}
عروض

"حساء بمذاق الورد": ظلال المتاهة البورخيسية

حنان النبلي

2 يوليه 2025


سعيد منتسب روائي وقاص وإعلامي مغربي، ينتمي إلى جيل جديد من الكتّاب الذين يجيدون توظيف مجموعة من الأساليب الحديثة التي تتصل بالميتا سرد والسرد الثقافي وتحبيك التخييل والتاريخ. تتميز كتاباته بنزعة تجريبية واضحة، يزاوج فيها بين الواقعي والغرائبي، وبين الرمز والحكي المفتوح على التأويل. من أعماله الحديثة رواية "حساء بمذاق الورد" التي فازت بجائزة المغرب للكتاب (في السرد) لعام 2024.

تنفتح رواية "حساء بمذاق الورد" على سرد دائري يتقاطع فيه الحلم بالحقيقة، وذاكرة الطفل بالمتخيل، وتغدو الكتابة ذاتها موضوعا للسرد، فيما يشبه لعبة مرايا بداخل متاهة. ويستدعي الفصل المعنون بـ "لا طعام في سوق الصور" المتاهة بوصفها دليلًا على العمق السردابي المتكرر للوجود الإنساني، فضلًا عن دورها في مضاعفة المسارات السردية التي تقوم عليها رحلة متعرجة تنطوي على تجربة سفر ليس لها منفذ خروج، ذلك أن كل المنافذ، وعلى مدار كل فصول الرواية، تراوغ وتنغلق دون السارد باستمرار.

في هذا الفصل، لا يمكن أن نخطئ الحضور الهائل للبنية الرمزية والمعرفية التي تمثلها، مثلًا، قصة "مكتبة بابل" لخورخي لويس بورخيس. فمكتبة بورخيس مثلها مثل المتحف ليسا فضاءين سرديين فحسب، بل بنيتان رمزيّتان تمثّلان اختبارًا لمحدودية المعرفة، وزعزعة لفكرة الأصل، وتفكيكًا للهوية. إذ رغم أن النصين ينتميان إلى ثقافتين مختلفتين (أميركية لاتينية وعربية مغربية)، فإن التقاطع بينهما يكتسب بعدًا مركبًا، حيث تلتقي هواجس الكوني بالذاتي، ويبرز أثر ما بعد الحداثة في تفكيك صورة الإنسان وموقعه داخل اللغة والصورة والعالم.

بناء على ذلك، تسعى هذه المقالة إلى إضاءة الفروق والتقاطعات من داخل التجربة السردية، بدون الإخلال بخصوصية كل نص، مع إبراز كيف تحوّلت المعرفة في كليهما من وسيلة للفهم إلى أداة للتيه والضياع والبحث المستمر عن المخارج، وهو ما يؤدي في كلا النصين إلى بناء المسارات والانخراط في إبطال العوائق التي تتناسل منها عوائق أخرى من دون انقطاع، وإلى ما لا نهاية.

إن "مكتبة بابل" مكتبة كلية غامضة، وعصية على الفهم، ومؤسسة على كتابات مشفرة، وسداسياتها تستوعب كل الكتب، وهذه هي حال "متحف الصور الحية"، العالم الذي أسسه سعيد منتسب على مقتبسة لبورخيس:

"إذا تصورت الكم الهائل من الحيوانات الموجودة، وما ينجم عن عملية التركيب بينها للحصول على صور للوحوش المسيخة، صار بإمكانك أن تدرك أن الحديقة الحيوانية الفاناتستيكية مأهولة جدًا، أكثر مما هي عليه الحديقة الحيوانية الحقيقية. ومع ذلك، فهذه ليست هي الحال في الحقيقة، لأنك ستلاحظ أن خيالنا يقع دائمًا على السنتور أو التنين، في حين أن ثمة الكثير من أنواع النمل، التي لم يتم اعتمادها، وهي تفوق كثيرًا عدد أنواع الوحوش. ويعني هذا أن عدد عمليات التركيب الممكنة، التي من المفترض أن تفوق عدد الأفراد، لم تتحقق بعد. إننا نميل دائمًا إلى تخيل الوحوش نفسها، وتكرار الخطاطات المسيخة ذاتها".

تنهل البنية الرمزية والمعرفية، كما نطلع على ذلك في فصل "سوق الصور"، من قلق أنطولوجي يتعلّق بمفهوم المعرفة، وهوية الذات، وتحوّلات المعنى ولا نهائيته، وذلك من خلال بناء تركيب سردي وفكري يرصد تقاطعات المتاهة، والتشظي، والتحوّل الذي لا يمكن تحديد أشكاله. فإذا كان كل مرتادي "مكتبة بابل" محققين ومفتشين مولعين بالتحري والكثير منهم فقد أثره، لأن ثمة سلما بلا درجات، فإن متحف "الصور الحية" يرتكز أساسًا على "سوق في الجنة": "ما فيها بيع ولا شراء إلا الصور من الرجال والنساء، فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها" (حديث شريف). والسوق هنا تعج بمخلوقات تتأسس على تركيب لانهائي ديمقريطسي "الوجود مكون من الذرات/ لا شيء يولد من العدم، ولا شيء يفنى ويعود إلى العدم". كل صورة مجرد أخلاط مركبة أولية وغير متناهية العدد، وما يفعله السارد هو أنه يحقق في الصورة التي يمكن لوالدته أن تدخلها، كل الصور ممكنة، كما لو كنا أمام كتاب "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات" لزكريا بن محمد بن محمود القزويني، أو أمام كتاب "التحولات" لـ"أوفيد" الذي يثبت أن "التحول" جذر رئيسي من فن السرد، وأن التغير يتم داخل الثبات، وجميع الصور التي نراها مجرد تركيب ينبغي فحص قطعه الأصلية جزءًا جزءًا ليتحقق العلم بالشيء وبتحولاته.

