}
عروض

"جسر النعمانية": في خراب الأرواح

بعد روايته الأولى "رسائل زمن العاصفة"، التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العالمية للرواية العربية في عام 2016، أصدر الروائي المغربي عبد النور مزين مؤخرًا روايته الثانية "جسر النعمانية" (منشورات سليكي أخوين، طنجة، 2024). أول ما يلفت الانتباه في هذه الرواية هو تعددُ عوالمها وشخصياتها وأصواتها وأحداثها، ضمن صراعِ هوياتٍ عابر للحدود؛ صراع لا يتوقف عن إفراز امتداداته الفكرية والسلوكية، من خلال ما تجابهُهُ الشخصيات من تحدياتٍ، ترتبط بالعنف والحب والهجرة والصراع على السلطة والموارد المادية والرمزية.
هذا الصراع، الذي يتبدى بأشكال مختلفة على امتداد صفحات الرواية، يستدعي الأزمة العميقة التي تتخبط فيها الدولة الوطنية في بلدان الجنوب بوجه عام. وهي أزمة ناجمة عن غياب "سياساتِ هويةٍ" متوازنة ومستوعبة للتوترات الكامنة في هذه البلدان، على اختلاف مرجعيات نخبها الحاكمة ومنطلقاتها الفكرية؛ إنها أزمة ما يُعرف بـ "المجتمعات السائلة" التي تتعرض فيها العلاقات الاجتماعية التقليدية لتحولات عميقة، تتوازى، في الآن ذاته، مع استعداد بادٍ من قبل الأفراد والجماعات على إنجاز تسويات مع هوياتهم الأصلية، بما يسمح بتبني هويات هجينة عابرة للخصوصية الثقافية، بحيث تصبح هذه المجتمعات فضاءات مفتوحةً لانزياح الهويات وتبدلها وتداخلها، بشكل تتمخض عنه سيولة ثقافية وهوياتية، تعكس شعورًا عامًا بغياب هوية جامعة معينة، ينتقل من جيل إلى جيل.
تقع رواية "جسر النعمانية"، إذًا، في قلب هذه الأزمة الثقافية والحضارية التي تعصف بعدد لا يستهان به من المجتمعات المعاصرة، التي أضحت عاجزة عن إدارة تنوعها الثقافي والهوياتي بما يحفظ تجانسها المجتمعي والأهلي. من هنا، تنتمي شخصيات الرواية إلى الخبرة الحياتية المعاصرة، حيث تشتبك الوقائع والأمكنة والأزمنة والمسارات لتعيد توجيه مصائر الشخصيات، في ظل ما حلَّ ببلدة النعمانية من خرابٍ نتيجة الصراع بين عائلتيْ السعيد بوخلافة وتزيري الريحاني. على أن هذا الخراب يتوازى، في الآن ذاته، مع قصة حب مستحيلة ودراماتيكية بين السعيد وتزيري، فيغدو هذا الحب مفتاحًا لفهم، ليس فقط التركيبة النفسية والعاطفية لهذين العاشقين اللذين يكابدان مخلفات الصراع الأبدي بين عائلتيهما، بل أيضًا تركيبة الفرد المعاصر والتكاليف التي يدفعها من سنوات عمره وأعصابه، كي يصل إلى توليفة يوازن فيها بين أحلامه وطموحاته من ناحية وما يطلبه أو يفرضه عليه المجتمع (العائلة) بمعاييره الاجتماعية المعلومة.




إن خراب النعمانية في النهاية هو خرابُ الأرواح؛ أرواح الذئاب القرمزية والبيضاء، أرواح من عبروا حولها من عائلتي السعيد بوخلافة وتزيري الريحاني، وآخرون توزعوا بين أواصر ووقائع وأزمنة وأمكنة مختلفة، في دوامة صراع لا ينتهي، يحيل في النهاية إلى أزمة الحضارة المعاصرة في حل المعضلات التي يواجهها الأفراد والجماعات. ذلك كله يسوقه عبد النور مزين بلغة تعكس وعيًا لافتًا بتحولات السرد في علاقته بشخصيات الرواية الكثيرة، وهي تحترب على جبهات الحياة؛ لغة سردية محكمة، بعيدة عن الإطناب والحشو، مع مسحة شعرية باديةٍ تتوسل بالإيحاء المعقلن، لغة بقدر ما تتوسل بالخيال، لا تغفل ما يفرزه واقع المجتمعات المعاصرة، على اختلاف مرجعياتها الثقافية، من مآسٍ، تعكس إخفاقًا مدويًا على كل واجهات الوجود الإنساني.
تصبح رواية "جسر النعمانية" عنوانًا لأزمة هوية عميقة تضرب المجتمعات المحلية في بلدان الجنوب؛ أزمة تعكس عجز النخب المتناحرة عن تدبير الهوية من خلال تسوية بين الهويات الفرعية، الدينية والمذهبية والعرقية والقبلية، والهوية الوطنية الجامعة. لقد أخفقت النخب التي تعاقبت على الحكم في بلدان الجنوب في حل أزمة الهوية، بأن جعلت الهيمنة على السلطة همها الأوحدَ، من دون إفساح المجال للتسامح المتبادل، الذي يصبح بمرور الوقت مستحيلًا استحالةَ حبِّ السعيد وتزيري. وفي ذلك وظفت هذه النخب الإعلامَ أداةً رئيسةً في تبرير هذه الهيمنة، بإعادة تشكيل الوعي الجماعي وتوجيهه وفق سرديات تتوافق مع توجهاتها. لقد أصبحت للإعلام في "المجتمعات السائلة" سلطةُ العبث بالهويات وإعادة موضعتها في قلب هذا الوعي، بشكل يعيد إنتاج السلطة بمختلف تجلياتها الاجتماعية والسياسية. ولا يفوتُ الرواية تسليط الضوء على الإعلام الاجتماعي، الذي تحولت شبكاتُه إلى سلطة موازية، تُعيد تشكيل الواقع والوعيَ به، وفق المنطق الذي يحكم الرأسمالية المتوحشة.
لا يبدو عبد النور مزين منشغلًا في "جسر النعمانية" بحكاية واحدة، بل بحكايات كثيرة تنزاح بين صفحات الرواية، تعبُرُها شخصياتٌ تتعقب حيواتِها ومصائرها المتشظيةَ، وتنتقل بين الأزمنة حاملةً أحلامها وانكساراتها.
إن "جسر النعمانية" هي روايةُ التشظي الفكري والوجداني والعاطفي والنفسي، روايةُ الواقع والخيال؛ فالنعمانية هي تلك البلدة التي تقع على تخوم الحياة التي نحياها كل يوم، بأفراحها وأحلامها وانتكاساتها. النعمانية هي المئات أو الآلاف من مدن الجنوب وبلداته وجغرافياته، الواقعية والمتخيلة، التي تخوض ساكنتُها صراعات اجتماعية وأهلية وسياسية، بأشكال متباينة، كي يصبح العالم أكثر استجابة لتمثّلاتها عن الهوية. إن الرواية هي عنوان لإخفاق الأفراد والجماعات والمؤسسات والنخب والحكومات في إنجاز تسوية هوياتية داخل مجتمعات تائهة فقدت بوصلاتها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.