}

فلسطين المطرّزة بنجمة كنعان في سرديّة زهيرة زقطان البصرية

مليحة مسلماني 22 نوفمبر 2017

 

الولوج إلى عالم التطريز الفلسطيني يشبه الدخول إلى عالم ــ أبدعه الخيال الشعبي الفلسطيني ــ مفعمٍ بالجمال والرموز والألوانِ والحكايات عن الماضي والحاضرِ المتجذّر في التاريخ. وفن التطريز الفلسطيني، بألوانه وزخارفه وموتيفاته البصرية، استُلهم بالأساس من تاريخ وثقافة المكان الفلسطيني الذي جمع بين الروافد الحضارية والدينية والشعبية والوطنية في فسيفساء هويته، وبين حقول الزيتون والتين وكروم العنب، والصحارى والبحار والجبال في مشهديّته الجغرافيّة. في المقابل، يشبه الولوج إلى عالم التطريز الفلسطيني الدخولَ إلى حقل ألغام ــ
ـ ساحة معركة ثقافية فُرضت قسرًا على الفلسطيني، إذ لم تشمل محاولات الاستلاب الصهيونية تشويهَ الرواية حول التاريخ القديم لصالح أيديولوجيا المستعمِر فحسب، بل كانت أيضًا الأزياء الفلسطينية التقليدية المطرزة، وكذلك المأكولات الشعبية، إرثًا فلسطينيًا مغريًا لمحاولات التزييف والاستلاب الصهيونية[1].


تطلّ تجربة زهيرة زقطان في التشكيل بالتطريز كرواية بصرية تخوض معركة جمالية ــ ثقافية. لم تكتفِ الأديبة والشاعرة بالكتابة، ولم يروِ الشعرُ عطشَ الباحثة القلقة عن تاريخها الكنعاني وفيه، أو الرغبةَ الملحّة في نفض غبار التشويه والتزييف والثرثرة الكثيرة حوله. فإلى جانب إبداعها في القصة والشعر، مارست زهيرة زقطان باحترافية فنّ التشكيل بالتطريز على مدار أكثر من ثلاثة عقود، وهي إذ تشكل لوحاتها متخذةً الإبرة ريشةَ رسمٍ والخيوطَ ألوانًا، فهي تعنون بذلك هويةً مميزة لعالم بصري قائم ومنفرد بذاته وسط مشهد الفنون البصرية في فلسطين.





المخيم ــ مُبتدأ الأسئلة


تستلهم زهيرة زقطان فن التطريز لتخرجه من إطار الدور التزييني والزخرفي في الأزياء والأدوات الوظيفية، ولتحوله إلى لوحات تشكل رواية بصرية شاملة ومتكاملة تزاوج فيه بين الماضي والحاضر، وبين السياسي والجمالي، والديني والثقافي، والنصّي والبصري. لقد استلهم العديد من الفنانين الفلسطينيين من التطريز في أعمالهم التشكيلية، إذ أدرجوا موتيفاته وقطعه في لوحاتهم وفي أعمال فنية أخرى، إلا أن عالم زهيرة البصري ينتمي بإخلاص إلى التطريز وحده كتقنيةٍ تغطي بها مساحات القماش، إذ تتحرك الإبرة وتلحقها الخيوط لتشكل سرديّةً عن المكان وإنسانه محمّلة بالشجن والحنين والعناد.

الشعرُ والقصة والتشكيلُ بالتطريز كلها عوالم إبداعية تتقارب وتتداخل في تجربة زهيرة زقطان الإبداعية، وهي تنسلّ من عشقٍ وشغفٍ بحضارة كنعان على أرض فلسطين، ومن قلقٍ على الهوية لا يهدأ ولا يستكين؛ كانت البداية عند زهيرة الطفلة التي نشأت في مخيم الكرامة حيث تكبر الأسئلة وتكثر؛ حول بداياتها في رحلة الشغف والبحث عن الهوية والقضية والتاريخ، تقول زهيرة في كتابها الذي ما زال قيد التأليف حول الحضارة الكنعانية: "في المخيم تولد الأسئلة، في المخيم وُلدنا ووُلدت معنا أسئلتنا.. أسئلة لا تحصى.."، ثم تقول: "ولعلني بدأت من هناك؛ من مخيم العرّوب قرب الخليل حين كان يأخذني أبي في العطلة المدرسية إلى جدتي عائشة.. في حوش غرفتها في المخيم لحظة تخرج النساء من حرارة الغرف الإسمنتية ويفرشن حصائر القشّ وتُخرج كل واحدة قماشتها وكيس خيوطها الملونة وبالإبرة يرسمن عرق النجوم؛ وأقمار المدن؛ أشجار السرو؛ وطيور الحمام؛ على أقمشة بيضاء وسوداء.. لأكبر وأنا أقيم في جذورِ أسرارٍ أفكّ رموزها ونصوصها وأرتب بها حروفي وحكاياتي ولوحاتي لأعيد لها ما مثلته ذات يوم..".