إن السارد في رواية "حساء بمذاق الورد" يبحث في الطوابق الثلاثة للمتحف عن الصورة التي تتوارى خلفها أمه الميتة. بناء يتكون من ثلاثة طوابق مع طابق تحت أرضي:

"الطابق تحت الأرضي: ‘مكتبة الضفادع الآدمية‘،  ويحرسه خازن يسمى خسراف؛ الطابق الأول: كازينو بيضاوي الشكل، يديره خازن يسمى دوراف؛ الطابق الثاني: حوض زجاجي يحتوي على ألواح معدنية وخشبية تلتصق على سطوحها أنواع حشرية عديدة جمعت من أصقاع مختلفة، يحرسه خازن يسمى زرزاف؛ الطابق الثالث: قاعة عرض تحتوي على عدد كبير من اللوحات والرسوم والمنحوتات والتنصيبات وألعاب الفيديو والتعبيرات الفنية الرقمية"، يطلعنا عبر الصعود من طابق إلى آخر على نوع من "التيراتورجيا" (تركيب المسوخ) على نحو لا نهائي، دون أي اهتمام بدراسة الأسباب والآليات التي تؤدي إلى حدوث التشوهات/ المسوخات".

سعيد منتسب يتسلم جائزة المغرب للكتاب لعام 2024


إننا في هذه الرواية لا نعيش "المسوخ" بل نعيش "التركيب اللانهائي". التركيب هو المتاهة التي يشكلها "متحف الصور"؛ كما أن المتاهة هنا، ليست بنية سردية فقط، بل بنية دلالية تستبطن قلقًا معرفيًا وجوديًا. وهذا ما تكشفه لنا، بكل وضوح، "مكتبة بابل" التي تشتغل على اللانهائي الاحتمالي، حيث كل "توليف لغوي ممكن" حاضر، لكن المعنى دائمًا غائب أو مستحيل الوصول، بينما يقدم لنا "متحف الصور" فضاء طبقيا، تقوده كائنات سيكولوبية، يعيد خلق التجربة الإنسانية من خلال التركيب المضطرد للصور. فالصورة في "سوق الصور" ليست انعكاسًا للأصل، بل واقعًا بديلًا يتفوق على الأصل أو يتجاوزه. كما أن السارد لا يبحث فيها عن الأم فقط، بل عن إمكان وجودها داخل كل صورة قابلة للتركيب. يقول السارد:

"المكتبة أشبه بقارة كبرى، بغاباتها وأوديتها وحيواناتها وغيلانها وممراتها وأسرارها وأساطيرها. أحدس بشكل ما أن أمي لن تلجأ إلى الاستشياه لتخدعني. لن تدخل في صورة شاة، ولا بد أنها فكرت في إدخالي إلى منطقة معتمة لأعمى عنها. ليس لها خيار آخر سوى أن تقترح عليّ لغزًا بوليسيًا يصعب حله" (ص: 132).

تتلاقى التجربتان السرديتان اللتان تنهض إحداهما على الأخرى في تشييد عالم بلا مرجع ثابت. ففي مكتبة بورخيس، لا يمكن الوثوق بأي كتاب، لأن كل كتاب له توأم مشوَّه، أو نسخة محرفة. وفي متحف الصور، لا يمكن الإمساك بصورة الأم، لأنها إما توزعت على كائنات متعددة، أو لم توجد أصلًا. في هذا السياق، تغدو الأم مرآة للهوية المفككة، والمتحف يشتغل بوصفه جهازًا لإنتاج الأوهام.

والحق أن تجربة بورخيس تتموقع داخل العقل والفكر واللغة، بينما يغوص منتسب في التحولات الجسدية وانزياحات الكائن. ذلك أن الأم تتحول، في كل اختفاء، إلى جندب أو أرنب أو لاحسة سكر أو سعلاة. هذا التحول هو شكل من أشكال المسخ، لكنه ليس مسخًا عقابيًا، بل آلية سردية لبناء الإدراك الحدّي بأن الأصل مستحيل، وأن الموت مساحة فراغ لا يمكن ملؤها إلا بحيوية الخيال (التركيب). إذ يتحوّل الجسد الذي وقع عليه الموت إلى مساحة تجريب، تفقد فيه الذات يقينها، كما فقدت الذات في "مكتبة بابل" يقينها المعرفي، فأصبحنا أمام عدد لا متناه من الكتب التي لا يشبه أحدها الآخر.

