}

صمتُ حارس تماثيل المتحف البغدادي

عبد الزهرة زكي 23 نوفمبر 2017
آثار صمتُ حارس تماثيل المتحف البغدادي
دبابة أميركية عند المتحف العراقي

لا أدري الآن لماذا كان سائقُ التاكسي قد تحدّث لي عن الصمت.

كان يريد أن يثني على قيمة الصمت، ولا أحسب أن حديثاً جاداً كهذا من الممكن أن يحصل بين سائق وزبون عابر من دون مناسبة يكون معها حضور معنى الصمت وقيمته مبرراً. أعرف هذه النتيجة غير أني لا أستذكر داعياً معقولاً حصل ما بيننا ليجري بموجبه تكريس جانب أساسي من الوقت، بل الوقت كله، لحديث متقطّع عن الصمت طوال المسافة بين بيتي في حي أور في أحد أطراف بغداد وحتى وصولنا، أنا وزعيم النصار، إلى ساحة الميدان في قلب بغداد مع السائق في سيارته (سايبا).

لكن الشاب السائق الذي بدا في نهايات الثلاثينيات كان صموتاً فعلاً، وكنت أنا الذي يستحثّه على الكلام، وعن الصمت حصراً. إنها واحدة من المرات النادرة التي أصادف فيها من هو أشدّ ندرةً مني بالكلام بحيث بدوتُ معه فضولياً وثرثاراً.

كنت أتفادى أيَّ عمق متوقع في مثل هذا الحديث. كثيراً ما شكّل الصمت اهتماماً استثنائياً في الجهود الفكرية والتأملية لفلاسفة وحكماء لكن الصمت ظل سلوكاً وحياةً لملايين البشر الذين لا تدخل الفلسفة والحكمة في وارد تفكيرهم وإن كان بينهم من أثّرت فيه مقولاتٌ لحكماء وفلاسفة عن ضرورة الصمت وجدواه تأثيراً ربما غير مباشر، كان باسكال، الفيلسوف الفرنسي، يقول: (شرُ الإنسان كلُّه نابع من علّة واحدة؛ عجزه عن الجلوس صامتاً في غرفته).


 الصمت غير السكوت

لقد بقيت أعمل على أن أعرف كيفية وصول هذا الشاب إلى هذا الموقف الذي يمتدح بموجبه الصمت وما إذا كان فعلاً يلتزم به ويستفيد منه في حياته اليومية. كان يعرف شيئاً عن اليوغا، ويعرف تفاصيل متواضعة عن جانب من ديانات آسيا وتقاليد شعوبها، لكن هذا لم يكن من دوافعه لتفضيل الصمت واعتماده والركون إليه، كما أوضح هو لنا ذلك في ثنايا الكلام الذي تحدث فيه بجمل مقتضبة عن معرفته بأن اليوغا تساعد البشر الذين يمارسونها على الصمت وعلى الاختصار في كل شيء وليس الصمت تحديداً. لقد كان تعرّفه على تلك الثقافات نتاجاً لاهتمامه السابق بجدوى الصمت.

لاحظنا أنه لا يبدأ بالكلام؛ في جميع مواضع حديثنا معه؛ لم يكن هو من يبادر لبدء الكلام، أو استئنافه من بعدما كان ينقطع في بعض المواضع. إنه يسكت وقد يصمت فعلاً ويواصل عمله غير ميّال لأيّ فضول فلا يتنصت إلى الحديث حين يكون في ما بيننا أنا وزعيم. لم يكن يعود إلى الحديث إلا مجيباً على سؤال أو معلّقاً على ملاحظة من واحد منّا كلما توجهت إليه الملاحظة أو الاستفسار. المرات التي كان يتحدث فيها، وبرغم الاقتضاب دائماً في كلامه، لم تعبّر عن طبيعة متثاقلة في شخصيته؛ لم تزعجه الأسئلة التي تعيده إلى الكلام، فيما لم يكن صمته هو مزعجاً لنا.. الصمت المزعج هو السكوت، والعربية تميّز بين الحالين، حال الصمت وحال السكوت، السكوت امتناع عن الكلام بفعل بلادة أوعجز عن التعبير، أو خشية. لكن الشاب السائق كان قادراً على التعبير عن أفكارٍ قد تكون بسيطة لكنها منتظمة في عقله وواضحة في الصياغات التي يقدمها بها، يختصر، إنّما بطلاقة في التعبير، طرافته في تعليقاته كانت كافية للتعبير عما هو عليه من شخصية انبساطية تتمتع بقدر واضح من الذكاء وبكثير من الطيبة ومن الاحترام الذي بدا معه أنه قد خمّن طبيعةَ اهتمامات وربما عمل الراكبّين اللذين معه في سيارته واللذين كانا يستفسران منه ويصغيان إليه أكثر مما يعلقان به على كلامه. لقد استنتج أننا ذاهبان إلى جمعة شارع المتنبي ببغداد، وخمّن أننا معنيان بالكتابة. في ثنايا الحوار ما بيننا تحدث لنا عفو الخاطر عن هذين الاستنتاج والتخمين وكما لو كانا بديهتين.