حضارةٌ تقودها الأنثى

يتشكل عالم زهيرة زقطان من ثلاثة عناصر أساسية هي: الشخوص والرموز من الحضارة الكنعانية مثل الآلهة عناة ونساء المعبد، بالإضافة إلى شخوص دينية أبرزها مريم العذراء، والعنصر الآخر هو الزخارف المستلهمة أيضًا من الحضارة الكنعانية، ثم تحضر النصوص والأشعار في معظم اللوحات والمقتبسة من النصوص الكنعانية والدينية ومن أشعار محمود درويش وغيره من الشعراء. تتزاوج هذه العناصر الثلاثة: الشخوص والرموز الكنعانية والدينية، والزخارف، والنصوص، لتكون في كل لوحة قطعةً من رواية أو من قصيدة طويلة عن فلسطين الإنسان والتاريخ والمكان.


تسرد إحدى اللوحات طقوس إعادة الإله بعل إلى الحياة، تستعين عناة بالشمس في رحلتها للبحث عنه، فتنير لها الشمس طبقات الموت المظلمة حيث يرقد بعل في سباته الطويل. يرافق عودة بعل إلى الحياة طقسٌ احتفائي وصلاةٌ تقام شكرًا للشمس، تظهر في اللوحة نساء المعبد يقفن على سطح تكوين زخرفي من طبقات تشير إلى حيث كان بعل، ومن فوقهن قرص الشمس المجنح ليؤدين طقس الاحتفاء والصلاة، وتضم اللوحة نصًا كنعانيًا يقول: "أنّى تذهبين أيتها الشمس.. وأنّى تتوجهين.. يحرسك إيل.. ستأكلين خبز الرِّفعة.. وتشربين خمر التَّقْدِمة.. أيّتها الشمس."





في لوحة يغلب عليها اللون الأخضر بتدرجات مختلفة، تحضر عناة في مركزية المشهد، تعتلي تشكيلًا زخرفيًا مستلهمًا من العمارة الكنعانية، وهو سور رُتّبت أعلاه قناديل مضاءة وتتوسطه بوابة طُرِّز فيها مقطع من قصيدة لمحمود درويش: "في القدس.. أعني داخل السور القديم..
أسير من زمن إلى زمنٍ بلا ذكرى تصوبني ..فإن الأنبياء هناك يقتسمون تاريخ المقدّس،
يصعدون إلى السماء ويرجعون أقل إحباطًا وحزنًا؛ فالمحبة والسلام مقدسان وقادمان إلى المدينة." أعلى البوابة يظهر قنديل على جانبيه فارسان متماثلان، كل منهما يشهر رمحًا ويمتطي حصانًا، في إشارة إلى الخِضر" أو القديس "مار جريس" وقصة دفاعه البطولي عن البتول وإنقاذ أهل القرية من التنين، وهي قصة غنيّة بالرموز الشعبية وحظيت باهتمام كل من المسيحيين والمسلمين الذين اشتركوا في طقوس الحج إلى القرية التي سميت باسمه "الخضر"، والتي تقع بين مدينتيْ بيت لحم والقدس. ويرافق اللوحة نصٌّ كتب بحروف الهجاء الكنعانية.


في لوحة أخرى تحضر مريم العذراء مكان عناة في ذات المشهد، ويتكرر حضور مريم وعناة في العديد من اللوحات التي تزاوج بين المكونات الثقافية والحضارية والدينية والشعرية في الهوية الفلسطينية، بينما تتمركز الأنثى ـ مريم وعناة ـ في وسط حضارة هذه البلاد على مرّ العصور، إذ هنّ يأتين بالمعجزات والديانات ويرمزن إلى الحب ويحملن البشارات.


