدوات العيش، لكنه يمتلك ذكاء خاصًّا يواجه به أعباء الحياة ومفاجآتها المريرة. وقد نجح أبو هشهش في التركيز على عالم الطفولة، والغوص في أعماقه، واستنطاقه بما يستحقّ التأمّل في شقاء الأطفال وإبداعاتهم في آن.
كتاب أبو هشهش هذا يستحق قراءات من جوانب شتى، اجتماعية ونفسانية وثقافية، فضلًا عن الجانب الوطنيّ، وهو ما ينبغي للنقاد المتخصصين القيام به.