  حكمة التماثيل

لم أندفع إلى أبعد من الحدود البسيطة وأحياناً غير المباشرة في طبيعة الأسئلة التي أردت بها معرفة طبيعة صلته وتصرفه بالصمت، لكن بعدما عرفت أن الشاب حاصل على شهادة جامعية في اللغة العربية تيسّر لي أن أكون أكثر جدية في الحوار؛ إن طبيعة الإجابات عن التجربة العملية، عن تجربته التي عاشها مع الصمت، كفيلٌ بالتعبير عن طبيعة معرفته الصمت.

ـ لقد تعلّمت الصمتَ من التماثيل؟

ـ أي تماثيل؟ هل أنت نحات؟

ـ لا، لست نحاتاً. أقصد تماثيل المتحف الشعبي البغدادي؛ عملت هناك لسنوات قبل أن أظفر بوظيفة مدرّس في ثانوية قريبة من محل سكني، وهي وظيفتي الآن التي أدعم حياتي الإقتصادية خلالها بهذا العمل الآخر سائقَ تاكسي كما ترى.

كان السائق، كما أوضح لي، قد عمل لسنوات حارساً في المتحف، وكان هذا أثناء ذروة سنوات العنف في بغداد بين عامي 2004 و2008. كان المتحف شبه مغلق، وكان مرتادوه قد تناقصوا وربما امتنع المتحف بقرار أمني في بعض السنوات عن قبول الزائرين إلى الحد الذي بدأ يغلق أبوابه منذ ساعات منتصف النهار مع انصراف موظفيه والعاملين فيه. إنه في واحد من أخطر أماكن العنف في العاصمة بعدما سقطت منطقة الفضل القريبة منه بأيدي الإرهابيين بينما كان شارع حيفا الذي لا يفصله عن المتحف سوى نهر دجلة مكاناً لاشتباكات كثيرة بين قوات الأمن من طرف وجماعات إرهابية تخفّت بين سكان مدنيين من طرف آخر. لقد كان المتحف بين نارين.


إحراق المكتبات

خلال هذه السنوات حصل التفجير البشع في شارع المتنبي على بعد أمتار من المتحف الشعبي البغدادي فأحرق أعرق أكبر مكتبات المدينة وأشهر مقاهيها الثقافية وأودى بحياة العشرات من الباعة والكتبيين، وعلى مبعدة أقل من كيلومتر كانت مصارف بغداد الأعظم قد شهدت اعتداءاتٍ كثيرةً في السنوات نفسها. الحرائق والتفجيرات أخذت الكثير من سوق الشورجة القريب من المتحف، ففي هذه المنطقة التجارية المكتظة عادةً في ظروف السلم بالتجار والباعة والحمّالين والمتبضعين من مختلف مدن العراق تعطلت الحياة تماماً وأغلق كثيرون محالَّهم بينما كان المضطرون على مواصلة عملهم لا يقوون على مواصلة ذلك لأبعد من الساعة الواحدة ظهراً، حيث تسلم الشوارع نهارها لصمت عميق بينما يهيمن الخوفُ المطلق على الليل هناك.

وبين صمت النهار وخوف الليل كان السائق الذي يتحدث لي يعمل في تلك السنوات حارساً في المتحف، يمضي ساعاته مع التماثيل. ينفضّ القليل من الموظفين المواظبين على الدوام بمثل تلك الظروف، وينصرفون مبكّرين إلى منازلهم. يتلقى الحارس أمراً بإطفاء الضوء في داخل المتحف وأمراً آخر بإحكام إغلاق الأبواب التي لن تفتح إلا مع صباح يوم جديد، فيظل وحيداً في الداخل من المتحف.

