في رواية "بائعة الجوز" الصادرة حديثًا عن دار لندن للطباعة والنشر، يأخذنا جمال حيدر في رحلةٍ سردية تجمع بين عالمينِ متناقضين: الغرب البارد والموحش ممثلًا بمدينة لندن، والشرق المكتظ بالفقر والأديان والحياة والفوضى ممثلًا بمدينة مومباي، وبين هذين العالمين ينسج لنا عوالم روايته.
العمل ليست مجرَّد حكاية حب عابرة أو مغامرة رجل يبحث عن تجربة عاطفية، بل هي تأمُّل عميق في معنى الانتماء، والهوية، إضافة إلى الفقد، والعدالة الغائبة بكل صورها.
ابتداء من السطور الأولى يُطلعنا الراوي على لقاء افتراضي وانفصال واقعي... وهو يتحدَّث عن أمير، المصرفي الذي يعيش في لندن ويتعرَّف على فتاةٍ هندية تُدعى رافينا عبر وسائل التواصل الاجتماعي. يتبادلان الصور والرسائل لسنوات، ليقرِّر في النهاية السفر إلى الهند للقاء تلك الحبيبة الافتراضية. لكن اللقاء يبوء بالفشل الذريع حين يصطدم الخيال بالواقع، وينهار الحُلُم تحت وطأة الفجوة الثقافية، والسلوكيات اليومية البسيطة. فما بدا على الشاشة الزرقاء جذَّابًا، تبخَّر في مطعمٍ فاخرٍ لدى لقائهما الأول.
يمثل هذا الجزء من الرواية نقدًا عميقًا لوهم العَلاقات الرقمية، وللافتراضات التي يُبنى عليها التعلُّق العاطفي في العصر الحديث، ويعكس في الوقت ذاته تهافت الرجل الغربي على "المرأة الشرقية" المجهولة، بوصفها رمزًا للرغبة والغموض، ليكتشف في النهاية أنها ليست سوى إنسانة متعبة من واقعها.
لكنَّ الأحداث لا تتوقف عند خيبة لقاء "رافينا"، بل تتحول فجأة وتأخذ مسارًا مغايرًا حين يلتقي أمير بفتاةٍ تبيع الجوز على أحد الأرصفةِ في مدينة مومباي.
ريما، بائعة الجوز، شابةٌ هندية بسيطة، نشأت في أحشاء الفقر والحرمان، عانت اليُتم والنبذ، تعيش في "دهارفي" أحد أفقر أحياء مومباي. وعلى الرغم من ذلك، تمتلك هذه الفتاة جاذبية داخلية نابعة من طيبتها وكرمها، ومن جمالها الطبيعي الذي لا تشوبه زخارف اصطناعية.
تنشأ بين أمير وريما علاقة حميمية متوترة، تمتزج فيها الرغبة بالشفقة، والافتتان بالعجز، يرى فيها ما افتقده في لندن، وكونها ضحية ورمزًا للفقر المستمر والأنوثة المقهورة.
بعد علاقة قصيرة، يعود أمير إلى لندن، تاركًا خلفه حبًّا غير مكتمل وجنينًا ينمو في أحشاء ريما. هنا تتحوَّل الرواية من قصَّة حبٍّ إلى حكاية فقر طويل ومعاناة أنثوية عابرة للأجيال. تربي ريما طفلها بمفردها، بين أكواخ دهارافي، وسط قذارة الحي وتناقضاته، في ظلِّ غيابٍ تامٍّ للأب، والعدالة، والمستقبل، وحضور دائم للفقر والمعاناة. يكبر الطفل وتكبر معه أحلام الأم بعودة حبيبها.
يعود أمير إلى مومباي بعد حفنة غير قليلة من الأعوام بحثًا عن ريما وابنه، لكنَّ العودة بدت لريما متأخرة بعدما ضاعت الأحلام، وانخراط ابنه في أحضان الإرهاب ليدفع الثمن لاحقًا. بالمقابل شاخت ريما، ولم تعد تلك الفتاة التي عرفها. وفي عودته يجد أمير نفسه غريبًا مرتين: مرة في مومباي، وأخرى أمام مسؤوليته المنسية.