في هذا الفصل "لا طعام في سوق الصور  يبلغ التوتر الرمزي ذروته في لحظة تتقاطع فيها الحواس مع اللغة، حين تبوح الصورة بما لا يُقال، ويعترف السارد في مشهد ذروة بالغ الحساسية، باستحالة الإمساك بالأم. تقول صورة الأم: "صدقني، أنت لا ترى ولا تسمع. أنت تتخيل صورًا وأصواتًا... كلنا أكلنا من تلك الثمرة، وكلنا صدقنا أن العالم أعجوبة". هذه العبارة تنسف كل بنية الإدراك الحسي، وتحوّل الصور إلى شرك، وتعلن بوضوح أن ما نراه ليس إلا وهمًا مركبًا من رغباتنا ومخاوفنا. مجرد "لعبة ضم قسري بين الوحدات المختلفة. يقيس البعيد بالقريب، والمحال بالممكن، والملتبس بالواضح، اشتغال تركيبي على إقامة قرابات لانهائية بين المواد والقطع والأجزاء" (ص:182).

هذا الإدراك يحوّل "متحف الصور"، تبعًا لذلك، إلى متاهة وجودية، أي من مكان للبحث عن الأم إلى مكان للضياع في صورها التي تتلاحق من دون استقرار، حيث ينهار المعنى تحت ضغط التكرار والاستنساخ؛ ذلك أن الأم، في ذلك العالم البرزخي (اللامكان)، "إذا أحبت صورة دخلت فيها"، ليس لتعود إلى الحياة، بل لترسم القطيعة بين فضاءين: فضاء العدم وفضاء الوجود. وهنا لا ينهار السارد، بل يعود، وهو يحمل "قهر التحول المتاهي"، إلى وعيه متخليًا عن أي يقين. ومن ثم يصبح شاهدًا على فوضى الصور لا مشاركًا فيها، كأن الرواية تهيئه ليصبح ساردًا جديدًا، يروي لا ليكشف الحقيقة، بل ليحرس هشاشتها ما دام السائقون عنوانها الأكبر. هنا تتجلى سخرية سردية سوداء، شبيهة بتلك التي تُختتم بها مكتبة بورخيس، حين يُقال إن المكتبة ‘قد لا تكون لانهائية‘، لكنها غير قابلة للعد لأن ما يحدها هو التكرار. "المجلدات نفسها تتكرر بالالتزام نفسه" (سداسيات بابل. ص: 21). وفي هذه الحالة، نكون في حلم لا نهاية له، سواء أكنا في مكتبة بورخيس أم في متحف منتسب.

ومع ذلك، علينا أن نقول إن المعنى، في كلا النصين، لا يسكن الخارج، بل يتولد من اصطدام الذات بمراياها الداخلية. فالإدراك لدى بورخيس، عقلاني مشبع بالرمز، كما هو واضح من خلال السداسيات؛ بينما الإدراك لدى منتسب حسّي، يتجلى في الجسد وفي العين، وفي الخوف من فقدان أثر الأم. ولذلك، فإن الذروة عند منتسب لا تحطم فقط وهم الصورة، بل تعيد تعريف الهوية من جديد: لا كمعطى ثابت، بل ككائن زئبقي يتشكل كلما حاول أن يتعرف على نفسه. ولعل هذا ما نجده في الفصل المعنون بـ"مرايا اختلاجية تلمع في سرداب".

 يتضح اتكاء سعيد منتسب، عن عمد، على متاهة بورخيس حين يعلن السارد في "مكتبة بابل" عن عدم وجود مكتبة أصلًا، وأننا ربما نحلم فقط. فيما يعلن سارد منتسب، عبر ملاحقة صورة الأم، أننا لا نرى ولا نسمع، بل نتوهّم.

هذا الالتقاء النصي يشير، بالإضافة إلى كشف المرجعية كما صاغته الجماليات الحديثة، إلى قلق سردي وفلسفي عميق: لا وجود لمعنى أصلي. كل شيء متحول. كل شيء يبني أصله على أصل آخر في متواليات لا تنتهي. وتبقى الكتابة – سواء في صورة مكتبة أو صورة أم – محاولة لإنقاذ الذات من محوها الرمزي، حتى لو كان الثمن هو إدراك "حد اليقين" أن الوجود يرتكز على دائرة لا مركز لها.

ومن هنا، نستنتج أن "سوق الصور" هي استدعاء سردي لقلق بورخيسي، إذ تشكّل قصة "مكتبة بابل" وفصل "سوق الصور" بنيتين سرديتين متقاطعتين، كل منهما تسائل حدود الإدراك والهوية والتمثيل، من خلال استراتيجيات مختلفة في الشكل والمحتوى. غير أنهما يقران معا بأن الأصل مفقود، وأن الحقيقة إما مستحيلة أو محجوبة داخل تكرارات لا تنتهي من العلامات. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.