}
عروض

"الحياة ليست رواية": القارئ بطلًا روائيًّا

عمر شبانة

5 يوليه 2025


يقيم الشاعر والكاتب اللبناني عبده وازن بنيان روايته الجديدة "الحياة ليست رواية" (المتوسط، 2025، 296 صفحة)، على تحليل وتفكيك شخصية "القارئ"، في علاقته- أساسًا- مع كلّ من صديقته جوسلين، القادمة من باريس للتوّ لزيارة جدّتها والتعرّف على لبنان وما جرى له، وصديقه ورفيق عُمره جوزيف، مقلّبًا هذه العلاقة على وجوه شتّى، أبرزها الوجهان العاطفي والثقافي، فضلًا عن وجوه وجوانب اجتماعية وسياسية واقتصادية تكشف عن طبيعة لبنان وما آل إليه مع الحرب الأهلية وبعدها، ودور النظام السوري فيها. لكن المحور الأساس في الرواية يظل هو شخصية "القارئ"، وهي الكنية التي أطلقتها جوسلين على صديقها لتلتصق به، ويغيب عنّا، نحن قرّاء الرواية، الاسمُ الأصليّ الحقيقي لهذه الشخصيّة، اسمه في الهوية. كما أن "القارئ" يلعب دور الراوي/ السارد، ولكنّه ديمقراطيّ في تقديم الصّوتين الآخرين لصديقته وصديقه، لكن من خلال صوته هو، صوت المؤلّف، في نقاشات ثرية ومثيرة. ولعلّنا نقف على بعضها.
كثيرة هي القضايا التي تعرضها الرواية، بدءًا بقضية الإنسان الفرد، والمثقف صاحب الأسئلة المعيشية والسياسية وحتى الوجودية، كما هي حال "القارئ" خصوصًا، وحال صديقيه جوسلين وجوزيف، وطبيعة العلاقة التي تربط هذا الثلاثيّ المحبّ للحياة، الرافض للحرب ومفرداتها، وعلى وجه أشدّ خصوصية رؤية "القارئ" للعلاقة عمومًا، ولكلّ من الصديقة والصديق كلًّا على حدة، من جانب، وعلاقتهما المشتركة العاطفية- الجنسية من جانب أهمّ. فهو رغم غيرته من جوزيف ومن انجذاب جوسلين له، لا يحاول جذب جوسلين إليه، بل يخصّص لهما غرفة في بيته يعيشان فيها كعشيقين، مكتفيًا بالمراقبة والاستماع والشمّ والتأمّل في العلاقة... ذلك كلّه لأسباب تتعلق بشخصيته المرتبكة والمضطربة، لكنها وفي الأعماق تبدو شخصية "غيريّة" قادرة على التضحية من أجل الآخرين، من أجل جوزيف وجوسلين تحديدًا. لذا يكرّر هو كما تكرّر جوسلين وصف العلاقة الثلاثية بالغريبة والاستثنائية... ولا أجد داعيًا للخوض في تفاصيلها.
رواية قوامُها- إذًا- شخصية "القارئ"، بـ"أل التعريف" وهي للتمييز، وليس مجرّد قارئ، ولا أي قارئ، فهو يحضر هنا بوصفه مبدعًا إذا أخذنا بمقولة الأرجنتيني/ الكندي ألبرتو مانغويل في كتابه "فن القراءة" حيث "القراءة هي ذلك النشاط الإبداعيّ الذي يجعلنا إنسانيين من كلّ الأوجه"، أو كما يقول رولان بارت "القراءة فعل إبداع مثل الكتابة" (عبارة ترد في الرواية). فالقارئ من وجهة النظر هذه إنسان مبدع. وليس كلّ قارئ مبدعًا، لكنّ "القارئ" هنا ليس قارئًا طبيعيًّا، بل هو، كما تصفه صديقته جوسلين "أنت لست قارئًا، أنت القارئ، أنت مجنون قراءة، أنت مريض قراءة". فهي، كما يقول هذا "القارئ"، خبرت معنى أن يكون قارئًا، وألّا يكون سوى قارئ، يعيش بين الكتب، وخصوصًا الروايات. وهو شخص بلا مهنة، فهو يعيش من ثروة والده ووالدته، لذا يعتبر القراءة مهنته، مثلما الطب هو مهنة الطبيب، والنِّجارة مهنة النجّار.