خيوط الوصل ـ ذاكرة التحدي

تروي لوحة أخرى طقس الاحتفاء بالعنب أو مهرجان العنب في الحضارة الكنعانية، إذ شكلت كل من الكرمة والزيتون والقمح ثلاثية الحياة لدى الكنعانيين؛ مرة أخرى تحضر نساء المعبد وسط زخرفة تشكل أوراق وحبّات العنب، في حين يرافق الرسم مقطع من قصيدة لمحمود درويش: "سأصير يومًا كرمة.. فليعتصرني الصيف منذ الآن.. وليشرب نبيذي العابرون على ثريات المكان السكّريّ..". وفي معظم اللوحات التي تظهر فيها مقاطع من أشعار درويش، يلاحظ أن زهيرة زقطان تقتبس من قصائد الشاعر بعنايةٍ وقصديةٍّ مقاطعَ تحتمل المعنى الذي يكمل رواية اللوحة، لتحيلَ هذه المقاطع خيوطًا تصلُ بها ماضي البلاد والهوية بحاضرهما.


الرسائل المضمرة بين الخيوط على سطح القماش، تروي بعنادٍ الذاكرة التي تمتدّ خيوطها من بين طبقات الزمن لتشتبك بالحاضر الفلسطيني ثقافة وهوية، وهكذا يعلن عالم زهيرة زقطان البصري نفسه كتحدٍ جماليّ لا يكلّ ولا يملّ في مواجهة محاولات سلب شرعية الوجود الفلسطيني وتجذّره في أرض فلسطين؛ ذاكرة التحدي تلك هي ما قرأه إدوارد سعيد في أعمال منى حاطوم إذ يقول: "في عصر المهاجرين، واللاجئين، والمنفيين، وهروب المدنيين، عصر المذابح والمخيمات، ومنع التجوّل، وإبراز بطاقات الهوية، تُعتبر.. [أعمال حاطوم الفنية] بصفتها الأدوات العرَضيّة غير القابلة للمصالحة في علاقتها بذاكرة التحدي، هذه الذاكرة التي تواجه الذات دون هوادة وبالعناد نفسه الذي تواجه فيه الآخر الذي يطاردها ويقمعها، ولئن اتسمت.. [هذه الأعمال] بالتغيير المستديم إلا أنها ترفض لنفسها التفريط بالماضي الذي تكمن عليه بحيث تبدو في ذلك وكأنها كارثة مغفلة يتواصل حدوثها دون توقف ودون تملّق أو تبجّح أو عصف خطابي".[2]. ذاكرة التحدي هذه، تنطبق تمامًا على الرواية البصرية التي تسردها خيوط التطريز في أعمال زهيرة زقطان.




نجمةُ كنعان ــ أُمُّ الزخارف

التكوينات الزخرفية عنصر أساسي آخر في أعمال زهيرة زقطان؛ وهي تتولد كلها من النجمة ــ الرمز المقدس في حضارة كنعان والمرتبط بالدين والفن والتاريخ؛ لقد اختار الكنعانيون أول آلهتهم نجمة مميزة تدور حولها النجوم الصغيرة؛ تقول زهيرة عن هذا الرمز في كتابها قيد التأليف: "إنها نجمة الزهرة ــ كوكب الصباح ــ التي لا تغادر قبل أن يفك الليل عتمته ويخرج أول خيط ضوء من نهار جديد. كانت أول زخرفة في الفن الكنعاني والتي ستتسع وتمتد وتلد أشكالًا جديدة ترتبط بتعدد الآلهة التي ستساعدها في إدارة الكون، ولينتقل تأثيرها إلى الأرض لتكون قوتها فعالة أكثر. وعلى يد فتى كنعاني ستكون محفورة تضيء جدران المعبد نجمة بثمانية أضلاع، ستنتقل إلى ألواح الطين وتُشوى على النار كي تتصلب وتعصو على التلف، ثم إلى ألواح الخشب قبل أن تعتلي كتف الكاهن فيما بعد؛ ستمثل لديه الخصب في ولادة الأطفال وازدهار الحقول في علاقة بين المرأة والأرض؛ ستكون للحب والحرب وجمالية الفن في شكلها المثمن ثم في اكتشافه للنسيج والصباغ الأرجواني؛ سيرتديها الكاهن الأكبر دليلًا على مرتبته الدينية، وستحفر على توابيت الموتى الخشبية ليطمئن النائم فيها وهي تحرسه من القوى الشريرة وتساعده على موت هادئ..".