تميَّزت الرواية بوصفٍ دقيقٍ للمكان، وتحديدًا التناقض بين لندن ومومباي. فالمدينة البريطانية تظهر كمكانٍ نظيفٍ ومتحضر لكنَّه باردٌ ومفرَّغٌ من المشاعر. أما مومباي، فتغرق في الألوان والروائح، والبشر، والجوع، والجنون. كان وصف الكاتب لـ "دهارافي" حي المهمشين، مفصَّلًا ومؤلمًا، حتى أنَّ القارئ يكاد يشمُّ رائحة المياه الآسنة والعفونة والزيوت المحترقة.
التناقض بين الثقافتين لا يخدم فقط الحبكة، بل هو عنصر مهم في الرواية، إذ يطرح هذا التناقض تساؤلات حول مَن يعيش "الحياة الحقيقية": المرفّه في بلاد الغرب، أم المكافح في بلدان الشرق؟ وأين يكمن جوهر الإنسانية: في المال، أم في الاحتضان؟
هذه الرواية تعالج قضايا المرأة بعينٍ فاحصة. ريما هي أنثى مسحوقة اجتماعيًا، لكنَّها ذات إرادةٍ فولاذية. نشأت في كنف جدَّتها التي تمثل بدورها النموذج التاريخي للمرأة الهندية من أصول فلاحية، أرملةٌ فقيرةٌ تربي الحفيدات، تعمل وتكافح، ثمَّ تموت كما عاشت، في الظل.
تقدِّم الرواية أيضًا نقدًا ضمنيًا للبُنى الذكورية، سواء عبر غياب الأب، أو هروب الحبيب، أو عقوق الابن، وتضع القارئ أمام مسؤولية أخلاقية: مَن يُحاسبُ على كلِّ هذا الظلم؟
يكتسب الجوز، الذي تبيعه ريما، رمزيةً عميقةً في الرواية، فهو يحمل قشرة قاسية يصعب كسرها، لكنَّه يخفي نواةً هشَّة لذيذةً. كذلك ريما، قاسيةٌ في الظاهر، لكنَّها تحمل طيبة ودفئًا داخليًا، وكأنَّ الكاتب يقول إنَّ الجمال الحقيقي يتطلَّب جهدًا لاكتشافه، وأنَّ الحبَّ لا يولد من النظرة الأولى، بل من التعاطف والاحتكاك بالحياة اليومية.
تنتهي الرواية برفض ريما عرض أمير بالعودة معه إلى لندن، وهو قرارٌ موجعٌ وإنساني في آن. ريما ترفض أن تغادر المدينة التي تضمُّ رفات ابنها، وتصرُّ على البقاء في أرض الألم، ليس خضوعًا بل كوفاء، وربما كعقيدةٍ داخلية ترى أنَّ الألم جزءٌ من الحياة، وأنَّ الهروب غير مجدٍ.
كتب حيدر الرواية بلغةٍ شعرية مكثفة، تزاوج بين التأمُّل والسرد الحسي، تتخلَّلها مقاطع وجدانية بديعة، ونقلًا حيًّا للمشاهد اليومية. السرد غالبًا بضمير المتكلّم، مما عزَّز الطابع الشخصي والانفعالي للنص. أما الانتقالات الزمنية فكانت سلسة رغم قفزاتها الكبرى.
"بائعة الجوز" ليست حكاية حبٍّ عابرة بين عالمين متناقضين، بل هي ملحمةٌ عن الطبقات المسحوقة، عن النسيان، عن الفقر والحرمان، عن الذكريات التي لا تموت، وعن المدن التي تبتلع الأبناء والأحلام والأعمار، وكُتبت بروحية تنظر إلى المأساة من زاوية المحبة.