في صباح هذه الجمعة التي نمضي فيها نحو شارع المتنبي تكون الشوارع عادةً خالية من فوضى الزحام اليومي حتى أن بعض مناطق السير التي تُغلق لحماية دور العبادة وصلاة الجمعة فيها قبل ساعات من أوانها لم تأخذ من وقت السير كثيراً. ومع تيسر الوصول فقد أخذتُ أخشى سرعة بلوغنا (المتنبي) قبل أن أفهم من السائق ما كان قد حصل له. يواصل هو الحديث، وقد أخذ يبطيء في حركة السيارة ليتاح الوقت الكافي لسرد قصته مع التماثيل والصمت.


الإصغاء إلى الصمت

إنه لم يشعر يوماً بالوحدة في ذلك المكان المتحف. فبعد قليل من انصراف الجميع إلى منازلهم يبدأ بتجواله وزياراته اليومية لتماثيل المتحف؛ (كنت أزور بغداد القديمة في كلّ مرة أكون فيها مع واحد من التماثيل.. كنت أتفاجأ بنفسي بعد حين وأنا أتحدث لتمثال أكون قريباً منه، يصغي هو إليّ، ثم أعود فأسأله ليجيب، وكنت أصغي لما يقوله صمت التمثال. أسمع الصمت فأرى حياةً أخرى غير هذه الحياة التي تحترق في كل حين هناك في الخارج من المتحف).

لم يكن الحارس يمارس لعبة الإيهام. كان يتبادل بغداده التي يعرف مع بغداد التي عاشتها تماثيل شخصيات حياة القاع البغدادي في سنوات لم تعد قريبة. في خارج المتحف، في الحياة اليومية البغدادية المهدّدة كل حين أنذاك بات معظم البغداديين يتشبّث كلٌّ منهم بصورة لبغداد عرفها بها وعاشها، إنها صورة زمنه الشخصي، زمن يرى فيه الأشياء والعلاقات والتقاليد وكأنها المثال القياسي.

المدينة نفسها وقبل عقود، كانت قد وضعت لنفسها صورة، لكنها جعلت من هذه الصورة متحفاً، إنه المتحف الذي كان سائق التاكسي يعمل فيه حارساً.


 زمن الحارس وزمن التماثيل

يمارس المتحف الشعبي دوراً استعادياً؛ إنه يضع حياة بغداد في زمن معين وبتقاليد وعادات معينة من تلك الحياة. يريد المتحف لناس بغداد الأحياء ولزوار المتحف الآخرين من غير البغداديين أن يتوقفوا عند ذلك الزمن البغدادي.. لكن الرؤية لذلك الزمن ستكون مستحيلة من دون المرور إليها من هذا الزمن الراهن لأيِّ مشاهد ، زمن مشاهدته معروضات المتحف. وبهذا يحضر التقابل دائماً بين زمنين؛ الحاضر والماضي، زمن الحارس وزمن التماثيل والمعروضات.

منذ تأسيسه بقي المتحف الشعبي البغدادي مكاناً أثيراً عند البغداديين وهو المتحف الأكثر استقطاباً للزائرين من عراقيين وسيّاح عرب وأجانب، ودائماً كانت فكرة البغداديين عن زيارتهم لهذا المتحف هي العمل على مقابلة راهنهم بما كانت عليه حياة سلفهم القريب. هذا واحد من دواعي تأسيسه ربما، إضافة إلى مبدأ حفظ الموروث الشعبي للمدينة من النسيان والزوال..

لم أكن من عائلة بغدادية. جاء والدي من أرياف العمارة إلى بغداد نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، واشتغل حيناً بمعمل لصناعة الصابون كان يملكه يهودي عراقي قبل أن يهاجر أو يهجّر (لست متأكداً) ويغلق المعمل، حيث ما لبث والدي حتى غادر بغداد بعد سنوات إلى البصرة ليعود منتصف الستينيات، بعد ما يقرب من عشرين عاماً، إلى العاصمة بعائلة كبيرة لم تعش الحياة البغدادية التي يستعيدها المتحف من زمن سابق لزمننا في بغداد. لكني زرت المتحف للمرة الأولى حين كنت طالباً ثانوياً، ولم تكن قد مضت سوى سنوات قليلة على قدومنا إلى بغداد من البصرة. لقد شُغلت حين تلك الزيارة بالتأمل في الحياة البغدادية المتحفية منظوراً إليها من لحظتي السبعينية تلك في المدينة التي غيّرت الحداثة فيها الكثير من الطبائع والتقاليد والمعاملات ونُظم العيش.  