ومن النجمة، الأمّ المعرفية ــ الهندسيّة الأولى، تولّدت أشكال المربع والدائرة والمثلث، وهذا الأخير انتشر كتعويذة تحتوي على أدعية للآلهة، وكحجب تُعلّق على أسرّة الأطفال لتحرسهم من الأعين الحاسدة، وعلى أسرّة المرضى لتشفيهم، وعلى أبواب البيوت لتحرسها كما ترافق المسافر للحماية، ولا تزال الحجب الحامية حتى يومنا هذا عادة شعبية في المجتمع الفلسطيني. أما المربعات فتحتوي على زخارف متعددة وعلى أسماء أقمار ترتبط بالمدن التي تشتهر بارتداء الثوب التقليدي، كمربع "قمر رام الله" و"قمر بيت لحم" الذي تأخذ الزخرفة فيه شكل الصليب؛ تقول زهيرة: "وستسهر هذه الأقمار على مخدات الأطفال جوار طيور السنونو وأجنحة الحمام، وعلى المفارش وآنيات الكحل، تحيطها رسوم تسمى الريش قادمة من فكرة الأجنحة والضوء المشع حول النجمة في سمائها، ستدخل بما تحمل من معنى إلى أساطير كنعان وفي القصائد وأسماء الصبايا..".

الأنثى كعلمٍ في التاريخ الفلسطيني، ممثلة بعناة والعذراء ونساء المعبد والأمّ الفلسطينية، والنصوص الكنعانية الموغلة في القدم والمعنى، والزخارف المتولدة من النجمة الكنعانية كرمز روحيّ معرفيّ، والصليب والأجنحة وسعف النخل، والكرم والزيتون والطيور والأيائل، ومقاطع الشعر الدالة على التاريخ والهوية ومعركتهما على الوجود، كلها عناصر وتكوينات بصرية من ماضٍ ثريّ وجماليّ وحاضرٍ مأساويّ تصل فيما بينها خيوط التطريز في لوحات زهيرة زقطان، لتسرد بعنادٍ حكاية الفلسطيني ابن المأساة وابن التاريخ؛ تقول زهيرة في كتابها: "بعد الغزو الإسرائيلي وكأي احتلال احتُلَّت موروثات الشعب الفلسطيني من فنون وأدبيات وطقوس كنعانية كما المرة الأولى، ما أود أن أقوله: أن هذا الذهب موجود ويلمع بتاريخه.. نقي كالشمس.. ولا تزال أساورنا وقلائد الجدات هنا تتوارثها أعناقنا ومعاصمنا، وخواتمنا النحاس قرب عطرنا المقطر من ريحان البيت في آنية زجاجية أبدعها فتى كنعاني على شاطئ أسدود وغزة بصباغ أزرق، وما زالت الخيول تركض بفرسانها على عرق ثوب فلاحة فلسطينية طرزت طيور الحمام على كتف ثوبها".

 

[1]  هناك العديد من المحاولات التي قامت بها إسرائيل، وما زالت، هدفت منها إلى نسبة الثوب الفلسطيني التقليدي إلى نفسها وتعريفه للعالم على أنه "تراث إسرائيلي"، من ذلك تعمد مضيفات طيران الخطوط الجوية الإسرائيلية "العال" إلى ارتداء الثوب الفلسطيني المطرز. وتقول مها السقا، مديرة مركز التراث الفلسطيني في بيت لحم: "لقد خضنا حربًا لإعادة نسبة الثوب الفلسطيني إلى الفلسطينيين، ففي عام 1993 سجل كتاب الموسوعة العالمية للشعوب ثوب مدينة بيت لحم التقليدي، ثوب جدتي، على أنه الثوب التقليدي للإسرائيليين.. أرسلنا رسائل إلى القائمين على الموسوعة، أفرادًا وجمعيات، من بينها صورتي مع أمي وجدتي بالثوب. فأزالوا في عام 2007 الثوب الفلسطيني من الموسوعة كزي إسرائيلي تقليدي، لكنهم أيضا لم يصنفوه كزي تراثي فلسطيني..".

انظر/ ي: http://www.alittihad.ae/details.php?id=34621&y=2010

[2]  Edward W. Said, “The Art of Displacement: Mona Hatoum’s Logic of Irreconcilables”, European Institute of the Mediterranean IEMed., at:

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.