رواية "القارئ"

من هذه البوّابة ندخل رواية عبده، بوّابة مميّزة، وقد تكون - بحسب علمي- فريدة في هذا الجانب، إذ لم يسبق لي قراءة رواية بطلُها قارئ أو "القارئ". ومنها نكتشف شخصية "القارئ" غريب الأطوار، الذي سيكتب رواية، هي رواية الشخصيّات الثلاث هذه التي بين أيدينا، شخصيّات مركبة ومعقدة تحتاج إلى محلّل نفسانيّ، بجانب الناقد. إنّنا هنا أمام رواية داخل رواية، وهذا موضوع يخصص له المؤلّف مقاطع من نقاشات الأصدقاء الثلاثة، يستعرضون فيها الروايات والمسرحيات والأفلام العالمية التي اشتغلت على هذه البنية المركّبة والمتداخلة، متعددة الانشغالات.
النقاشات تطاول في الأساس أشكال الرواية العالمية، منذ أول رواية في التاريخ، وهي لكاتب جزائري (وبحسب الشائع فهي رواية "الحمار الذهبي (The Golden Ass) التي كتبها الكاتب لوكيوس أبوليوس (يُعتقد أنه أمازيغيّ)، وقد كتبها في القرن الثاني الميلادي. يقال إنها كتبت باللاتينية، ويقال "بلغة النطق المحلي أفولاي")، حتى أحدث الروايات الصادرة في باريس. ولهذا فنحن القرّاء سنجد أنفسنا أمام مكتبة ضخمة ومهمة من الروايات العالمية، يقتنيها "القارئ" من مكتبات باريس حين يزورها، أو مكتبة أنطوان في شارع الجامعة الأميركية، ويجعلها مرايا ليرى نفسه في شخوصها/ أبطالها، مع حضور دائم لجوزيف وجوسلين، ولذا فهو يكرر "أنا قارئ يكتب، ولست كاتبًا".




هو مدخل يتيح للمؤلّف الخوض في عشرات الروايات العالميّة وكتّابها، بأسلوب سلس بعيدًا عن الاستعراض المجّانيّ، حيث تتعدد أساليب السرد، فنقرأ الحوارات والتأمّلات، كما يلجأ "القارئ"/ الكاتب إلى إبراز مواقف نقدية عميقة من هذه الرواية أو تلك، ويعقد مقارنات جادّة بينها في الشكل والمضمون، يتناول شخصيّاتها بالتحليل، محاولًا إيجاد وجه شبه بينه وبين بعضها. أبرز المقارنات تتم بين ديستويفسكي "العبقريّ" و"النبيّ"، وبين تولستوي، وهي مقارنات تتكرر في غير موقع وغير صورة، وتكون لصالح تفوّق ديستويفسكي.
في الرواية ثمة ذِكر لروايات عربية، لكنّه ذكر قليل مقارنة بذكر الروايات العالمية ومناقشتها، كما أنه عابر في معظم الأحيان، ومن الاستثناءات التوقف عند "ألف ليلة وليلة"، بين نسختها العربية والنسخة الفرنسية ربّما والتوقّف عند نجيب محفوظ وبعض رواياته، وبناء على إظهار جوسلين عدم إعجابها سوى ببعض أجوائه القاهرية، وكذلك الأمر في ما يخصّ رأي "القارئ"، فهما ينتقلان إلى المقارنة بينه وبين المصري- الفرنسي الفرنكوفوني ألبير قصيري، تحديدًا في ما يتعلق بصورة القاهرة ومصر عند كل منهما، حيث يتفوّق قصيري على محفوظ. ويجري طرح التساؤل: كيف يمكن لكاتب عاش معظم حياته في باريس ألّا يكتب إلّا عن مصر؟
ليس في الرواية حوادث مركزية كبرى، وبعيدًا عن الحرب والحواجز والقتل على الهويّة، فهي تُعنى بهموم الإنسان الصغيرة والكبرى، اليوميّة العابرة والهامشية، والوجودية الجوهرية، وتعتمد الحوارات والتأمّلات أسلوبًا أساسيّا في تقديم مادّتها. لكن هذا لا يعني غياب الحوادث ذات الدلالة على الشخصيّتين، بل الشخصيّات الثلاث، "القارئ وجوسلين" وجوزيف، ومن هذه الحوادث تعرّض جوزيف لحادث سير، ودخوله في غيبوبة لشهور، فكيف يتواصل معه "القارئ" وجوسلين؟
يبتكر المؤلف وسيلة للتواصل مع جوزيف من جهة، ولعرض عشرات الكتب، وهي أن يتناوب مع جوسلين على قراءة الكتب في غرفته في المستشفى، ولكن من دون جدوى بالطبع، ما يدعو جوسلين للعودة إلى فرنسا التي تعتبرها وطنها الأول بدلًا عن لبنان بما آل إليه من مشاكل، ثم تتلقى رسالة من "القارئ" يُعْلمها برحيل صديقهما جوزيف، فتكتب له عن طبيعة مشاعرها تجاهه هو، المشاعر التي لم تكن لتبوح له بها، لأنه لم يكن يجرؤ على البوح بمشاعره المكبوتة، فظلت تعتبره من أقرب الأصدقاء، وليس حبيبًا كما يشتهي أن تكون.
الحدث الثاني المرتبط بحياة جوسلين وذكرياتها أيضًا، هو عثورها على رسائل عاشقة والدها (منى) قبل أن يتزوج بوالدتها، رسائل عشق روحيّ وجسديّ جريء، قادتها إلى هذه العاشقة (منى)، والتقت بها، لتقوم بينهما علاقة شديدة الحميميّة، لأنّها أرادت التعرّف، من خلالها، على صورة والدها الذي تجهله. ورسائله إليها، وغياب رسائلها إليه تذكّرنا برسائل غسان كنفاني إلى غادة السمّان، ولكنّها هنا معكوسة، حيث رسائل العاشق كنفاني هي المباحة، ورسائل غادة تظل محجوبة عن القارئ. وتتمنى جوسلين لو حصلت على رسائلها هي، ومن دون جدوى.