 
كيف لم تصطبغ الشوارع بلون الدم؟

يؤكد سائق التاكسي (سايبا) في حديثه معنا أثناء الطريق إلى ساحة الميدان فشارع المتنبي أنه، وهو يأتي إلى حراسة المتحف في سنوات العنف من منزله في شرق دجلة، يكون قد مرّ في معظم الأحيان ببعض مشاهد العنف اليومي في بغداد؛ سيارة مفخخة أو انفجار عبوة ناسفة ما زالت النيران تتصاعد من سيارة احترقت جراءها بمَن فيها، سيارة مسلحين تطارد سيارة مدنيين بقصد تسليبهم أو اختطافهم، عجلة بيكاب تحمل جثثاً تكوَّمت على بعضها فيما يسيل أكثر من خيط للدم من مؤخّر السيارة على إسفلت الشارع، (أعجب كيف بقيت الشوارع سوداء لم تصطبغ بلون الدم من فرط ما سالت عليها من دماء) يقول، ويكاد يختنق بما يقول.. عجلات أمريكية مدرعة توقف عشرات السيارات المدنية لتطمئن وتمرّ هي بسلامٍ في شارع يجب أن يكون خالياً لها، نقاط تفتيش وهمية تظهر هنا وهناك يديرها مسلحون وتختفي فجأة بعدما يختطفون خلال (نوبتهم) من يجعله سوء حظه بين أيديهم.. إنه العنف المعيش أو المتوقع في كل لحظة يغامر فيها المرء فيكون في شارع عام. زمن الطريق هو زمن كوابيس؛ أمنية واحدة للنجاة في مواجهة احتمالات كثيرة للموت. ينتهي الطريق بين منزل السائق والمتحف وتنتهي معه كوابيس يوم. فما إن يكون الحارس في المتحف حتى يكون في المكان الأنأى عن يوم بغداد الراهن، إنه في يوم خمسيني أو أربعيني وربما ثلاثيني من قرن مضى.

(كنت أشعر بالسلام في المتحف، بين الكائنات التي تحيا يومها بعفوية وبشراكة اجتماعية تؤمّن الاطمئنان والألفة في حياة قد تكون صعبة في حينها، لكن الناس فيها اتفقوا على أن يجعلوا منها حياة يسيرة ببساطتها وعذبة بعفويتها ورائقة بسلامها)، هذا ما يعبر عنه السائق الحارس، وهذا ما يقوله له صمت التماثيل في المتحف، وهو يقوله لي في الطريق إلى جمعة شارع المتنبي القريب من المتحف نفسه.

لم يكن المتحف، كمكان، بمنجى عما يحدث حواليه، لكن زمن المتحف، زمن التماثيل هو الذي ينأى بالحارس عن زمن بغداد الراهن.


  مطمئناً إلى ظلام ليله

كان يُخشى على المكان من أن ينال منه صاروخ يستهدفه مباشرةً أو مما يسقط عشوائياً، وكان احتمالُ انفجار سيارة مفخخة وارداً في كل حين، وكانت الخشية من جماعة إرهابية قد تقتحم المتحف وتحطّم ما فيه هي أيضاً احتمالاً يثير الخوف، سوى هذا ثمة عصابات السرقة والنهب وقد باتت أفعالهم من الجرائم العادية. لكن حياة الحارس مع زمن المتحف وزمن المعروضات هو وحده ما يحيل إلى السلام ويجعل الشاب الحارس مطمئناً إلى ظلام ليله وقسوة وحدته هناك بين تماثيل وشوارع وأزقة بغداد القديمة.

على ضوء فانوس زيتي في غرفة جانبية صغيرة من غرف المتحف المهملة يحيا الحارس.

