عرف المشهد القصصي المغربي العديد من التجارب الكتابية في هذا النوع الأدبي الذي يُوصف عادةً بأنه الفن السردي الأصعب، لما يتطلبه من تكثيف حكائي، وحشد للحدث أو الأحداث في مساحة تبدو محصورة كَمًّا لكنها متسعة أفقًا دلاليًا، لما يعتمل في النص القصصي من إيحاءات وفُسحات الحكي الممتد في الحياة بواقعيتها أو غرائبيتها أو بمتخيلها المُجنَّح. القصة القصيرة تحفل بتيارات أثْرت المكتبة الأدبية، وظلت تؤكد حضور القصة بكامل عنفوانها وألقها وجاذبيتها في زمن رقمي جارف، لا تجد فيه الأنواع الأدبية إلا بعضها البعض حتى تلتهم مساحات الانتشار الرمزي لاستمالة جمهور القرّاء المفترضين إلى منتوجهم الأدبي.
القصة القصيرة المغربية تألقت بتألق كُتّابها: أحمد بوزفور، مصطفى المسناوي، عبد الجبار السحيمي، إدريس الخوري، لحسن حمامة، عبد النبي بزاز...، كما تألقت أسماء لاحقة وذاع صيتها عربيًا.
قصص نور الدين خروب تنتمي إلى تيار الواقعية القصصية، وعلى رغم تضمن نصوصه شعرية سردية تغذي نسيج النص لديه، إلا أنه يظل ملتصقًا بالواقع، واصفًا، ساردًا بعين لاقطة تختلس بعض المشاهد اليومية أو تلجأ إلى التقليب في الصفحات المعتمة للذاكرة الشخصية بنكهة السيرة الذاتية، على سبيل تصيُّد بعض الأوجاع القديمة، كما هي حيوات الناس، لا تخلو من أوجاع وملذّات وبهجة. تصيُّد الوقائع الحياتية لا يمنع القاص من شحذ مخيّلته حتى تصير حادة كالسكين، يخرق بها ستائر الحكي المتواري.
مشاهد من سِيَر الناس والأمكنة نستشعرها في بعض قصص نور الدين خرّوب التي تلتئم في مجموعته القصصية الأولى "رقصة الغربان" (دار بصمة للنشر والتوزيع، 2024)، وتضمّ 13 نصًّا قصصيًا موزّعًا على 79 صفحة من الحجم المتوسط.
في نص "حب فوق الجسر"، تتبدى عوالم حياة الأرياف، وفي بال الكاتب قرية الأسلاف على ضفاف وادي بهت (يقع في الطريق الوطنية الرابطة بين مدينتي الخميسات ومكناس)، يستدعي الكاتب الطفولة بأحداثها البريئة التي لا تفارق بعضها الذاكرة، كما في هذا المقطع الحكائي:
"أتذكرين ذلك اليوم الذي كدتُ أسقط من أعلى الجسر؟ كنتِ بطلةً حين منعتِ ذلك، حتى وإن قدّر الله سقوطي، كنتُ سأصطاد لكِ سمكة".
كما لم ينس السارد الشجرة التي نبضت من أجلهما ذات رومانسية مبكرة:
"والشجرة التي كنا نقضي تحت ظلها لا فترة بعد الزوال، شاخت المسكينة، رغم ذلك ما زالت تحتفظ على جذعها بذلك القلب الكبير الذي حفرتُه من أجلكِ أيام آخر سنة قضيناها في الابتدائي...".
الإشارة إلى السلك الدراسي (الابتدائي) تحيل على مراهقة عجلى جعلت القلب الصغير ينبض بمشاعر دافئة إزاء الفتاة/ الطفلة، تلك الوقائع البعيدة لن تغادر الذاكرة، حتى وإن دهمت الكهولة أوصال السارد، فالقلب طفل لا يشيخ.
حكاية نص "رقصة الغربان" عن وحيدة أبويها التي أكملت دراستها في الهندسة، لتعود إلى القرية، وتفرغت لأعمال الفلاحة لتساعد أباها، الذي كان قد كَفل ولدًا شبّ وكَبُر على يديه، حتى صار فلاحًا شابًا يحمل عنه عبء الأشغال المُضنية في الحقل وغيره، وهي تعمل بحماس وتفانٍ... تشكلت صداقة وألفة مع الشاب "حميد"، رافعة الكُلْفة، إلى أن وقع "تماس"...
في رقصة الفرح بالحصاد الوفير، طبع "حميد" قبلة على فم الشابة المكتملة الأنوثة، فقابلتها بغضب واستهجان وشتيمة، كأنها فعلًا تُعبّر في أعماقها عن ذلك، غير أن الرغبة المخبوءة للأنثى العزباء تكتم الحقيقة، رغبة قد تنفجر في أي وقت كبُركانٍ جائع إلى الحمم الملتهبة...
سُرعان ما راودتها، بعد اختلائها بنفسها المُتحرقة والراغبة... خرجت تبحث عنه... دنَت من الشجرة إياها، لتجد الشاب المسكين مُعلَّقًا بمنديلها المُلتف حول عنقه على جذع الشجرة. لم تكن تدري أن الصدّ والشتيمة سيقودان الفلاح الرومانسي حدّ الهشاشة ـ هو القوي البنية ـ إلى كآبة قاتلة... لم يُطق الصبر عليها... فانتحر، كأنما دواء الكآبات هو الموت، ولطالما كان العشق الميؤوس منه أسرع طريق إلى قتل النفس، هذا ما تُخبرنا به قصص التاريخ ووقائع المجتمعات.
ثلاث عشرةَ قصةً تتعدد حكاياتها المقتضبة التي تشي بالكثير والكثير من التفاصيل، هذه التفاصيل تسعها رواية بمشهدية أو فصول تحتكم إلى خيط ناظم للمسار السردي. ما يجمع المحكيات القصصية هو اغترافها من المعيش اليومي وحيوات الناس "الشعبيين". قصص خروب مرآة لما يعتمل في الأحياء الشعبية في المدن، وبين البسطاء في القرى، من هموم ومسارات حياتية ترشح بالبهجات والمآسي ولا تخلو من النهايات الموجعة. قصص بمثابة ندوب حفرتها الآلام في مصائر الأفراد.
نور الدين خروب قاص يتمتع بذخيرة حكائية وفيرة ومتجددة، له خيارات عديدة، بدءًا من استثمار الذاكرة البعيدة إلى توظيف خبراته وعلاقاته الاجتماعية الواسعة (مهنيًا وإنسانيًا)، ما يتيح له تلقي غزارة المحكيات الشفهية الواقعية من الناس بلا وسائط. يندغم هذا الرصيد مع قصص الأرياف وسِيَر الذات والأمكنة.