الواقعيّ والافتراضيّ

عدا ذلك، فإن شخصيّة "القارئ"، شخصية انطوائية و"عزلوية"، وتكتفي بفعل القراءة وما ينبثق عنه من متغيّرات. وباستثناء التغيير الكبير الذي أحدثه حضور جوسلين في حياته، وهو التغيير الجذري الذي يتخلّق منه تفاصيل حياته اليومية، ورؤيته إلى المرأة، فإن حياته تكاد تخلو سوى من العلاقات العابرة، علاقات واقعية يفضّل عليها علاقته مع شخصيات الروايات التي يقرؤها، فهذه الأخيرة أغنى وأقرب إلى شخصيته الوادعة والمسالمة، لذلك فأصدقاء الواقع- كما يقول- لا يزيد عددهم عن عدد أصابع اليد الواحدة.
تقتصر الرواية على اهتمام "القارئ" بالرواية فقط، وهو قارئ روايات أساسًا، أمّا لماذا الرواية، رغم أن "الحياة ليست رواية" بحسب العنوان الرئيس؟ فهذا شأنه وشأن المؤلّف، لكنها لا تخلو من الالتفات إلى الشعر والشعراء، بودلير ورامبو، ولكن يغيب عنها الشعراء العرب الذين لا بدّ أنّ القارئ قرأهم، أدونيس ودرويش مثلًا. وحين يحضر شاعر عربي معاصر، يحضر من خلال المقارنة بين أراغون والسيّاب في قصيدته الشهيرة "أنشودة المطر"، والأهمّ أن الرواية تلتفت إلى الشعر الجاهليّ من خلال قصيدة قيس بن الملوّح الشهيرة:
أَمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى
أُقَبِّلَ ذا الجِدارَ وَذا الجِدارا...
ويستعرض "القارئ" مع جوسلين هذه القصيدة بترجمة المستشرق الفرنسي ميكال.
أخيرًا، فإن عبده وازن لا يكتب سيرة ذاتية، بل هو يكتب جانبًا من هذه السيرة، هو الجانب المتعلّق بثقافته وقراءاته. قراءات تشمل الكتاب والزمان والمكان أيضًا. ولكي يُخرج المؤلّف- عبده وازن- نفسه من الطابع "السِّيريّ" لروايته هذه، تشهد الصفحات الأخيرة من هذه الرواية، ظهور "القارئ" في علاقة جديدة مع روائية شابة تدعى رنا، وهو يحكي لها عن رواية له قيد الكتابة، فتقترح عليه أن تأخذها وتعرضها على صديق لها "شاعر لكنه يكتب الرواية يُدعى عبده وازن". فيعدها بإعطائها المخطوط عندما يكتمل. ولا يلبث أن يخبرها أن روايته هذه هي "شبه رواية"، وشيء قريب من "السيرة الذاتية". وبعد لقاء عاطفي وجسديّ حميم، يجلس ليتأمّل في صورتَي صديقته وصديقه جوسلين وجوزيف، ويغفو... لتنتهي الرواية نهاية مفاجئة وخاطفة.
وإذ كنّا مع حياة ليست رواية، بل حياة صاخبة لشخوص غرباء عن الواقع، لكننا مع رواية تضجّ بثقافة الحياة، وحياة الثقافة، فالحياة لا تستوعبها رواية واحدة، ولا آلاف الروايات التي كُتبت على مرّ الأزمان، بل إن كلّ شخص في هذه الحياة هو رواية قائمة بذاتها، وشخصية "القارئ" وحدها تتطلّب المزيد من الإلمام بقراءاته كلها، لا بقراءاته من الرواية وحسب. وجدير بالانتباه أيضًا توزّع البطل/ القارئ بين تيّارات فكرية وأدبية وعلميّة شتّى. وهذا موضوع يستحقّ قراءة مختلفة تليق باختلاف هذه الرواية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.