الحياة في الغرفة اقترنت بالنوم لساعات قليلة ولدقائق يتناول أثناءها ما يأتي به من طعام يعدّه في البيت قبل أن ينهي الوجبة بكوب شاي.

لم يقرأ من الكتاب الذي استله من مكتبة المتحف سوى أسطر ظل يعيدها في كل مرة، وفي كل مرة من تلك المرات يطبق الكتاب ويغادر الغرفة في واحدة من تجوالات لا يريد لها أن تنتهي بين المعروضات؛ في غرفها الضيّقة بأزقة متخيلة من أزقة بغداد القديمة، إنها أزقة وضعها رسامون ونحاتون وحرفيون كثيرون. إنه يجد الحياةَ حيث حُفظت الحياةُ في التماثيل والمشاهد وليس في كتاب.. فمعظم ساعات النهار والليل، وقد تماثلت بظلامها أثناء وجوده وحيداً وراء أبواب مغلقة ومصابيح مطفأة، عادةً ما كان يقضيها متجولاً بين التماثيل والمنحوتات الأخرى، مستعيناً بمصباح يدوي صغير على حركته في الظلام وفي وقوفه أمام واحد من مشاهد الحياة اليومية البغدادية الخمسينية كما ثبّتها النحاتون والمصممون وموثّقو فولكلور المدينة.


 فائض الكلام

مع تكرار الجولات يبدأ الرجل بالتخلي عن عادة الكلام مع تماثيل يحرسها، يبدأ بالارتياب من فائض الكلام: (تساءلت وتحدّثت كثيراً، حتى عدتُ إلى نفسي لأسألها: ما معنى تكرار الأسئلة والأحاديث؟)، إنه يبدأ بتعلّم الإصغاء، ولعل الأهم في هذا التعلم إنه يحصل ليس بمواجهة كلام، وإنما هو بتخاطره مع صمت مقابل وإجادة الإستماع إلى هذا الصمت. الثرثرة في الكلام سيقابلها في السوء الندرة في الإصغاء. ما لم ندرك قيمة الصمت لن ندرك معنى الكلام، وقيمة الصمت هي في معانيه غير المقولة بكلام، تلك المعاني التي يقولها الصمت. في كتاب (الصمت في المسيحية) للدكتور لويس صليبا تقديم مهم وضعه الأب الدكتور جوزف قزي، وفي هذا التقديم يرى الأب قزي أن الصمت قد يعبّر أحياناً عن الكلام أكثر من الكلام نفسه.

(بدأت أشعر بتبرّم التماثيل من الظلام الذي أضعها فيه)، مصباح واحد يكفي لتبديد تلك الظلمة ولتوفير الضوء لفِناء المتحف حيث تلتئم حواليه التماثيل. يخاطر الحارس بتجاوز التعليمات فيشعل مصباحاً كلما كانت الكهرباء متاحة في ذلك المبنى البغدادي الذي أراد الاحتفاظ بالفوانيس الزيتية انسجاماً مع زمن المعروضات.

في ظروف العمل الطبيعية للمتحف في حياة الأمن والسلام يجري التحايل على ضوء المصباح الكهربائي بتحويله إلى ضوءٍ يبدو متولداً من فانوس زيتي، بينما في تلك اللحظة التي يعمل فيها الحارس تحت تهديد عنف متوقع في كل حين تتأكد الحاجة إلى ضوء المصباح الكهربائي. الصمت هنا في جانب أساسٍ منه هو سكوت، توقفٌ، بإكراه، عن كلام، لكن وقد امتد السكوت فقد استحال صمتاً. الظلام والصمت لا يتوافقان.

في ذلك الضوء الشحيح تتولد قيمة أخرى للصمت الموحي.


