تلك الكسورات في الضحكة، وذلك العذاب مع التلويح، وانتظار النهايات، لربما تغرق المرء في مربع الشعر أخيرًا.
في مجموعتها الشعرية "سيرك" الصادرة عن دار النهضة العربية للنشر والتوزيع، 2025؛ تفكك الشاعرة اللبنانية نور خليفة الذات كأنها أنقاض يصعب إزالتها، وتحفر بخوفها على الحائط. حيث تجتهد كمن يفتح بابًا في سياج آيل للسقوط، وتحرّك يدًا جديدة في الكادر، بعد هجران طويل للصورة. إذ أن خليفة لا تأخذ القارئ إلى القصيدة، بل إلى لحظة ما بعد الانفجار، حين يُصبح الجسد شاهدًا بلا وجه. لا أعلم من أين تُمسك بالعالم، لكنها تفعل، وتصرخ بهدوء:
"كلّ الأيدي قتلت،
أقصى ما فعلته يدي، التلويح".
كدمات
القصيدة عند خليفة ليست حيلة، ولا تحفة لغوية، إنها كدْمة، لون يشبه الخيال على شاشة بيضاء، لا تتوقف الأسئلة عن التقطير منه. تفعل الشاعرة ذلك على مدار 106 صفحات من القطع المتوسط.
إذًا هي ليست شاعرة تقف في منتصف الطريق بين المجاز واللغة العادية، بل تمشي في درب وحدها، وتخط بأيديها على جلدها كل شيء تشعر به أو تراه.
تلبس جسدها كأنه قميص قديم، وتكتب منه، لا عنه. لا تلمّع الموت، ولا تستجدي الحياة. تراقب الحرب كما لو أنها متخفية، تنظر من ثقب صغير، تقولها كما هي:
"الحرب كما القسوة،
تحوّل ضحكة إلى عظْمة".
في كتابها، لا تبحث عن لغة بليغة بقدر ما هي صادقة، تمضي على إيقاع مسرحي، نعم المسرح الذي يجبر الجميع على الصمت والبكاء.
الكلمات قصيرة، والعبارات مصقولة كحجارة نهر، لا لمعان فيها، فقط صلابة التجربة.
تتحدث عن أشياء بسيطة: كوب فارغ، ملاءات السرير، فراشة، سيارة... لكن هذه التفاصيل اليومية تُكشّر في النص، تصير وحوشًا صغيرة تحرس الخوف. تقول:
"لا أخاف المرتفعات الشاهقة
يُخيفني كوبٌ فارغ
الصُّحونُ البيضُ".
لغة صافعة
ليست اللغة عند خليفة وسيلة للتجميل، بل فضيحة صارخة. لا استعارات زائدة، لا موسيقى زائفة، لا سطر يريد أن يُدهشك، لكنه المعنى الكلي يفعل ذلك.
النص متقشف، واقعي، قاسٍ... تمامًا كالقلب بعد الخيانة، أو كوجه ناجٍ بعد القصف.
لا تحاول خليفة أن تخلق "قصيدة ملحمية"، بقدر ما تكتب لتنجو. لعل هذا هو الفارق بينها وبين جيل من الكتّاب الذين يلهثون خلف المجاز وينسون أن اللغة، أحيانًا، يجب أن تكون صافعة، غير مهتمة لبريستيج اللغة.
نقف في نصوصها أمام سؤال كبير عن "الهشاشة"، لا بصفتها ضعفًا، بل كثافة منسية. في مكانٍ ما، تقول:
"أمي هشة مثلي"،
ثم: "حين تحطم قلبي"،
ثم: "أيها البحر، ابتلع فتاتك المالحة، أدخلها جوفك الكبير".
من يفهم التفاصيل أكثر منك؟
الذات هنا لا تطلب الإنقاذ، ولا تصرخ، بل تُقدّم ضعفها كقميص جديد لزمن يتجه نحو النهاية في كل مرة. إنك في هذا العالم لا تبحث عن خلاص، بل عن وضوح، هذه هي طريقة قصيدة النثر، من يفهم بالتفاصيل أكثر منك؟ أعط هذا السؤال لشاعر، وستعرف ما هي حقيقة العالم.
أن تقول الأشياء كما هي: تحطمت، انزلقت، سقطت، خفت... وهذا في ذاته، موقف فلسفي صارم، ضد جميع أشكال الإنكار.
في نص آخر، تكتب الشاعرة:
"كي لا تنزلق مني السيارة، كما انزلقت مني أشياء كثيرة،
أُمسك الأشياء بشدّة، ليس طمعًا ببقائها، بل خوفًا من أن يتحطم وجهي".
هنا كلّ شيء يُكشَف دفعة واحدة: اليد، الوجه، الخسارات، وسؤال البقاء. لا شيء ثابتًا في هذه الكتابة، كلّ شيء منزلق، واللغة تتبع هذا الانزلاق، لا تُقاومه.
لا شيء ثابتًا في هذا العالم، اليد أضعف من أن تحمل طمأنينة الإنسان، وهل من مكان يتحمل هذا؟ أشك.