حلقة دراويش بلا موسيقى

يمرّ الحارس بحلقة الدراويش؛ إنهم حاضرون بتماثيلهم، وهم في حلقة إنشاد ولكن من دونما كلام ولا موسيقى، حضورهم الصوفي يكفي للتعبير عن قيمة معنى الصمت الذي عدّه كبار المتصوفة ركناً أول من أركان أو مبادئ التصوف الأربع يسبق العزلة والجوع والسهر. لا أذكر الآن لمن من المتصوفة كان هذا القول: (الصمت إذا كان عن علم فهو أعلى من الكلام وأشرف، والكلام إذا كان عن جهل فهو أوضع من الصمت وأحقر) بينما كان جلال الدين الرومي يحب أن يؤكد على أن (الصمت لغة الله وكل ما عدا ذلك ترجمة ضعيفة). لكننا هنا، في حياة المتحف المهدّدة تلك، نكون بمواجهة صمت اضطرار. طبيعة عمل المتحف تقوم على مؤثّرات صوتية (لا تعمل بلا كهرباء) ترافق وضع التماثيل وطبيعة حياتهم وعملهم. تغيب الآن، في ظلام المتحف وخوفه، المؤثراتُ بأناشيدها وموسيقاها الصوفية وتظلّ التماثيل معبّرةً ما أمكنها فنُّ النحت عن لحظة وجدٍ يتحراها المشاهد في تفاصيل الأجساد وملامح الوجوه وبما يسبغ به المشاهد نفسه من رؤيةٍ هي الإصغاء للصمت الذي يهيمن.

يحصل هذا أيضاً مع (حفل الزفاف) الذي لا يكتمل من دون فرقةٍ موسيقى وغناء للمربّع البغدادي (فن غنائي شعبي بغدادي)، لكن في ليالي الخوف في المتحف تسكت (المربّعات) في ذلك الحفل، وتظل وجوه وحركات أشخاص المنشدين حيوية في التعبير عن لحظة مسرّة يكون الجميع منغمرين فيها في يوم زفاف بغدادي. والمفارقة هنا هي في تخاطر حياة المتحف مع الحياة العامة خارج المتحف، ففي المدينة وتحت وطأة العنف ومآسيه وأحزانه كفّت الأعراس والزفات عن استخدام الغناء والموسيقى، هكذا يتحدث صمت شخوص الزفة في المتحف للحارس الواقف أمامها مصغيا لذلك الصمت. الشارع في أحياء بغداد يستعيد في لحظة رعب وجفاف حياة الزقاق المتحفي التي تعطل فيها الصوت.

في إصغائه الإيجابي فإن سكوت التماثيل عن الكلام كان بالنسبة للمشاهد (وهو هنا السائق، الحارس سابقاً) صمتاً. قدرته على استنطاق التماثيل هو ما جعل من سكوتها الاضطراري القسري صمتاً موحياً. في الرواية (صمت البحر) يكون الصمت فعلَ مقاومةٍ سلبياً تبديه البطلة بمواجهة فاشي محتل، لكن الصمت هنا هو اختيار إيجابي، صلة بليغة من التخاطر الأليف بين التماثيل وحارسها.


 لم أتعلم جيداً فنّ الصمت

حين استأذنت سائق التاكسي الصامت حتى يسمح لي بكتابة ما عرفته عن تجربته في المتحف منه عبّر عن سعادةٍ بدت واضحة على محيّاه لكنها لم تخفِ حذراً صامتاً لم اشأ أن أقف عنده كثيراً ربما لرغبة أنانية كانت فيّ من أجل الاحتفاظ بالموافقة الضمنية وعدم التفريط بها فيما لو ندّت إشارة احتجاج من السائق.

كنا قد اقتربنا من ساحة الميدان من جانبها المحاذي لمبنى وزارة الدفاع (المبنى هو أيضاً كان لحظتها متحفاً صامتاً)، كان السائق قد بدا لنا، أنا وزعيم، يجنح إلى الصمت أو السكوت. كانت أصوات جنود يحرسون مداخل الساحة تتعالى وهي تستحثّ السائق للخروج والمغادرة سريعاً، وفيما كنا نهمّ بالترجل عن السيارة كان السائق يواجه صرخات الجنود، وقد اختلطت بأصوات باعة حاجات قديمة مبتذلة، بصمتِ مَن لا يسمع الصرخات ولا أصوات الباعة..

ودعناه، كان مبتسماً وهو يتساءل معتذراً: هل تكلمت كثيراً؟ هل أزعجتكم بكلام عن تماثيل لم أتعلم بعدُ منها جيداً فنَّ الصمت؟

قبل أن نفترق عرضت عليه موعداً نزور معاً فيه المتحف الشعبي البغدادي، ومن دون أن ينتظر ولو قليلاً أجاب بايماءة من رأسه بالاعتذار، وهدر محرك السيارة منطلقاً صاخباً.

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.