منزلقات كبيرة في الطريق، هل أنت جاهز لتعبر قصيدة لامرأة تعاني من الهشاشة؟
إنها طريقة القصيدة، طريقة المرأة في استدراج الخطوة، لتخلق العالم في سيناريو مسرحي لا يتوقف العالم عن التصفيق له، إذا كان على المرء أن يقطع يديه قبل أن يذهب إلى المسرح.
الأسئلة بين أصابع تصفق، مثل مسامير، تؤلم مع الوقت والحشر والتلامس.
نصوص نور خليفة تسير على خيط ممدود بين الحياة والموت، ولا تُخفي ذلك. بل على العكس، تحتفي به، كأنها تقول لنا:
"لست ميتًا، لكنك هنا للأسف، تشاهد موتك".
هذه العبارة تكفي وحدها لتلخيص المشروع الشعري بكامله. ليست مجازًا، بل تصريحًا وجوديًا. إنك موجود، نعم، لكن لا أحد وعدك أن هذا الوجود سيشبه الحياة.
لا أحد يمضي إلى نهايته وهو يعلم، أننا ننسى أننا نمضي من الأصل.
إشكاليتنا في التلاعب بالسرعة، كل شيء يدعي البطء بالرغم من سرعته خلف الستار، هكذا يعمل نص خليفة، مثل وردية عمال بعد منتصف الليل.
فقرات ألم يومية
في ديوان "سيرك" تختار الشاعرة عنوانًا يفضح كل شيء. نحن في ساحة، والعالم يشاهدنا نؤدي فقرات الألم اليومية. لا أحد يضحك، حتى المهرج منهك.
الصمت في المكان المفتوح، لا أحد يصرخ، لكن تبقى الكوادر تتلاطم بفعل العاصفة، تلك التكسرات التي تحدث في الخفاء لا يسمعها أحد، لكن شاعرًا يهتم بتفاصيل الخراب، يمكن وضع العالم كله في قصيدة، هكذا فعلت نور خليفة بالنهايات.
تكتب:
"بكيت
على النهاياتِ السعيدةِ للأفلام،
على نهاية خدمةِ جابي الكهرباء،
على نهاية لعبةِ الدُّوران في مدينة الملاهي
على نهاية الحرب.
ربما انتظرتُ من النهاية شيئًا آخر
كما من كل شيء
أن لا تكون نهاية
أو أن تُغلقَ بيدي منذ البداية".
كل حركة في النص تشبه تلك القفزة التي يقوم بها لاعب السيرك، فوق الحبل، دون شبكة حماية. لا لأنها شجاعة، بل لأنه لا خيار آخر. ربما لهذا اختارت "التلويح" لا "الانتصار" كفعل للنجاة.
هنالك في كتاباتها صدى لتجارب شعراء أميركيين، مثل W. S. Merwin، الذي قال ذات مرة:
"لقد انحدر العالم إلى الخراب والدمار،
بيد الإنسان، وكل ما كان يمكن أن يكون".
وهذا بالضبط ما تقوله نور، لكن لا على هيئة حكمة شعرية صارخة، بل كدمعة ملتصقة في وجه القارئ، إنها تحرقه مع الوقت، يحتاج لحك جلده لتغيير حالته.
ميروين ينظر من فوق الركام، أما نور فتعيش تحته. لا تقرأ الخراب، بل تتحسس غباره بيدها، كمن يريد أن يبني عالمًا جديدًا من مسحوق ناتج عن التجربة.
تبحث خليفة عن معنى لما يحدث، لأنها لا تتصور أن يكون العالم للعالم هذا الفضاء، إنها ترى في الفضاء جلدًا لمعنى آخر خلفه، وهذه إحدى وظائف الشعر.
هنالك شاعر يكتب ليخبرنا أن العالم جميل، وأن الحب كفيل بإنقاذنا، لكن خليفة تقول ببساطة: هذا العالم مكسور، والحب عاجز، واللغة خائنة أحيانًا، لكننا رغم ذلك، علينا أن نكتب، ليستمر العالم بالشعور بنا.
كأننا، بالكتابة، نرسم التلويحة الأخيرة قبل أن يسقط كل شيء.
لا يمكن التعامل مع "سيرك" كنصوص شعرية فقط. بل كمكان. كغرفة مليئة بالهواء الثقيل، بالشواهد، بالضحك المهزوم، بالصمت بعد الصدمة. هذا الكتاب ليس شيئًا يُقرأ فحسب، وإنما غرفة قابلة للسكن لمعرفة وجهة أخرى لرؤية الخيال على جدران قديمة.
راودني سؤال بعدما فرغت من الكتاب: هل يمكن تحسس التجربة؟
هنا إعادة تعريف للتساقط والتحلل من كافة الاستعارات التي يمكنك حفظها، هنا أنت كتجربة، لا شيء آخر، لا شيء يُنقذك سوى أن تلوّح، كما أرادت الشاعرة.